قضايا وآراء

هابرماس وبراندو على مسطرة الأخلاق

مريم الدجاني
1300x600
1300x600
في خضم انتشار خبر رفض الفيلسوف الألماني هابرماس لجائزة الشيخ زايد للكتاب، حيث اعتبر أن "النظام في الإمارات يقوم على انعدام الحرية وعلى قمع منهجي للمطالب الديمقراطية"، وأن "المعارضين ينتهي بهم الأمر بسهولة في السجن. ولا توجد انتخابات جديرة بهذا الاسم، حيث تعيش النخبة الحاكمة في عالم من الامتيازات والحقوق الخاصة"؛ يظهر موقفه من القضية الفلسطينية من خلال زياراته المتكررة للكيان الصهيوني، واستضافته في الأكاديميات الإسرائيلية لإلقاء محاضرات فيها، فيما قد يقال إن موقفه هذا لا يليق بفيلسوف يرفض جائزة بسبب النظام السياسي لدولة ما، وقد انخرط قبلها مع كيان محتل مغتصب يمارس الفصل العنصري وحل ضيفا في مؤسساتها وفنادقها في تل أبيب.

وقد صرح هابرماس سابقا أن العمليات الفلسطينية تعتبر حالة من حالات الإرهاب الأعمى، وجرّدها من بعدها الوطني، فلم يعتبرها حركة من حركات التحرر الوطني التي طبعت بطابعها النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يقم بإدانة إسرائيل حول إرهاب الدولة الذي تمارسه. 

لكن لا بد أن نعرف أن سياق موقفه هذا ظهر من خلال مقابلة مطولة معه في 2012 مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية، حيث أجاب عندما سألوه عن رأيه في السياسة الإسرائيلية بأن "الوضع الحالي وسياسات الحكومة الإسرائيلية يتطلبان تقييما سياسيا، وهذا ليس من اختصاص مواطن ألماني من جيلي".

لربما كانت ردة فعل هابرماس ذي الاثنين والتسعين عاما على النازية هي التي جعلته يتطرف في موقفه السياسي ذاك. وهنا نذكر ما قاله الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكليفيتش في كتابيه "الصفح"، و"ما لا يقبل التقادم"، حيث أنه صادر الوعي الألماني كله، وخندقه داخل زنزانة الوعي المذنب، لدرجة أنه يحسد حتى الوضعية الاقتصادية المزدهرة للمجتمع الألماني، جاعلا إياها لا تتلاءم إطلاقا وطلب الصفح عن الشرور التي يقول إنهم اقترفوها (يقصد المحرقة).

ومع أن جانكلفيتش نفسه يؤمن بأن ربط الجمال بالأخلاق يصبح مربكا للعقل، حيث يغوص الحبّ والأخلاق أحدهما في الآخر، في محاولةٍ حثيثةٍ من الإنسان لأن يكون أخلاقيّاً، لكنّ حرّيّته تدفعه إلى ممارسة العنف والشر والكذب والشغف والتعصب، فيلجأ هذا الفيلسوف إلى الفنّ والموسيقى التي "تستجيب إلى تفرد الحياة وإلى طموح الكينونة". كذلك يجعل جانكلفيتش من الفن وسيلةً لمعرفة الوجود وعلاقته بالذّات الإنسانيّة واستمراريّته من بعدها، تلك الذّات الّتي تحيا في انتظارٍ دائم واستذكارٍ وترقّب. فوعي الإنسان يعزف على إيقاعٍ تفوق سرعة الزّمن البيولوجي، في مواجهة الصّعوبات قبل العودة إلى الذّات، للاعتراف بالاستطاعة، بدافع الحبّ وليس بدافع الواجب، مبتدعاً كوجيتو أوّل "أنا أحبّ، إذاً أنا موجود".

من هنا يظهر تمايز جانكلفيتش عن مفكّري الأخلاق وخاصّةً كانط في رفضه مبدأ الإلزام عاكساً المفهوم السّائد في كوجيتو ثانٍ له مفاده "أستطيع إذاً يجب عليّ"، حيث تعبر صيغة كانط عن الاستقلالية عن فكرة أن الفرد العقلاني ملزم باتباع الحتمية القاطعة بسبب إرادته العقلانية، وليس بسبب أي مؤثر خارجي. يعتقد كانط أن أي قانون أخلاقي مدفوع بالرغبة في تحقيق بعض المصالح الأخرى من شأنه أن يتنافى والحتمية القطعية، مما يدفعه إلى القول بأن القانون الأخلاقي يجب أن ينشأ فقط من إرادة عقلانية. ويتطلب هذا المبدأ من الناس الاعتراف بحق الآخرين في التصرف بشكل مستقل، ويعني أنه، بما أن القوانين الأخلاقية يجب أن تكون قابلة للتعميم، فإن المطلوب من شخص واحد هو ذاته المطلوب من الجميع.
 
