تحتلُّ ثنائية "
الدين والساسة" حيّزا هاما في المجال السياسي العربي الإسلامي، بل يمكن القول، دون تردد، أن سؤال العلاقة بين "الدين" و"
السياسة" من أقدم الأسئلة وأكثرها عُرضة للتناظر والاختلاف. ويبدو أن الثنائية ستستمر ضاغطة على الوعي والثقافة والتفكير في سُبل التدبير المدني إلى حين، لا يبدو قابلا للتحديد في الزمن المنظور. أما أسباب ذلك، فمردها إلى المنظورات المتباينة لفهم هذه الثنائية، والمعالجات المعتمدة لتحديد طبيعتها ومستويات العلاقة بين طرفيها، أي "الدين" بما هو عقيدة وعبادة، و"السياسة" بوصفها فنا لتدبير الاختلاف والتقريب بين المصالح المتعارضة.
ثمة فهمٌ لهذه الجدلية، يقضي بأن لـ"الدين" منطقه، كما لـ"السياسة" منطقها الخاص، وهما معا منطقان مختلفان في المنطلق والمبتدأ، وفي الغاية والمنتهى، وأن خطوط التلاقي والتقاطع غير ممكنة ولا واردة، مما يعني تاليا أن السعي إلى الجمع بين المنطقين مآله الفشل، أو على الأقل هيمنة منطق على الآخر، والاستقواء عليه في الممارسة، كأن يوظّفَ "الدين" السياسة، أو توظّف "السياسة" الدينَ، وتطوّعه لخدمة استراتيجياتها. فمنطق "الدين" مؤسس على العقيدة، التي لا تقبل الاختلاف، في حين ينبني منطق "السياسة" على المصلحة، التي بطبيعتها مؤسسة على الاختلاف والتضارب. ومن هنا تبدو صعوبة التفكير في السياسة، أي في الاجتماع المدني، بمنطق العقيدة، أي بالاستناد على الدين والاعتداد بأحكامه. في حين تُصبح "السياسة" بدون روح، عندما نقحم "الدين" في ممارستها، أو نطوع أحكامه لخدمة استراتيجيات السياسة وأهدافها.
قد يعترض قائل على التمييز أعلاه على خلفية أن "الدين" في مجالنا العربي الإسلامي ليس في خط التباعد مع "السياسة"، وأنه، كما يقول الكثيرون، " دين ودنيا"، ومن هنا تكون الدعوة إلى الفصل بين "الدين" و"السياسة" مسعى غير سليم، وسعيا يناقض حقيقة الدين، أي الإسلام الذي رسّخ العقيدة وبثّ روحها في الناس، وشيّد بالموازاة دولا ونظما ظلت قائمة ومستمرة حتى اليوم، بل امتد حضورها وإشعاعها إلى أصقاع بعيدة وممتدة في ربوع العالم.
لعل الجواب عن هذا الاعتراض، الذي قد يبدو وجيها في بعض جوانبه، يكمن في أن تطور الحياة وسرعة تبدل الأحوال، والثورات التي أنجزها العقل البشري في كل المجالات، لا تُسعف "الدين" في مواكبة متطلبات الاجتماع المدني بالتدبّر، والتفكير في إيجاد الأجوبة، وإبداع الحلول الخلاقة والمجدية. لذلك، تحتاج "السياسة" إلى مساحة أوسع، واستقلالية أكبر وأعمق، لتمكين الناس مباشرة أو بصفة غير مباشرة من تدبير أمور اجتماعهم المدني، والتقريب بين تضارب مصالحهم، والبحث المنتظم والدائم عن المشترك، الذي لا يُلغي اختلافاتهم، ولكن يُديرها بوعي جماعي تضامني، وبثقافة تعترف بشرعية الاختلاف.
لا شك أن الذي جعل العلاقة بين "الدين" و"السياسة" غير سليمة، ولا متوازنة، وفي أغلب الأحوال مختلّة لصالح طرف على آخر. أمور كثيرة حصلت في التاريخ، فتراكمت ممارستها السيئة، وتعقدت تأثيراتها على مدركات الناس، وصورتهم الجماعية عن "الدين" في علاقته بـ"السياسة".
فمن هذه الأمور، وهي كثيرة، تمكن الإشارة إلى قضيتين اثنتين بالغتي الأهمية، تتعلق أولاهما بتوقف "الاجتهاد في الدين" في مجالنا العربي الإسلامي منذ قرون، وتختص ثانيتهما بطغيان نمط من القراءة لـ"الدين"، غالبا ما تطوّع أحكامه وتوظفها لإضفاء الشرعية على الممارسات السائدة، والتي - كما أشرنا - تكونت في معظمها بشكل غير سليم.. ولأن أبواب الاجتهاد أقفلت منذ زمن طويل، فقد فتح المجال لفئة من الفقهاء، يُفسرون أحكامه وقواعده بما يخدم "السياسة" القائمة. وقد عرف التاريخ العربي الإسلامي أسماء كبيرة في هذا المجال، أدرجت كتاباتهم في سمي "الآداب السلطانية". والواقع ظلت هذه الممارسة مستمرة حتى الوقت الراهن، ولم تستطع الأصوات المنادية بالاجتهاد، على قلّتها، من التحول إلى تيار فقهي كبير، قادر على خلق آداب جديدة، متحررة من عباءات السلاطين، وضغط النظم السياسية القائمة.
لم يُتح للأحزاب والتنظيمات الاسلامية، أو تلك التي تقول عن نفسها أنها مدنية بمرجعية إسلامية، الوصول إلى السلطة لممارستها لوحدها، حيث قليل منها تمكن من الانتقال إلى ممارسة الحكم عبر بوابة الانتخابات. وفي سياقات بدت مساعدة ومشجعة على التحول الدعوة والمعارضة إلى السلطة وممارسة الحكم، كما هو حال حركة
الإخوان في مصر ما بعد ثورة 2011، وحركة النهضة في تونس في أعقاب سقوط النظام في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وحزب العدالة والتنمية في المغرب بعد فوزه بالأغلبية في انتخاب مجلس النواب عام 2011.
فمما لاحظ الكثير من المنتقدين على أداء هذه التنظيمات الثلاثة أن ممارسة السلطة فتحت شهيتها، فابتعدت بالتدريج عن الشعارات التي أسست على قاعدتها شرعيتها السياسية والانتخابية، بل يذهب البعض إلى وصف هؤلاء بالمسئولين عن تقهقر أوضاع الناس وتراجع شروط عيشهم، وضعف قدراتهم الشرائية. ويضيف آخرون إلى شهية السلطة والاستمراء في الاستفادة منها أنهم أعادوا إنتاج ما كان قائما قبلهم، أي بث روح "المحسوبية"، والولاء الحزبي والشخصي، واستبعاد مبادئ الجدارة والاستحقاق وتكافؤ الفرص في توزيع إمكانيات البلاد وخيراتها.. فقد قاموا، بحسب رأي هؤلاء، بتثبيت أنصارهم في مواقع المسئولية، وسعوا إلى التحكم في مفاصل الدولة، بأفق تحويلها إلى دولتهم، وليس دولة الجميع..
وقد علت نغمة هذا الخطاب النقدي في حق "
الإسلاميين" في مصر على وجه الخصوص، وبدرجة أقل في تونس والمغرب.. كما أن وعود "الإسلاميين" وتعهداتهم كانت أكثر من إنجازاتهم على أرض الواقع.. وهو ما دفع ببعض المنتقدين إلى القول بضرورة رفع الشرعية الانتخابية عنهم بسبب ضعف شرعيتهم في إنجاز ما وعدوا به.