يحاول
الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل السيطرة على
الفلسطينيين في الداخل المحتل عام ١٩٤٨، وذلك لتسهيل محو الهوية الفلسطينية العربية
وسلخهم عن جذورهم وبالتالي تسهيل دمجهم في المجتمع الإسرائيلي؛ دون أي قدرة منهم على
مقاومة المشاريع التهويدية.
ومن بين هذه الوسائل؛ عمد الاحتلال إلى وضع يده بشكل
مباشر ومحكم على جهاز
التعليم الفلسطينيي في الأراضي المحتلة، بدءا من تعيين المعلمين
وصولا إلى التحكم بالمناهج للمدارس الفلسطينية.
مسح أمني
المحامي خالد زبارقة أكد أنه يكاد لا يوجد جانب من
جوانب حياة الفلسطيني في الداخل إلا وتتدخل فيه الأجهزة العسكرية؛ سواء بغطاء عسكري
أو مدني.
وقال لـ"عربي٢١" إنه حتى المدارس وتعيين
المعلمين والمدراء؛ وجهاز التربية والتعليم في المجتمع العربي يسيطر عليها جهاز "الشاباك"
أو المخابرات الإسرائيلية بشكل مباشر، مبينا أنه أمر هام في "أدلجة" إدارة
المجتمع بإدارة مدنية ظاهرها مدني ولكنها عسكرية.
وأوضح أن الاحتلال يتدخل كذلك في المناهج التعليمية؛
بحيث يصبح دورها تضليل الرأي العام بشكل واضح، لافتا إلى أن الجهاز الإداري الذي يدير
جهاز التربية والتعليم العربي يتم السيطرة عليه من طرف مخابرات الاحتلال.
ويتحدث زبارقة عن إجراءات معقدة وصارمة يتعرض لها
المعلمون الفلسطينيون في الداخل المحتل بهدف إبقائهم ضمن الدائرة المحددة التي ترسمها
مخابرات الاحتلال لهم.
وأوضح أنهم يتعرضون لمسح أمني ويتدخل "الشاباك"
في التعيينات الخاصة بهم؛ وقد يصل الأمر إلى أن يخسر المعلم وظيفته بسبب منشور ينشره
على صفحات التواصل الاجتماعي أو التفاعل مع صفحات يعتبرها الاحتلال صفحات قومية.
وأضاف: "تابعت مثلا ظاهرة معينة أن جزءا من
المعلمين يتم دعوتهم لجهاز المخابرات والتحقيق معهم حول قيامهم بوضع إعجاب على منشور
معين؛ وكأن كل هدف الاحتلال هو تأديبهم وترهيبهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن جهاز المخابرات يرفض توظيف
كثير من المعلمين".
قبضة محكمة
الكاتب والإعلامي حامد اغبارية يرى أن عنصرية الاحتلال
في قضية التعليم والمناهج في المدارس العربية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني تتم بوسيلتين
أساسيتين.
وقال لـ"عربي٢١" إن الوسيلة الأولى تتمثل
في السيطرة على منهاج التعليم، حيث أن وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية هي المسؤول
المباشر عن وضع منهاج التعليم رسميا وعمليا، وذلك من خلال لجنة وضع المنهاج التي يقف
على رأسها موظف يهودي يعمل في الوزارة، وأكثرية أعضائها من اليهود.
وأوضح بأن الأعضاء العرب يشكلون أقلية عددية، وكذلك
أقلية نوعية؛ ويجري اختيارهم من قسم الوزارة مباشرة، وهم عادة شخصيات تخدم الأجندة
الإسرائيلية؛ فالوزارة لا تقبل أعضاء في اللجنة من ذوي التوجهات الوطنية أو الإسلامية
الحريصة على ضبط منهاج تعليم يساهم في تشكيل هوية الطالب العربي.
أما الوسيلة الثانية فيقول اغبارية إنها تتم عبر
اختيار مضامين المنهاج بحيث تخدم الرواية الإسرائيلية من جهة، وتعمل على مسخ هوية الطلاب
التي تتشكل من اللغة والتاريخ والدين وانتمائهم الفلسطيني والعربي والإسلامي؛ وغسل
أدمغتهم من خلال فرض الرواية الاحتلالية على مضامين المنهاج، وتزيينها في عيون الطالب
الفلسطيني، بحيث تدفعه دفعا إلى الإعجاب بها، مقابل مضامين مشوهة عن تاريخه وعن دينه
تدفعه دفعا إلى النفور منها؛ بالإضافة للإهمال المتعمد للرواية الفلسطينية ولتاريخ
القضية الفلسطينية.