وقدم هابرماس نظرية أخلاقيات النقاش التي يدعي أنها منبثقة من الأخلاق الكانطية، حيث يقترح أن الفعل يجب أن يستند إلى التواصل بين المعنيين، حيث تتم مناقشة اهتماماتهم ونواياهم حتى يمكن فهمها من قبل الجميع، رافضا أي شكل من أشكال الإكراه، أو التلاعب. ويعتقد هابرماس أن الاتفاق بين الأطراف أمر حاسم للتوصل إلى قرار أخلاقي، مثل الأخلاق الكانطية، فإن أخلاقيات النقاش أو الخطاب هي نظرية أخلاقية معرفية، من حيث أنها تفترض أن الصواب أو الخطأ يمكن أن يعزى أي منهما إلى الافتراضات الأخلاقية، كما أنه يصيغ قاعدة يمكن من خلالها تحديد الأفعال الأخلاقية، ويقترح أن تكون الأفعال الأخلاقية قابلة للتعميم، بطريقة مماثلة لأخلاق كانط.

يجادل هابرماس في أن نظريته الأخلاقية هي تحسين لنظرية كانط، ويرفض الإطار الثنائي لأخلاقيات كانط، حيث ميّز كانط بين عالم الظواهر، الذي يمكن أن يشعر به البشر ويختبرونه، والعالم الروحي الذي يتعذر على البشر الوصول إليه. كانت هذه الثنائية ضرورية لكانط، لأنها يمكن أن تفسر استقلالية العامل البشري "على الرغم من أن الإنسان مرتبط بالعالم الظاهري، فإن أفعاله لا تكون حرة إلا في العالم المعقول". بالنسبة إلى هابرماس، تنشأ الأخلاق من النقاش أو الخطاب الذي أصبح ضروريا بسبب عقلانيتهم واحتياجاتهم، وليس بدافع من حريتهم.

لنذهب هنا إلى موقف الممثل والمخرج والناشط الحقوقي الأمريكي مارلون براندو، المعروف بجلبه الواقعية المثيرة للتمثيل السينمائي، وكثيرا ما يشار اليه باعتباره الممثل الأعظم والأكثر إلهاماً على الإطلاق، الذي كان داعما لحركة الحقوق المدنية الأمريكية الأفريقية ومختلف الحركات الهندية الأمريكية، والذي سجل موقفا برفضه لجائزة الأوسكار عن دوره فيتو كورليوني في فيلم العراب، حيث قاطع  حفل توزيع جوائز الأوسكار السنوي الخامس والأربعين، وانتدب مكانه امرأة هندية لتحل محله في حال فوزه، احتجاجا على معاملة الحكومة الأمريكية للهنود الحمر، لتقرأ رسالة الرفض في حفل توزيع الجوائز، التي يذم فيها هوليوود على الصورة التي تظهرها للهنود الحمر في أفلامها.

ثم لنذكر الضجة التي أثيرت في عام 2013 ، وحالة الاشمئزاز الذي اجتاحت الساحة السينمائية عند ظهور مقطع يعترف فيه بيرتولوتشي مخرج فيلم "Last Tango in Paris" الذي مثّل بطولته براندو، بأن أحد ـشهر مشاهد الاغتصاب في تاريخ الأفلام الحديثة قد تم تصويره بالاتفاق مع براندو عام 1972 دون موافقة مسبقة من الممثلة ماريا شنايدر، لتبدو ردة فعلها أكثر واقعية كامرأة تتعرض للاغتصاب عند التصوير وأكثر إهانة.

فهل كان موقف هابرماس من الكيان الإسرائيلي انعكاسا لسيطرة مصالح البرجوازية في الفضاء العام على الهموم الإنسانية؟ أم أن موقفه يأتي في سياق فعلة مارلين براندو - الناشط في سبيل حقوق الإنسان - في فيلمه المذكور، كموقف لا يعبر إلا عن سقطة يجب النظر إليها في ضوء أنسنة الخطيئة، دون اغتيال لشخصية الإنسان أو الحكم عليه؟!
التعليقات (0)