هل هي نهاية العالم.. أم بداية جديدة؟

Pixabay.com


لا يختلف عاقلان في أن ما نشهده حالياً، سواء على الساحة الدولية أو الإقليمية أو القُطرية أو حتى على مستوى العلاقات الشخصية أو العائلية، يؤشر على تغيرات جذرية حادة. وأصبح من المألوف أن تسمع "نحن لم نشهد مثل هذا من قبل" في تعليقات الناس على حدثٍ ما شهدوه أو موقفٍ ما عايشوه بمحيطهم، أكان قد رأوه رأي العين، أو نُقل إليهم بإحدى الوسائل. وعندما تتكرر هذه الجملة، لا يسعك إلا أن تمعن النظر وتفكر ملياً فيما إذا كانت هذه المقولة مبالغا فيها قليلاً، أم هي حقيقة دامغة، تخفي وراءها تغيرا فعليا بنمط المعيشة، أو بطبيعة السلوك البشري، أو بأسلوب التفكير، أو حتى بعجلة الحياة ككل على ظهر هذا الكوكب.

وستحتار متسائلاً: هل نعيش حقاً؟ كما يكرر فريق من الناس سنوات العالم الأخيرة: وهل الأحداث الجسام والتغيرات الهائلة التي نتابعها في الوقت الراهن، تمثل بالفعل سكرات موت وصفير نهاية الجزء الأول والقصير من حياتنا، المعروف بالحياة الدنيا؟ أم أنه في المقابل لا جديد قد طرأ على الساحة كما يردد فريقٌ آخر، وأن ما نشهده حالياً ما هو إلا فصل متكرر عاشته البشرية مراراً وتكراراً، حتى لو اختلف عما سبقه بتفاصيل يعتبرها هذا الفريق قشوراً سطحية لا تغير من المضمون كثيراً، وأن الأمر لا يعدو كوننا نعيش اليوم وبالصدفة البحتة، في أسفل منحنى دورة حياة البشرية، المكونة من ازدهار وانحطاط حضاري متوالٍ، وسيعقبه حتماً ارتفاع للمنحنى وازدهار لا شك فيه؟ لكن قبل كل شيء، هل هو ترفٌ فكري أم ضرورة أن ننشغل بهذا الأمر؟

للرد على السؤال الأخير تكفي فقط الإشارة إلى أنه نظراً لأن حياتنا جميعاً ما هي إلا مجموعة من الأعمال، فيمكننا اعتبار التدقيق في حالة البشرية وحالة كوكبنا الراهنة، أثناء رحلة البحث عن إجابة للسؤال الرئيس، محاولة لتقييم الأداء عملاً بالقاعدة الذهبية في إدارة الأعمال، لربما نتمكن من تقييم سلوكنا ولاحقاً تحسينه تجاه أقراننا من البشر، وزملائنا في الخلق من الكائنات الأخرى، وأخيراً تجاه الكوكب ككل؛ مكان العيش المخصص لنا، هذا إن كان للحياة أن تستمر. أما إذا كان ولا بد للقيامة أن تقوم، فلن يضير أيضاً تقييم الأداء كي نعد أنفسنا للوقوف أمام خالق هذا الكون، الذي سيحاسبنا عما قمنا به في حياتنا؛ بالطبع لمن يؤمن بأن نهاية الحياة ما هي إلا بداية لدار الحساب.

من المعلوم قطعاً أن الحياة الدنيا ما هي إلا رحلة تاريخية، بدأت باستيطان آدم وحواء عليهما السلام لكوكب الأرض، ثم توالت من بعدهما أقوامٌ وحضارات، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وكان من أهم سمات تلك الرحلة الطويلة، الصعود والهبوط، والازدهار والانحطاط؛ على شكل دورة متكررة، كل مرحلة فيها لها أسبابها ومقوماتها، والتي قتلت بحثاً من قبل المؤرخين والمفكرين والفلاسفة على مدار التاريخ.

إذن لنبدأ بما انتهينا إليه؛ بسرد أهم سمات هذه المرحلة العصيبة من حياة البشرية، نهدف من خلاله التوصل ربما إلى وصفها وتحديد ما إذا كانت مرحلة تنذر قطعاً بنهاية العالم، أم هي مجرد مرحلة عابرة كغيرها من مراحل دورة حياة البشرية. ولنتناول أولاً حالة المكان الذي نستوطنه؛ المعروف بكوكب الأرض. وفي هذا السياق لا يوجد أفضل من الاستعانة برأي العلماء المختصين بعلوم الفلك والأرض والبيئة، كي نعرف من خلالهم حالة الكوكب الحالية، وماذا فعلنا به كي يصل به الحال إلى ما وصل إليه اليوم.