وأكد أن من تجليات العنصرية في هذا السياق رفض وزارات
التربية والتعليم المتعاقبة أي مطالب من جانب فلسطينيي الداخل لوضع منهاج تعليم بديل؛
حيث توجد لجنة تسمى متابعة التعليم في المدارس العربية، وفي كل فترة تضع منهاج تعليم
بديل ليحل مكان المنهاج المفروض من الوزارة، إلا أن الوزارة ترفض حتى مجرد مناقشة الموضوع.
وأضاف: "هناك تفصيلات مهولة يشيب لها الولدان
من فرط التزييف والتزوير والأضاليل والأكاذيب التي تسميها الوزارة منهاج تعليم، وهي
في الحقيقة منهاج تضليل وتجهيل، وهي تحتاج إلى مؤلفات ومجلدات".
وأشار إلى أن المشروع الصهيوني وضع على رأس سلم أولوياته
فرض الرواية الإسرائيلية بشتى الوسائل؛ ومنهاج التعليم هو أحد أهم وسائله لخلق ما
يسميه قادة الدولة العبرية "العربي الجديد" أو "العربي الإسرائيلي"،
وهذا يعني تشكيل شخصية هلامية ليس لها علاقة بشيء إلا بوجودها في إطار الدولة العبرية.
وأوضح أن الهدف هو جعل العربي شخصية مهزوزة فاقدة
الثقة بنفسها وبهويتها، منفصلة عن امتدادها الحضاري، ليس لها علاقة بدائرة انتمائها
الفلسطينية ودائرة انتمائها العربية ودائرة انتمائها الإسلامية؛ ومن أجل تحقيق ذلك
وُضع المنهاج بطريقة ذكية جدا تقدم للطالب العربي القيم اليهودية والصهيونية على أنها
هي ذروة القيم بين الأمم، وأن ما سواها ليس بشيء ولا قيمة له.
وتابع: "لعل استعراضا سريعا لمادة التاريخ-
على سبيل المثال- يقدم صورة لما سعى ويسعى إليه المشروع الصهيوني، في مختلف مراحل التعليم
الابتدائية والإعدادية والثانوية، بل وحتى في المرحلة الجامعية، بدءا من تشويه التاريخ
الإسلامي والتركيز على الأزمات البارزة في ذلك التاريخ وتقديمها على أنها هي كل التاريخ،
وكذلك تقديم الشخصيات الإسلامية التي ساهمت في صنع الحضارة الإسلامية بصورة سلبية تدفع
الطالب العربي إلى رفضها والنفور منها؛ وقد يستغرب القارئ أن كتب التاريخ في المنهاج
(خاصة مادة التاريخ للمرحلة الثانوية) تقدم قصص ألف ليلة وليلة على أنها هي تاريخ المسلمين".
اغبارية الذي ألف كتابا بعنوان (قراءة في مضامين
منهاج التعليم في مدارس الداخل الفلسطيني)؛ أكد أنه في المقابل عمد منهاج التعليم إلى
تقديم تاريخ اليهود على أنه تاريخ مليء بالبطولات والإنجازات الإنسانية والحضارية،
وتقديم الشخصية اليهودية بصورة إيجابية مثالية تدفع الطالب العربي إلى الإعجاب بها
والاقتداء بها واعتبارها نموذجا للتقليد؛ وفرض الرموز الإسرائيلية ذات البعد السياسي
على الطالب العربي، مثل العلم والشمعدان والمؤسسات الرسمية كالكنيست وديوان رئيس الدولة
وأسماء الشخصيات السياسية والاقتصادية والأدبية والفكرية التي لها دور في تأسيس الكيان
مثل بن غوريون وهرتسل وجبوتنسكي ومنوتفيوري وروتشلد وبياليك، وتلميع شخصيات كانت قيادات
للعصابات الصهيونية عام النكبة مثل مناحيم بيجن وإسحق رابين وشمعون بيرس وغيرهم.
واعتبر أن الفلسطينيين يعيشون أزمة حقيقية فيما يتعلق
بمنهاج التعليم؛ فهو أهم محطة في حياة الفلسطيني في الداخل، وعليها يُبنى كل شيء مستقبلي؛
مؤكدا على ضرورة وجود خطة ممنهجة لمواجهة أفكار المشروع الصهيوني والقيم اليهودية في
منهاج التعليم.
وأضاف: "بصراحة متناهية، نحن إذا كنا نملك المنهاج
البديل فإننا – للأسف- لا نملك الوسائل لإحلاله مكان المنهاج الصهيوني؛ نحن حتى الآن
عاجزون عن إيجاد المنفذ والوسيلة لإنقاذ الطالب العربي من مضامين المنهاج المدمرة
الماسخة لهويته وانتمائه".
