يعرف معظمنا أن شعار الثورة التي اندلعت في
فرنسا أواخر القرن الثامن عشر هو حرية، مساواة، وإخاء. وظلت السمعة الطيبة النابعة من هذا الشعار مرتبطة بفرنسا عبر السنين، حتى بين طوائف المسلمين، رغم الماضي البربري لفرنسا إبان الاستعمار الفرنسي، ومن قبلها
الحملات الصليبية التي وُلدت أولاً في رحم تلك الدولة، ووصل عددها إلى 13 حملة، خرج من فرنسا وحدها منها 11 حملة، والتي خلَّفت دماراً كبيراً، حتى فاض الدم وصارت شوارع القدس متلونة باللون الأحمر بعد المذابح الرهيبة التي ارتكبها الفرسان الصليبيين في حق المسلمين.
يكفي الاستشهاد بالفرنسي غوستاف لوبون، والذي سطر بكتابه
حضارة العرب عن وحشية الصليبيين، نقلاً عن رواية شاهد عيان ما يلي: "وكان قومنا يَجُوبون الشوارع وسطوح البيوت؛ ليرووا غليلهم من التقتيل، كاللَّبُؤَات التي خُطِفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بُغْيَة السرعة، وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه؛ فيبقرون بطون الموتى ليُخرِجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطَّاة بالجثث، فيا لتلك الشعوب العُمْي المُعَدَّة للقتل".
هذا الماضي الذي لم تعتذر عنه فرنسا، لم يمنع مثلاً رفاعة الطهطاوي الملقب برائد التنوير، أن يكتب عن دستور فرنسا الحديث بمديح منقطع النظير في كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الآتي: "الكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الميثاق، وإن كان غالب ما فيه ليس بكتاب الله تعالى، ولا بسنة رسوله، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المماليك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك، حتى عمُرَت بلادهم، وكثُرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران".
وفي مديح فرنسا الحديثة، يوجد الكثير والكثير من الشهادات والاقتباسات من مفكرين ومثقفين عرب ومسلمين لا يتسع المجال لذكرها. رغم ذلك، يبدو أن هذا المديح لا يجدي كثيراً في استدامة تلميع تلك السمعة الحسنة لفرنسا الحرية، فرنسا الإخاء، فرنسا المساواة، بعد تلوث تلك السمعة جراء الحملة الشعبوية المسعورة التي تقودها جحافل من سياسيين ورجال فكر وإعلام فرنسيين، وللأسف بمعاونة بعض المسلمين، ممن يعرِّفون أنفسهم بالخبراء بالشأن الإسلامي، والذين يعيشون بالغرب ويعتاشون فقط على مهاجمة الإسلام، تحت مظلة مهاجمة التطرف والإرهاب.
ولم يظل تيار
الإسلاموفوبيا الجارف حبيس النقاش والجدل الإعلامي طويلاً، بل اندفع بقوة كالوحش الكاسر، متسلحاً بقوانين وإجراءات تعسفية ضد المسلمين، سنَّتها تباعاً المجالس المنتخبة، يلتهم ما تبقى من حقوق ضئيلة أصلاً، كانت تتمتع بها الجالية المسلمة هناك قبل سنوات. وهبت رياح من كل حدبٍ وصوب، أسموها محاربة انعزال المسلمين عن قيم الجمهورية وعن المجتمع الفرنسي، لكن في جوهرها لا تحمل سوى عزل المسلمين عن هويتهم، وعن دينهم، وعن معتقداتهم، لتقتلع شيئاً فشيئاً مظاهر تدين المسلمين وطقوسهم، وامتدت لحصون تعبدهم لله، حيث ينبغي أن يتعلموا كيف يعبدوه كما أمرهم دينهم، وليس كما يرغب ويتمنى المعادين للإسلام أياً كانت مشاربهم.