يتفق أولو العلم بأن حالة كوكبنا اليوم وصلت لمستوى من التردي، لم تصل إليه أبداً من قبل، سواء من ناحية التغير الحاد للمناخ، أو التلوث الشديد للبيئة، أو الاستنزاف الخطير للثروات الطبيعية؛ من ماءٍ صالحٍ للشرب، أو غابات شاسعة وظيفتها الأساسية إعادة تدوير الأكسجين، أو مصادر للطاقة غير المتجددة، من بترول وغاز طبيعي وفحم، أو ثروة سمكية وحيوانية قاربت آلاف الأنواع منها على الانقراض بالفعل.

ما يربط جميع تلك الأعراض المرَضية معاً، هو بلا شك النشاط الصناعي المفرط، الذي شبَّ على احتراق الوقود الأحفوري، وترعرع على بث روح الاستهلاك الجارف لدى جموع البشر، وازدهر بالتمدن والتوسع الحضري على حساب التغول على القرى والنشاط الزراعي، بما نتج عن كل ذلك من انبعاث وتراكم حاد لغازاتٍ عدة بالهواء الجوي، أهمها ثاني أكسيد الكربون، لمستويات تقترب سريعاً من الضِعفين، عما كانت عليه نسبتها عبر الـ650 ألف عام السابقة من تاريخ الأرض. نجم عن هذا الأمر ازدياد كثافة الغلاف الجوي المحيط بالأرض، وبالتالي قلَّت نفاذيته لأشعة الشمس الزائدة عن احتياجاتنا التي ترتد عادة للفضاء الخارجي، مما أفضى لارتفاع درجة حرارة الكوكب، في ظاهرة تُعرف بالاحتباس الحراري.

ولنستعرض آخر تقرير للمركز الأمريكي للبيئة، الذي كُشف فيه عن أنه في نيسان/ أبريل الماضي، زادت درجة حرارة الكوكب لمستويات قياسية لم يشهدها منذ بدء رصد التغيرات المناخية، إلا في أعوام قليلة جداً سابقة. كما أكد التقرير أن هذا العام (2021)، ورغم تباطؤ الاقتصاد العالمي جراء وباء كورونا، سيكون من ضمن أكثر عشرة أعوام حرارة في التاريخ.

يجب التنويه بأن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار درجة ونصف مئوية فقط عن المعدل السابق، المألوف في عصور ما قبل الثورة الصناعية، سيؤدي لتعرض سكان الأرض لموجات حارة عاتية، بآثار كارثية على جفاف الأرض، وازدياد ملوحتها، وتدمير الزراعة، ونقص الأكسجين الذي تنتجه النباتات، مما سيعرض المسنين وذوي الأمراض المزمنة لأخطار صحية جمة تصل للوفاة. لكن تدمير الزراعة للأسباب السابقة سيراكم أيضاً ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصه النباتات، مؤدياً لارتفاع حرارة المحيطات وازدياد ملوحتها، وبالتالي القضاء على آلاف الأنواع من الكائنات البحرية، المهددة بالفعل الآن بالانقراض، والتسبب بنقص الغذاء العالمي. وتجدر الإشارة إلى أننا بالفعل قد وصلنا اليوم إلى زيادة درجات الحرارة بمعدل درجة مئوية واحدة عن معدلات القرون الماضية.

الكارثة الأخرى المتوقعة جراء ارتفاع درجات الحرارة، هي ارتفاع مستوى سطح البحر، بفعل ذوبان الجليد، لمستويات هائلة، تغمر فيها مياه المحيطات والبحار سواحل العالم، القاطن فيها مئات الملايين من البشر. أيضاً، ارتفاع مستوى الماء المالح له تأثير سلبي غير مباشر على زيادة ملوحة الأنهار التي نشرب منها ونستعين بها في الزراعة، مما يؤثر على توفر الغذاء.

الملفت أن آخر تقرير للمنبر الحكومي للعلوم والتنوع والتوازن البيئي التابع للأمم المتحدة، أكد على أن مناطق العالم التي يُتوقع لها أن تشهد نتائج سلبية كبيرة، نتيجة للتغيرات العالمية بالمناخ والتنوع والتوازن البيئي. هي أيضاً موطن لتجمعات كبيرة من الشعوب الأشد فقراً في العالم، ونظراً لاعتماد تلك المجتمعات على الطبيعة والزراعة لكسب الرزق، فإنها ستتضرر بشدة جراء هذه التغيرات أكثر من مجتمعات الدول الصناعية الغنية. وبهذا سيدفع الفقراء الجزء الأكبر من فاتورة الأضرار التي لم يكونوا أبداً متسببين فيها، أما أغنياء العالم الذين تسببوا بنشأتها، وتنعموا في الرخاء الاقتصادي الناتج عنها، سيكونون أقل تأثراً بسلبياتها.

لكن لنأتي للسؤال الأهم؛ هل كل تلك الأضرار التي لحقت بكوكبنا جراء نشاطنا المفرط بالصناعة والاستهلاك، هي أضرار يمكن إصلاحها وقتما نشاء، كي نورث لأحفادنا كوكباً يمكن البقاء فيه لآلاف من السنوات المقبلة؟ رئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أجابت ضمنياً على هذا السؤال استناداً للحقائق والأرقام وتحذيرات العلماء، في اجتماعها مع مندوبي الدول الأعضاء بالقول: "نحن آخر جيل يمكنه منع وقوع ضرر لا يمكن إصلاحه لكوكبنا. إن الجنس البشري لديه فقط لعام 2030 لتجنب الكارثة؛ أي تسعة أعوام فقط من الآن، واستدراك الموقف وتعديل نمط الحياة ككل، حتى نتجنب الوصول بالكوكب لنقطة اللاعودة، ولوصول الأضرار الناجمة عن نشاطنا البشري لمستوى يستحيل معه الإصلاح وضمان استمرار الحياة لنا وللكائنات الأخرى".

هذا تصريح ليس من مسؤول عن منظمة خيرية لحماية البيئة، بل من شخصية سياسية براجماتية؛ لذا ينبغي أن يؤخذ بكل الجدية.

هذا عن حالة الكوكب الذي نعيش فيه، فماذا عن حالتنا نحن كبشر؟ إلى ماذا وصلت حالتنا؟ خير بداية لوصف حالة البشرية الآن هي الحديث قليلاً عن وباء كورونا الذي عصف، وما زال يعصف بالعالم واقتصاده وروابطه الاجتماعية في كل مكان.

نعم، لقد عاصرنا مراراً وتكراراً عدة أوبئة على مدار التاريخ، لكن لم يكن أبداً رد الفعل مع أي وباء هكذا، كما هو الحال مع هذه الجائحة. فلأول مرة منذ بدء الخليقة، يتم الحجر الصحي لمليارات البشر في آنٍ واحد، وانقطعت وسائل المواصلات الجوية والبرية والبحرية في قارات عدة، وجلس ملايين الطلاب في بيوتهم لعامين دراسيين يحاولون طلب العلم بطريقة لا نعلم آثارها وأبعادها بعد، وانتقل المليارات من البشر للعمل افتراضياً في المنازل من خلف الشاشات، وتم تسريح عشرات الملايين من وظائفهم، وأقفلت ملايين أخرى من المصانع والشركات والمحلات أبوابها، ربما للأبد للكثير منها. وتوفي ما يقارب الأربعة ملايين من كافة الأعمار، وإن كان معظمهم من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة. وأصيب عشرات الملايين الآخرين بالمرض، ولا أحد يعلم على وجه الدقة إن كانوا قد تعافوا تماماً، أم اكتسبوا عاهات مستديمة في أعضائهم الداخلية. وغيرها الكثير من الخسائر التي لم يتم حصرها بعد.

