سعت الأنظمة المتعاقبة على
مصر خلال سبعة عقود لامتلاك القوة الناعمة المتمثلة في الدراما، من أجل تغيير بوصلة الجماهير نحو الاتجاه المنشود، وإيصال مفاهيم بعينها، وفق سياقات مغايرة لواقع الحال تماما. ولم تأل تلك الأنظمة جهدا في جذب صناع الدراما، وإقناعهم بالعمل وفق ما تقتضيه مصلحة الجالس على رأس هرم السلطة، والتي تتماهى بمرور الوقت مع المصلحة العليا للبلاد لدرجة يصعب معها التفريق بينهما.
خلال اليومين الماضيين، سادت حالة من التوتر الشديد بين المصريين بسبب عرض إحدى حلقات مسلسل "
الاختيار 2" الذي يسلط الضوء على ما يطلق عليهم "شهداء الداخلية" منذ 2013 وحتى 2020. الحلقة التي تناولت أحداث فض رابعة، فرضت رواية النظام الأحادية حول المجزرة التي شاهدها العالم على الهواء مباشرة، في تحد سافر لمشاعر ملايين المصريين وآلاف الأسر التي فقدت ذويها في رابعة وأخواتها، لتطفو على السطح بوادر انقسام مجتمعي جديد، بعد حالة من الاصطفاف الوطني في مواجهة شبح العطش القادم من إثيوبيا.
والمدقق في تاريخ السينما المصرية يلحظ أن تسييس الفن ليس وليد اللحظة، وإنما له جذور طويلة، فالفترة الملكية كانت تهتم بالجانب الترفيهي وتبتعد في مجملها عن الجانب الاجتماعي والسياسي - وإن ظهرت بعض الروائع الاجتماعية - وكانت الطبقة الأرستقراطية تسيطر على الإنتاج الفني، وتتطابق رؤاها بالطبع مع ما يريده الملك. وبدأت ملامح تزييف الوعي الجمعي في الظهور بوضوح خلال الحقبة الناصرية، وتحديدا في الفترة ما بين حركة 1952 وهزيمة 1967، من خلال أفلام تمجد الجيش والحياة العسكرية مغلفة بطابع كوميدي، مثل سلسلة إسماعيل ياسين في الجيش. كما ظهرت الأفلام الذي انتقدت عصر الملكية، مثل: "الأيدي الناعمة"، و"رد قلبي"، بينما منعت الأفلام التي ألمحت لمساوئ العهد الناصري مثل "شيء من الخوف"، و"المتمردون"، وربما كانت أبرز الآثار الإيجابية في تلك الفترة هي إيصال الثقافة المصرية للمحيط العربي والإقليمي، وتعلق العرب بمفردات العامية المصرية التي أصبحت مفهومة لديهم بفعل الدراما.
لم يكن عصر السادات مغايرا لسابقه، وكعادة نظام يوليو في هدم الصنم القديم وتمهيد الطريق لنصب جديد يقدم له القرابين، خرجت الأفلام التي تنتقد عهد عبد الناصر، كفيلم "الكرنك"، الذي جسد حالة الاستبداد السياسي والفكري والتزييف الإعلامي، إضافة إلى أفلام "العصفور"، و"زائر الفجر"، و"احنا بتوع الأتوبيس"، التي تحدثت عن القمع والبطش غير المسبوقين، والتنكيل بالمصريين في السجون. وظل العامل المشترك في هذه الأفلام جميعا أنها لم تتعرض لأحداث بعينها، وكانت تهدف إلى فضح مساوئ النظام السابق في إطار درامي يغلب عليه إظهار أدوات الظلم والقهر، حتى انتهاء مرحلة حرب أكتوبر، التي استغلها النظام لإظهار معاناة الجيش وتغلبه على لحظة الانكسار حتى تحقق النصر. وظهر هذا المعنى في أفلام مثل "الرصاصة لاتزال في جيبي"، و"العمر لحظة".
تميز عصر مبارك بإتاحة هامش من الانتقاد لمعارضة مقيدة يسمح لها بالتعرض لجسم السلطة فقط دون رأسها، ولم يلتفت النظام لتشويه سلفه كثيرا؛ وإنما عمل على تكييف انتصار أكتوبر لصالحة، وحصره في الضربة الجوية؛ لتظهر الأوبريتات الغنائية التي تمجد تلك اللحظة التاريخية، ويلتف الفنانون حول الزعيم الملهم صاحب "أول طلعة جوية"، بينما يهز القائد رأسه علامة على الرضا التام بذلك. كما ظهرت
مسلسلات تلفزيونية تمجد في العسكرية مثل "رأفت الهجان"، في وقت التف فيه المصريون حول الدراما التلفزيونية، وخفت بريق السينما بعض الشيء.
وخلال فترة مبارك ظهر الارتباط الوثيق بين المصريين والتلفزيون، ولا سيما في رمضان، لدرجة أن أحدهم لا يفطر إلا بعد سماع الأذان من التلفزيون، وعند محاولة إقناعه بضرورة مراعاة فروق التوقيت تجد الإجابة حاضرة: "انت هتعرف أكثر من التلفزيون".
هذه العلاقة الوطيدة، والتي تحولت إلى ما يشبه التوأمة بين التلفزيون والأسرة المصرية في رمضان، وازدادت وتيرتها في عهد مبارك من خلال الفوازير والمسلسلات التي تضم نجوم الشباك، استغلها نظام السيسي بعد انقلاب 2013 لتشويه صورة المعارضة وفي القلب منها الإخوان المسلمين، من خلال أعمال درامية تنعت كل من يعزف لحنا مغايرا بالإرهاب، وتلعب على عواطف الجمهور الذي يتوحد مع من يدافع عن وطنه ضد الخونة، فتتهدج الأصوات، وتسكب العبرات عند مشاهدة مقاطع من تلك المسلسلات، التي تزود المشاهدين بجرعة مكثفة من الوطنية الزائفة ينسى معها الأشقياء ما يجدونه من لأواء الحياة، ويتمنون دوام نعمة الحكم العسكري، الذي لولاه لضاعت البلاد وتشرد العباد.
وكما استحوذ النظام على مختلف الأذرع الإعلامية لفرض رؤيته على الجميع، حتى جلس إعلاميون بعينهم في البيوت وهرب آخرون من مصر، سعى إلى تأميم الدراما من خلال شركة إنتاج واحدة تتحكم في السوق بنسبة كبيرة، ويمكن لمديرها - الذي يمثل واجهة مدنية للظهير المخابراتي - تحديد من يجلس في بيته ومن يحظى بالرضا السامي، فلا يجد الممثل بدا من الإذعان لأن الاعتراض، أو بالأحرى الاعتذار عن أدوار بعينها قد يكلفه الكثير.
الشركة المخابراتية صاحبة "الاختيار" أعلنت وقف مسلسل "الملك"، الذي يستعرض حياة الملك أحمس طارد الهكسوس، نظرا للأخطاء التاريخية الفجة الموجودة به، والتي لم يتحملها أحد رغم مرور ما يقارب الأربعة آلاف عام على أحداث المسلسل، ولم تفلح محاولات إقناع النقاد بأن الحبكة الدرامية اقتضت ذلك وأن الغرض منه هو التسلية فقط؛ بينما يجري قلب الحقائق وتزوير الواقع الذي عاشه الشعب ولم تمض عليه سوى ثماني سنوات فقط، لتنكأ مشاهد المسلسل جرحا لم يندمل بعد، وتستحضر الذاكرة تلك الساعات العصيبة التي تخلى فيها جانب من المصريين عن إنسانيتهم، فهانت عليهم أخوة الدين والوطن.
إن الإصرار على المعالجة الدرامية لأحداث قريبة، لإلحاق الضرر بشريحة كبيرة من المجتمع تحمل فكرا مغايرا وتقدر بالملايين، يؤكد استمرار سياسة الإلهاء التي يسير عليها النظام القمعي، حتى يتحول الشعب من الأزمات المصيرية إلى معارك فرعية تفرق ولا تجمع، وتستهلك الوقت والجهد في ما لا طائل من ورائه. فزيادة الشقة بين طوائف المجتمع هي غاية ما يريده حاليا؛ بعدما وحدت أزمة سد النهضة الشعب المصري، لأن بقاءه مرهون باستمرار الانقسام المجتمعي إلى ما لا نهاية.