فبدأت حملة تجريف الهوية الإسلامية
بمنع الأذان، ثم
منع الحجاب بالمدارس، ثم
منع النقاب كليَّا، ثم
منع البوركيني؛ زي السباحة المحتشم للفتيات والسيدات، ثم
منع الصلاة بالجامعات، ثم منع فصول
تعلم العربية بالمساجد، ثم
إغلاق العشرات من المساجد والجمعيات الخيرية الإسلامية، ثم التضييق على
الذبح الحلال، ثم
حظر الحجاب لمن هن دون سن الثامنة عشرة؛ أي فوق سن الرشد الفرنسي بعامين، بتبرير غريب؛ وهو منع لبس القاصر أي لباس، من شأنه أن يشير لدونية المرأة. وهكذا أصبح الحجاب والحشمة يوحيان بدونية المرأة من وجهة نظر فرنسا المتحضرة.
بهذا يبدو أن فرنسا لا تحارب انعزال المسلمين عن مجتمعها وتسعى لاندماجهم، وهم المعزولون أصلاً بفعل
العنصرية المقيتة منذ عقود، بل تسعى بنظرة فوقية، لصياغة شكل جديد للإسلام على أرضها، ولا تخفي أنها تهدف بالأساس لتحرير المسلمين من قيود فرضت عليهم من أيديولوجيات، ليست من صميم الإسلام في شيء. وترى أن مسلمي فرنسا أنفسهم لا يعوا تلك القيود، وبالتالي لن يتحرروا منها بمحض إرادتهم، لذا ستقوم الدولة بنفسها بهده المهمة بشكلٍ قسري. بما يذكِّر بادعاءات تم ترويجها قديماً إبان حملات استعمار العالم القديم واستيطان العالم الجديد، وهي أن غرض تلك الحملات هو التنوير وإخراج الشعوب الأصلية من التخلف والهمجية، إلى التقدم والمدنية، ولو بالقوة الجبرية.
ولتأكيد هذه الرؤية، ادَّعي رئيس وزراء فرنسا السابق مانويل فالس أن "البوركيني استعبادٌ للمرأة"، بنفس السياق أعرب رئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي أن "ارتداء البوركيني عملٌ سياسي يدعم التطرف ويسبب الاستفزاز"، وصرح أيضاً في عام 2009، أن "برقع المسلمات علامة استعباد للمرأة، وأننا لن نقبل ببلادنا، نساء سجينات خلف سياج، ومعزولات عن أي حياة اجتماعية، ومحرومات من الكرامة". ولحقت به وزيرة حقوق المرأة الفرنسية لورانس روسينيول بالهجوم على المسلمات المتحجبات، بتشبيههن بالعبيد اللاتي يفضلن الاستعباد، حينما قالت بالنص: "كما أن هناك نساء يخترن ارتداء الحجاب، فقد كان هناك أفارقة وأميركيون زنوج يفضلون العبودية". كما صرح النائب عن الحزب الشيوعي أندريه جيرين بأن "البرقع سجن متحرك". ودعمه في ذلك عالم الاجتماع جان بوبيرو بالقول: "إنَّ الحياة العامة ستزداد صعوبة عندما لا يمكن التعرّف على البعض بالأماكن العامة".
تجدر الإشارة إلى أن هذا كان قبل جائحة كورونا، وفرض قناع الوجه بقوة القانون، ولا نعلم ما هي وجهة النظر الحالية، إزاء سهولة الحياة العامة بفرنسا، مع القناع وليس النقاب.
وصاحَب تلك الهجمة المستعرة على مظاهر الدين الإسلامي وفرائضه، إعطاء الضوء الأخضر للبعض، بأن يسخر من نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام تحت مظلة
حرية التعبير، التي تُعتبر كما يقولون من أهم قيم الجمهورية، دون أدنى اعتبار للفرق الجوهري بين حرية التعبير وحرية التحقير. لكن حتى حرية التعبير المفترضة تلك، لا تُحترم في نفس الجمهورية إذا انتقدَت سياسات الكيان الصهيوني العنصري بشكلٍ حاد، فيعتبره اللوبي اليهودي الفرنسي معاداة للسامية، عندها يقع المرء تحت طائلة القانون، وتداس حرية التعبير بالأقدام.