ورأى اغبارية أن هناك وسائل عديدة للتصدي لهذه المخططات؛
ولكنها تبقى فردية أو فئوية (حزبية)، وهذه لا تكفي، بل ربما تلحق الضرر بما يمكن تسميته
بمشروع إنقاذ جهاز التعليم في الداخل الفلسطيني، مبينا أن الحس الوطني موجود من خلال
الفضاء السياسي المتفاعل في الداخل؛ ولكن هذا وحده لا يكفي، بل أحيانا يسبب ارتباكا
لدى الأجيال الشابة لأن كل فئة أو حزب أو جهة تفسر الوطنية حسب أجندتها، حتى أن هناك
من جعل المشاركة في انتخابات الكنيست والاندماج في المجتمع الإسرائيلي من الأعمال الوطنية،
وهذه كارثة على مستوى المفهوم الوطني، وعلى مستوى بناء الشخصية الفلسطينية ذات التأثير
والتي يمكنها أن تملك أدوات التغيير، حسب قوله.
وفيما يخص لجنة متابعة التعليم التي وضعت منهاجا
بديلا قال اغبارية إنه حتى هذا المنهاج مختلف عليه بين الفلسطينيين؛ فالجهات المسيطرة
على تلك اللجنة ذات توجه حزبي وسياسي معين، وهو في الأغلب علماني شيوعي، ومن ثم فإن
المضامين في هذا المنهاج مبنية استنادا إلى فكر تلك الجهات.
وأضاف: "مثال ذلك أنهم يعتبرون (في ذلك المنهاج
البديل) الحكم العثماني في فلسطين احتلالا كالاحتلال الإنجليزي وفيه أيضا فرض لرواية
حركة "فتح" الفلسطينية وأجندتها السياسية والفكرية، وتسويق لاتفاقات
"أوسلو"، والأمثلة من هذا النوع كثيرة جدا. لذلك فإننا نعاني من أزمتين:
أزمة داخلية وأزمة خارجية".
ورغم كل الصعوبات التي ذكرها اغبارية أكد أنه يمكن
التغلب على اختراق (وليس مجرد استهداف) الاحتلال للمناهج الفلسطينية، وذلك بثلاث وسائل:
الأولى تشكيل لجنة متابعة تعليم تضم كافة التيارات الفكرية في الداخل (الإسلامية والوطنية
والقومية وغيرها) لوضع منهاج بديل متفق عليه من الجميع يشكل، في هذه المرحلة على الأقل،
الحد الأدنى الذي يحقق توسيع المسافة بين الطالب العربي الفلسطيني وبين الأجندة الصهيونية،
وتقريب المسافة بينه وبين الرواية الفلسطينية العربية والإسلامية بكل أبعادها التاريخية
والحضارية.
وأضاف بأنه بعد ذلك تعمد جميع الفئات إلى وضع ميثاق
تعمل من خلاله بشكل موحّد على تدريس هذا المنهاج خارج الإطار الرسمي؛ وهذا ممكن فقط
إذا تحقق شرط واحد: وجود الإرادة الحقيقية بعيدا عن الاستقطابات السياسية والحزبية
والفئوية.
والوسيلة الثانية تكون من خلال المدرسين الذين يتواصلون
مع الطلاب في المدارس؛ فالمدرّس الذي لديه انتماء حقيقي لقضاياه ويحافظ على هويته،
رغم أنه موظف لدى وزارة صهيونية يمكنه تصويب ما يجب تصويبه في المنهاج المفروض عليه؛
وهذا ممكن، وهناك فعلا من يمارسون هذا عمليا، لكن عددهم قليل، والهدف أن يكون هذا هو
السائد والعام لدى جميع المدرسين أو غالبيتهم.
أما الوسيلة الثالثة فهي وضع برنامج تربوي – توعوي
للأهل من خلال لجان أولياء الأمور ومن خلال الأطر الأهلية الشعبية المختلفة، بحيث يتمكن
هؤلاء الأهل من حماية أولادهم وتحصينهم بالرواية الصحيحة.
وأكد اغبارية أن الجهة الوحيدة التي عملت على الوسيلتين
الأخيرتين، وقطعت فيهما شوطا بعيدا، هي المشروع الإسلامي، وخاصة الحركة الإسلامية التي
حظرتها حكومة نتنياهو عام 2015؛ فقد عمدت إلى توعية الطلاب والأهل طوال سنوات، من خلال
مؤسسات تربوية على رأسها مؤسسة "حراء"، ومؤسسة "سند" للأسرة وغيرها
من المؤسسات، كما عملت على تنشئة جيل من المدرّسين والمدرّسات الذين أصبحت لديهم الإمكانية
لضبط الأمور في التعاطي مع منهاج التعليم الرسمي.
وختم قائلا: "ولكن للأسف، حظرت هذه المشاريع
منذ عام 2015، لكن آثارها بقيت، غير أنها لا تكفي وحدها؛ هناك حاجة وضرورة لعمل جماعي
أوسع وأشمل لتحقيق هذه الأهداف".