الجديد أيضاً، أن ذلك الوباء لا زال يشوبه الكثير من التحليلات والتفسيرات بخصوص منشأه الحقيقي، ولم نصل بعد لدليل علمي دامغ يفسر تفشيه وانتشاره بهذا النمط، وكأننا بصدد أساطير قديمة، أو حدث قد تم في عصور ما قبل التاريخ، وليس في زمن العلوم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات. تصر الصين ومن خلفها العديد من الخبراء حول العالم على أن فيروس كورونا حيواني المنشأ، لكن دون تقديم أي دليل علمي لمسار الانتقال المزعوم هذا، سواء بالعثور على الخفاش؛ الحيوان الذي تستوطنه السلالة الأصلية، أو الحيوان الوسيط؛ الذي تم فيه هذا التحور واكتساب القدرة على إصابة البشر. في المقابل، تصر فئة أخرى من العلماء، ومن خلفهم تنجر مع الوقت المزيد من الدول والأنظمة، على أن الفيروس معملي المنشأ، أي بفعل يد بشرية؛ ونتاج سنوات من العبث بفيروسات تاجية من الخفافيش داخل معمل بمدينة ووهان الصينية، سواء تم هذا عفوياً، أي عن طريق تسريب غير مقصود، أو حتى في سياق حرب بيولوجية غير مستبعدة. وهل كان لدى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما أسقطت القنبلة الذرية على اليابان، مبررات أكثر منطقية مما لدى الصين، سوى الهيمنة والسيطرة الكاملة على العالم؟

من أجل الوصول إلى دليل قاطع، لا بد وأن تسمح الصين للجنة تحقيق دولية مستقلة بدخول المعمل المذكور ومراقبة أنشطته. لكن الصين، التي توفي فيها 4636 إنسانا جراء الوباء، أي بنسبة تبلغ ثلاثة مواطنين فقط لكل مليون نسمة، مقابل عدد وفيات يبلغ 192 ألف إنسان في بلد مثل بيرو، أي بنسبة 5750 مواطن لكل مليون نسمة، ترفض تماماً خضوعها لمثل هذا التحقيق الدولي، متمسكة بسيادتها وعدم التدخل في شئونها الداخلية. وكأن كل تلك الخسائر العالمية التي ربما قد تكون الصين قد تسببت بها للعالم؛ عفوياً أو عمدياً، وخرجت هي بمكاسب اقتصادية هائلة، وخسائر بشرية هزيلة لا تذكر مقارنة بغيرها من الدول رغم كونها مصدر الوباء، شأنٌ داخلي.

المؤكد هو ضرورة البحث عن منشأ الوباء، لئلا يتكرر مرة أخرى، إن كان منشأه معملياً ولو عن طريق الخطأ، لكن المريب هو عدم انشغال إلا البعض القليل بهذا السؤال الهام الذي ستعطي إجابته ربما مفاتيح عدة للتفكير في التكنولوجيا الحيوية ككل، ومدى الأمان الحيوي المتوافر لمزاولة الهندسة الوراثية مع فيروسات خطرة، يؤدي العبث بها لخسائر قد يحتاج البشر لعقود لإزالة آثارها. لكن إن ظل السؤال بلا جواب فمن يضمن للبشرية عدم تكرار نفس السيناريو مرة أخرى مع نسخ أخرى من مسببات مرض، أشد خطورة وأسرع انتشاراً.

التغير المناخي ووباء كورونا الأخير يذكرنا وينذرنا بأن التقدم التكنولوجي الذي وصلنا إليه، يحمل أيضاً في طياته أسباب فنائنا، إن استمرينا بالعبث في الكون وثرواته ومخلوقاته بشكل غير مسئول، غير عابئين بالنتائج الوخيمة التي قد تطرأ على كوكبنا، وعلى صحتنا، وعلى أسباب وجودنا، من عوامل اقتصادية وروابط اجتماعية. وسيستحيل معه أن ننعم باستمرار الحياة كما عهدناها من قبل، إذا تواصل تمادينا في تلويث البيئة بجميع السموم الكيميائية والإشعاعية وأخيراً البيولوجية.

لا شك أن المراجعة الفورية لما نظن أنه إنجازات بشرية غير مسبوقة، سيعطي أملاً كبيراً في استدامة هذا الكون لقرون قادمة، إن شاء الله ذلك، أما إذا استمر تغاضينا عن كل الأضرار التي نتسبب فيها بإصرار وتحد غريبين، فهذا ينذر قطعاً بأننا عاقدون العزم على إنهاء وجودنا هنا على هذا الكوكب في أسرع وقت ممكن. وللطرافة أنه بسلوكنا هذا قد نعمل على نهاية العالم بأنفسنا دون تدخل خارجي يذكر، فقد تخيل بعض العلماء من قبل، أن نيازك أو حِمماً من السماء، هي من ستكون سبب فنائنا، لكن لم يتخيلوا أن تقدمنا التكنولوجي والصناعي، بدلاً من أن يكون عاملاً في تعمير الأرض وازدهارها، ربما يكون هو السبب الأول في نهاية العالم.

وللحديث بقية..

[email protected]