وصل الأمر ذروته، بإجبار الجالية المسلمة عن طريق ممثليهم المفترضين، على توقيع
ميثاق مبادئ الحفاظ على قيم الجمهورية. والذي ينص بأحد بنوده على المساواة التامة بين الجنسين؛ بديهياً على الطريقة الفرنسية، وبما يتعارض مع الفروقات الفطرية والطبيعية بينهما، كما حددها الله خالق الجنسين. لكن لمَا اختصوا ممثلي الإسلام على توقيع هذا البند، أهو مثلاً لتأكيد الافتراء على الإسلام، باضطهاده لحقوق المرأة. وماذا عن وضع حقوق المرأة في
اليهودية والمسيحية، ونصوص
العهد القديم الذي يؤمن به اليهود والمسيحيون في قضية إرث المرأة على سبيل المثال، والتي تحرِم المرأة من الإرث تماماً، إذا كان للمتوفي ولدٌ ذكر؟ لمَ لا يوقع الآخرين على المساواة بين الجنسين؟
كما ينص الميثاق على التوافق التام بين الشريعة الإسلامية وبين قيم الجمهورية، لكن عن أي قيم يتحدثون هنا، هل هي شعارات الثورة الفرنسية، التي لا نرى لها أثراً يذكر عندما يتعلق الأمر بشئون المسلمين، أم هي القيم الجديدة التي تطبق فعلياً، كالمعايير المزدوجة، وعزل المسلمين عن دينهم، وتسفيه مقدساتهم، وغلق مساجدهم، وصياغة إسلام جديد يطلقون عليه "الإسلام الفرنسي". الحق أنه لا يوجد أي توافق بين الشريعة الإسلامية وتلك القيم، فالإسلام نصاً وتطبيقاً، رغم إنكاره المطلق لأي عقيدة تحيد عن التوحيد، غير أنه لا يتدخل أبداً في تشكيل طقوس ومعتقدات الديانات الأخرى، عملاً بالآية الكريمة: "لكم دينكم ولي دين".
وشدد الميثاق على حظر استخدام الإسلام لأغراض سياسية وعدم تدخل الدول الأجنبية في شئون الجالية المسلمة. المقصود هو بتر العلاقة تماماً بين مسلمي فرنسا وأمتهم الإسلامية، فهل هذا مطبق مثلاً مع الجالية اليهودية بفرنسا ودولة الاحتلال؟ الواقع أن الأمر وصل لانخراط فرنسيين يهود بالتجنيد لدى
جيش الاحتلال تحت مظلة برنامجين للتطوع يطلق عليهما اسم "
ماحال" و"
سار-إل"، ثم العودة للعيش بفرنسا مرة أخرى، مما جعل صحيفة الواشنطن بوست تطرح التساؤل، عن الفرق الكبير بين تجنيد إسرائيل لمقاتلين أجانب من الجالية اليهودية، وتجنيد داعش أو القاعدة لمقاتلين أجانب من الجاليات المسلمة. وتعجبت الصحيفة من ازدواجية المعايير بهذا الشأن، فالأولى رغم جرائمها ضد الإنسانية موضع احترام، والأخيرة عن حق موضع تجريم.
ثم يأتي الميثاق لبندٍ آخر، هو تعهد "الإسلام الفرنسي" بعدم تجريم الردة بأي صورٍة من الصور، حيث "لا إكراه في الدين". لكن هذا تدليسٌ واضح، حيث "لا إكراه في الدين" تخص فقط من لم يدين بالإسلام أبداً من قبل، أما الردة، فهي فعلٌ مجرم إسلامياً وبإجماع آراء الفقهاء. كون أحكام الفقه الإسلامي على المرتد، يتعذر تطبيقها، كون فرنسا ليست دولة إسلامية، هذا لا يعني عدم تجريم هذا الفعل وإدانته معنوياً على الأقل لمخالفته الصريحة للشريعة، مع التنويه بعدم جواز المس بفاعله من قبل الأفراد، لأن هذا من صميم شئون الدولة. لكن بالعودة لازدواج المعايير، فالردة حدها القتل بالعهد القديم في
سفر التثنية، وبالعهد الجديد في
رسالة بولس للعبرانيين ،
ولأهل رومية. فهل أجبر علمانيو فرنسا أيا من ممثلي تلك الديانتين، أصحاب هذه الكتب المقدسة، أن يوقعوا على عدم تجريم الردة؟
وللإمعان في تطرف الميثاق، شمل أحد بنوده التشديد على مبدأ الأخوة بين الجميع، دون تمييز قائم على الدين، أو العرق، أو الإعاقة الجسدية، أو الجنس، أو "الميول الجنسية". لكن التآخي مع الفئة الأخيرة لا علاقة له بالإسلام الصحيح، بل إن اليهودية، وحتى المسيحية الكاثوليكية؛ دين الأغلبية الفرنسية، تعتبر المثلية "خطيئة تحرم صاحبها من
ملكوت الله"، وتأمر بقتل ممارسها، حسب
سفر اللاويين بالعهد القديم. وهنا نتساءل أيضا: لماذا يراد للإسلام التآخي والتصالح مع المثلية، رغم عدم وجود عقوبة قرآنية صريحة لتلك الفاحشة، وتجاهل عدم تطبيع اليهودية أو المسيحية معها، في ظل وجود حدٌ صريح بالقتل لمرتكبيها؟
أخيراً رفض الميثاق بعض الممارسات العرفية التي يُزعم بأنها إسلامية. ولأن هذا البند فضفاض، فلا مناص من التخوف منه، بالنظر للكثير من التصريحات لسياسيين ومثقفين فرنسيين، بينهم رؤساء للجمهورية، تحدد ما هو إسلامي بحق وما هو عرفي. فعلى سبيل المثال، راجت أخيراً
مزاعم بأن "الطعام الحلال" هو مفهوم مستحدث على الإسلام، وأن "الحجاب" بدعة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وأن عبارة "الله أكبر" يرددها المتشددون فقط، وأن رغبة بعض المسلمين في "عزل الفتيات عن الفتيان" بالدراسة، لا أساس له بالإسلام، وأما القول بأن الإسلام والعلمانية ليسا متوافقين، فهذه فرية من اختراعات الإسلام السياسي، متناسين ربما أن نبي هذه الأمة هو أول قائد سياسي لها.
أخيراً، لا يسع أي مراقب لهذه الهجمة الفرنسية على الإسلام، إلا أن يتشكك في غرض تلك القوانين والمواثيق التي تتعارض في بعض بنودها، تعارضاً صريحاً مع العقيدة والشريعة الإسلامية، وأن يتساءل المرء عن علاقة كل هذا باندماج المسلمين، ودوره في حل مشاكل الشباب الفرنسي المسلم، الذي يعاني منذ أجيال من البطالة والتمييز والتهميش. وما دخل الزي الإسلامي للمرأة بتصنيفها مواطنة غير صالحة، لا تعمل على رفعة فرنسا ونهضتها؟ وما الضرر من تعلم الأطفال للغة العربية؛ لغة قرآنهم، على قيم الجمهورية؟ وما تأثير الصلاة في الجامعات على علمانية الدولة؟ ولماذا يصبح الذبح الحلال مرحباً به لليهود، لكن مهدِّداً للهوية الفرنسية إذا فعله المسلمون؟ ولمَ تغض فرنسا الطرف عن تورط فرنسيين بجرائم الاحتلال بفلسطين؟ ولمَ يتبرع الفرنسيون اليهود للكيان الصهيوني، ولا يُسمح لمسلمين من الخارج بالتبرع لبناء مسجد داخل فرنسا؟
لا نبالغ إذن حينما نستنتج أن الهدف النهائي لفرنسا اليمينية والمتعصبة هو بالفعل تحرير مسلمي ومسلمات فرنسا، لكن ليس من التطرف، أو التهميش، أو التشويه، أو القيود الحكومية أو المجتمعية التي تفرض عليهم تباعاً، بل من عبوديتهم لله رب العالمين، وذلك بإبعادهم تدريجياً عن جوهر إسلامهم الصحيح، ذلك الدين الذي لا ينتظر شخصاً أياً كان، كي يتممه أو يحسنه. فقد تم هذا بالفعل قبل 14 قرناً من الزمان، عندما أنزل الله الآية الكريمة: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً".