زُرت شبه القارة
الهندية عدَّة مرات؛ أولها قبل ما يقرب من عقدين من الزمان. كان تغلغُل التحديث - بوصفه علمَنَةً تقوِّضُ بنية التقاليد الاجتماعيَّة - ما يزال في بدايته، يُقدِّم رجلاً ويؤخِّر الثانية في وجلٍ. فرغم التجربة الكولونياليَّة الطويلة، التي دامت لقرنٍ كامل على الأقل؛ فإن التحديث ظلَّ نخبويّاً سُلطويّاً بدرجة كبيرة، وظلَّت عادات الهنود الغذائية وسائر أنماط معايشهم بمنأى عن التغيير لعقود طويلة، ربما بسبب رغبة العدو البريطاني الحفاظ على القاسم الأعظم من أبناء شبه القارة في أدنى السلم الطبقي، بوصفهم عمالة يدويَّة رخيصة. وحين بدأت هذه العادات تتغيَّر مؤخراً، تحت وطأة الغزو الاستهلاكي الكاسح؛ فإنه ظلَّ تغيُّراً شديد البُطء، بسبب الارتباط الوثيق والقديم بين أنماط المعيشة، وصور التديُّن شديدة التنوع، التي تحفل بها شبه القارة.
آنذاك، كانت عربدة الرأسمالية الليبرالية في المجال العام أكثر استحياءً، فظلَّت مُعدَّلات علمنة المجال العام في جمهوريَّة الهند، التي يُهيمن عليها الهندوس؛ أقل كثيراً من مثيلاتها في الأقطار "المسلمة" أمثال: إيران ومصر والسعودية وماليزيا وتُركيا، بل وأقل من مثيلتها في جارتها "الإسلاميَّة": باكستان! هذا التباطؤ التحديثي الواضح - قبل الهجمة الاستهلاكيَّة الأمريكيَّة - كان سبباً رئيساً من أسباب صعوبة المعيشة في أكثر مناطق شبه القارة، خصوصاً على أبناء الحواضِر
العلمانية الكبيرة أمثالي، الذين تقلَّصَت عندهم الميول الاستكشافيَّة ذات الطبيعة الأنثروبولوجيَّة إلى حدها الأدنى، واستناموا نسبيّاً إلى الاستهلاك التنميطي المدمر، العابر للثقافات؛ إذ نشأوا وترعرعوا في أوساط بورجوازية تسكُن مُدناً كوزموبوليتانية مثل القاهرة. مُدن تأكل على كل الموائد، وتفتح ساقيها لكل الغرباء.
والحق أنني - رغم ذلك كله - كنت آسى على ما سيفعله التحديث/ العلمنة بهوية الهند، وميراثها الثقافي؛ فإن "الحضارة التقنية" التي تسعى الهند جاهدة لتنال حظّاً منها لن تقتل الإنساني فحسب، بل ستجعل منها مسخاً وثنيّاً أشد ضراوة وتوحُّشاً من وثنيتها الهندوسية التقليديَّة، حتى لتفوق في ذلك وثنية الأمريكيين أنفسهم، بعد أن تُفرغ الحضارة التقنية الملحدة جُلَّ الثقافات الهنديَّة التقليديَّة من مضمونها ومحتواها، وتملأ قوالبها بمحتوى استهلاكي "حديث"، فإن الكسب التقني الوثني الموافِق للبنية الثقافيَّة الوثنية؛ سيجعلها أشد توحُّشاً، وأعظم "كفاءة" في ممارسة هذا التوحُّش.
ورغم أن "التحديث" يُمهِّد الطريق لأبناء الحواضر "العلمانية" لغزو مناطق "بِكر"، وسُكناها و"الاستثمار" فيها، ورغم أنه يجعل الارتحال والسياحة - في تلك الأرض الغنية - أمراً أكثر يُسراً وألفة، لمن تحدَّروا من خلفيات بورجوازية حضريَّة؛ إلا أنني ما زلت أُبغِض هذا التحديث بُغضي للحداثة نفسها، مهما كانت الفائدة التي أجنيها من ولوج طريقها الممهَّدة، والسير على دربها المعبَّد.
إنه تناقُضٌ لا سبيل إلى التصالُح معه: أن تبغض ما يُيسِّر لك بعض صور الحركة المادية في الوجود، لأن هذا التيسير نفسه ليس كرامة لله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولن يكون على حساب الثقافة الأصلية فحسب؛ وإنما سيُغيِّر كذلك وجهة حركة المسلم رغماً عنه. وبدلاً من أن تتحرَّك بقلبٍ كقلب رِبعي بن عامر، إذا بك تتحرَّك بقلبٍ كقلب كريستوفر كولومبوس، وبدلاً من غاية ابن عامر في الحركة، والمتمثِّلة في فتح القلوب بتقويض الطواغيت؛ إذا بك تستبطن غرض كولومبوس الإمبريالي، وتحيا به وله، مُحطماً القلوب ومتولياً الطواغيت؛ وشتان شتان بين الحركة الإنسانية في سياقي التوحيد والشرك.
هذا الاختلاف الجلي بين وجهتي الإسلام/ التوحيد والحداثة/ الشرك هو الذي يجعل أسلمة الأخيرة أمراً مُحالاً، بل يجعل أنسنتها عملاً متعذراً بالأصل، حتى داخل سياقها؛ بسبب فرط عدائها للإنسان الرباني المركَّب، مهما تشدَّقت بديباجات هيومانيَّة تستر بها وحشيتها.
أما البُغض الجارِف للحداثة والتحديث، فيجب أن يكون هو الوقود الحقيقي الذي تتزوَّد منه أنساق المفكرين المسلمين، بدرجات تختلِف باختلاف درجة إدراكهم لمعدَّلات تحديث/ تشويه مجتمعاتهم. إن هذه البغضاء عينها هي التي ستُحدِّد معدَّلات تفلُّت الواحد منهم وانسلاخه من أثقال
الحداثة الموهِنة، وتخلُّصه من أدرانها؛ ومحاولته من ثم تخليص مُجتمعه. بل إن أهمية هذا البغض ومركزيته تتجاوز كونه مُحدداً لمُعدَّلات تفلُّت المفكر، إذ يصير في بعض الأحيان مؤشراً على مدى عودته إلى تقاليد مجتمعه قبل الحداثة - نفسيّاً واجتماعيّاً - لشحذ أدواته. لتصير هذه البغضاء نفسها - بعد اكتمال نسق المفكر - مؤشراً على الإخلاص والأصالة، الإخلاص في تجاوز قضبان الحداثة والأصالة في استعادة الأدوات التي تُعين على تحقيق هذا الخلاص الديني.
لكنَّ أشق ما في هذا البغض - وشحنته الواجبة على كل مفكر مُلتزِم - هو أنه بغض يسير عكس اتجاه الحداثة نفسها - التي استوعَبَتنا بالكامل - وذلك بوصفها تيسيراً "مُريحاً" لطرائق الحياة بتحطيم الخصوصيَّة وإشاعة نمط اختزالي وحيد. وأشق ما فيه ليس مقاومة استنامة النفس للراحة المبذولة عند أطراف أصابعها فحسب، وإنما أنه لا يَعِدُ ببديل براني "مُريح"، بل لا يَعِد ببديل براني من الأصل، وإنما كل الذي يعد به في هذه الدار هو بديل جواني يجعلك تستطيع استشراف اليوم الآخر، ومآلات ما قدَّمت يداك، وهذا تلزمه طاقة روحية هائلة.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry