هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهدت العلاقات الأمريكية الصينية توترا متزايدا منذ تولي
جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة، مطلع العام الجاري، وذلك في سياق تصاعدي منذ
سنوات لمساعي واشنطن الحفاظ على تفردها بالهيمنة على الساحة الدولية.
ورغم معاناة الصين من اعتمادية عالية في اقتصادها، الذي
بات ينافس نظيره الأمريكي بقوة؛ على التصدير للأسواق الغربية، إلا أن ذلك بحد ذاته
يفرض تحديا على الولايات المتحدة وحلفائها، إذ يوفر لهم العملاق الآسيوي مقومات
إنتاج متكاملة بتكلفة منخفضة.
لكن بكين سعت في السنوات الأخيرة لزيادة تعقيد فرص الغرب
في محاصراتها، وكثفت عملها على رفع مستوى "شراهة" الاستهلاك المحلي
ووتيرة الاستيراد، بما في ذلك من خصومها المفترضين، بهدف رفع اعتمادية شركاتهم على
سوقها.
ووفق رصد "عربي21"، فإن الصين برزت كقوة تصدير
عالمية في السنوات الأخيرة، إلا أن مستوى الاستيراد ارتفع بشكل أكبر.
ويعود ذلك إلى الحاجة المتزايدة للمواد الأولية في سلاسل
الإنتاج وإلى زيادة استهلاكها للطاقة بحكم نمو البلاد الهائل، لكنه في الوقت ذاته
يعني اعتمادية متزايدة للدول والشركات على السوق الصينية، ويعكس استراتيجية واضحة
لبكين لتعزيزها، خاصة بالنظر إلى أن صادراتها أيضا تلقت دفعة كبيرة بتحولها
المتسارع لتوفير منتجات ذات قيمة أعلى ولزيادة عدد شركائها التجاريين حول العالم.
وخلال عقد ونصف، بين عامي 2004 و2019، حققت واردات الصين
ارتفاعا بنسبة 289 بالمئة، أو بواقع 1.742 ترليون دولار؛ من 406 مليارات إلى 1.58 ترليون
دولار، بحسب رصد "عربي21" استنادا لبيانات موقع "OEC" التابع لـ"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا".
وفي
المقابل، حققت صادرات البلاد زيادة بواقع 276 بالمئة خلال الفترة ذاتها، أي بنحو
1.887 تريليون دولار؛ من 683 مليارا إلى 2.57
تريليون دولار.
وبحسب
تقرير لمعهد "بروكينغز"، فقد تبنت الصين بالفعل ثلاث استراتيجيات أساسية،
إحداها "زيادة اعتماد العالم عليها"، في مسيرتها نحو تحقيق أهدافها
الاستراتيجية لعام 2035، وهدفها المئوي الثاني المتمثل في أن تصبح مزدهرة ودولة
قوية ومتقدمة بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية عام 2049.
ويشمل ذلك بالدرجة الأولى تقليل الاعتماد على السوق الأمريكية،
أكبر شريك تجاري للبلاد لعقود، مقابل توسيع نطاق الشراكات، بالإضافة إلى تعزيز
مكانة السوق المحلية بالنسبة لمختلف دول العالم، ورفع كفاءة الإنتاج الصيني وتنوعه
والتقدم التكنولوجي للحفاظ على مستوى الصادرات.
ورغم إصرار الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، على
ضرورة خفض العجز التجاري مع الصين، إلا أن ذلك لم ينعكس على زيادة صادرات الولايات
المتحدة إلى العملاق الآسيوي بقدر ما استهدف الحد من الارتباط المتبادل بين
الاقتصادين.
ومن المثير للاهتمام أن الصين، رغم تمكنها من تنويع شراكاتها
التجارية خلال الأعوام الـ15 الماضية، إلا أنها حافظت على علاقة خاصة مع
"خصومها المفترضين".
اقرأ أيضا: هل تبالغ أمريكا في تقدير تهديد "الصين الشيوعية"؟
وللمفارقة، فإن خصوم الصين هم
الذين يثبتون تحولها من مجرد مصنع كبير للمنتجات الغربية، إلى اقتصاد متكامل، يضم
سوقا عملاقة لا غنى للشركات عنها.
ووفق رصد "عربي21"، فإن صادرات سبع دول فقط
إلى الصين شكلت أكثر من 46.5 بالمئة من مجمل واردات الأخيرة عام 2019، البالغة
قيمتها 1.58 تريليون دولار، كما سبقت الإشارة.
والدول السبع هي، حسب الترتيب من حيث حجم الصادرات إلى
الصين: كوريا الجنوبية (136 مليار دولار أو 8.61 بالمئة من واردات الصين)، اليابان
(128 مليارا؛ 8.14 بالمئة)، أستراليا (111 مليارا؛ 7.03 بالمئة)، ألمانيا (107
مليارات؛ 6.82 بالمئة)، الولايات المتحدة (103 مليارات؛ 6.54 بالمئة)، تايوان (90.5
مليار؛ 5.75 بالمئة)، البرازيل (63.5 مليار؛ 4.03 بالمئة).
ولا يتوقف الأمر عند الحجم
الهائل لتلك المبالغ، إذ إن خمسا من تلك الدول (أي باستثناء اليابان والولايات
المتحدة) تصدر إلى الصين أكثر مما تستورد منها، ما يجعل السوق الصينية هي الأهم في
حساباتها الاقتصادية.
وثلاث من الدول السبع، هي
الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، تشترك اليوم في جهود مكثفة لبلورة تحالف
رباعي، يضم الهند أيضا، في مواجهة الصين. وتدور بقية الدول بالفلك الأمريكي أيضا، وتبرز
من بينها "تايوان"، المستقلة من طرف واحد عن بكين، وبؤرة توتر أساسية
بين الأخيرة وواشنطن.
ومن المثير للاهتمام أن اللجنة التنفيذية للكونغرس حول انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ (تركستان الشرقية) اتهمت العديد من الشركات الأمريكية والغربية العملاقة، ومن بينهما "كوكاكولا" و"تومي هيلفيغر"، و"نايكي"، بالتورط في مخيمات العمل القسري، التي يعتقد أنها تستهدف أقلية الإيغور المسلمة.
اقرأ أيضا: بايدن يمضي بتحالف "الرباعي" ضد الصين.. ناتو جديد؟
وهاجم تقرير نشره موقع "سبكتاتور" الأمريكي، مؤخرا، العديد من الشركات، بل والدوريات الرياضية في الولايات المتحدة، إزاء مسارعتها لعقد الشراكات مع بكين وتنمية حضورها في السوق الصينية، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن "مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان" و"السياسات الصينية العدوانية".
وفي دليل آخر على تنامي أهمية
السوق الصينية لبقية دول العالم، فقد أصبحت البلاد أيضا أكبر متلق
للاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2020، وأنهت احتكار الولايات المتحدة للصدارة.
وبحسب تقرير "بروكينغز"، فقد أصبح العالم أيضا
أكثر اعتمادا على الصين لتحقيق النمو، إذ إن من المتوقع أن يمثل اقتصاد الصين وحده
16.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وفي المحصلة، فإن جهود الولايات المتحدة ومعسكرها
لمحاصرة الصين وتقليل فرصها بالتفوق تواجه حسابات غاية في التعقيد، وبحاجة إلى خطط
طويلة الأمد لتحقيق انفكاك تدريجي عن اقتصادها وإعادة التموضع مع اقتصادات أخرى.
لكن الصين أيضا لا تزال تعاني من ضعف شراهة المستهلك
المحلي مقارنة بنظرائه حول العالم، ما يجعل مصانعها رهن المستورد الأجنبي بشكل
كبير، فضلا عن الخلل في تجانس نمو أقاليمها الداخلية، ما يفرض تحديات اجتماعية
وسياسية واقتصادية، إضافة إلى المعضلة الديموغرافية المترتبة على عقود من تحديد
النسل القسري.
ومن المؤشرات المقلقة لبكين أيضا، وفق
"بروكينغز"؛ انخفاض النمو في الإنتاجية، أو الناتج لكل عامل ووحدة رأس
المال.
وبالنظر إلى اعتماديتها العالية على التصدير، فإن
التورط بسياسات خشنة، سواء في معالجة أزماتها الداخلية أو في سياق الرد على ضغوط
الولايات المتحدة وحلفائها، من شأنه تهديد قدرة الصين على عقد الشراكات حول العالم
والحفاظ عليها، ويبقى أن تعمل على تسريع وتيرة التحول لثقافة الاستهلاك الشره لدفع
دول العالم إلى الاهتمام باستقرار اقتصادها، ومن ثم أمنها واستمرار نموها في ظل الحسابات
الرأسمالية المعمول بها.