قضايا وآراء

كيف أصبح الطريق لقلب الرجل معدته؟

مريم الدجاني
1300x600
1300x600
المشهد في فيلم راتاتوي، عندما جاء ناقد الطعام الأشهر أنتون إيجو إلى مطعم غوستو ليتذوق ويعطي رأيه الذي سيحدد مصير المطعم من حيث عدد النجوم المعطاة له.. يأتي طبق الراتاتوي أمامه (وهو طبق فرنسي مخضرم من الخضار المطبوخة) ليغرس إيجو شوكته ويتناول أول لقمة، فينقله الطعم إلى مشهد من طفولته في الريف، يدخل إلى المنزل ليجلس على مائدة صغيرة وتقدم له أمه طبق الراتاتوي ليغرق فيه. ثم تقوم الكاميرا بـ"zoom out" وتعود إلى إيجو، وهو في مطعم غوستو ليتناول بقية الطبق بسرعة، وبشهية طفل صغير يتلمظ لذة بين كل لقمة وأخرى حتى ينهي الطبق ثم يطلب مقابلة الشيف.

نتوقف هنا عند مشهد إيجو الذي تمثل له شعور الرضا واللذة بطعام أمه وهو طفل، تماما كما في مجتمعاتنا العربية تظهر تلك الحمى حول جودة "طبيخ الوالدة أو الحجة"، مقارنة بطعام الزوجة، واعتبار تحضير الطعام قيمة عليا بالنسبة للمرأة وتقييمها عند الإناث قبل الذكور، في تأكيد ذكوري تاريخي على نظرية فرويد التي أطلقها في وقت مبكر من عام 1900، حيث اقترح أن الطعام يرمز إلى الأم (والأمومة) عندما قال إن الحب والجوع يجتمعان عند ثدي المرأة، مما ينقلنا إلى الحديث حول عقدة أوديب، وهي مصطلح يستخدم في المراحل النفسية الجنسية لنظرية التطور عند فرويد، ويشير إلى انجذاب الطفل الذكر إلى أمه، والغيرة من أبيه. وفقا للمفهوم المثير للجدل، ينظر الأطفال إلى الوالد من نفس الجنس على أنه منافس. وعلى وجه التحديد، يشعر الصبي بضرورة التنافس مع والده على اهتمام والدته، أو تتنافس الفتاة مع والدتها على اهتمام والدها فيما يسمى بـ"عقدة إلكترا".
بالنسبة للطعام، فإن خبراتنا الأولية في الطعام تشمل ما نتلقاه من قبل الأم تحديدا، ولهذا قد يعمل الطعام كبديل نفسي عن الناس غير الموثوقين وغير المتاحين ولا يمكن الاعتماد عليهم، بينما يكون الطعام موثوقا ومتاحا باستمرار كرمز للحب، مما يجعل العلاقات مع الطعام تبدو أكثر أمانا من الناس

وفي هذا تأكيد على علاقة الرجل المعقدة بأمه، وهذا يجر معظم المشاكل الزوجية في مجتمعاتنا العربية عندما يتزوج الرجل "أمه" في تصوره، كنموذج الأنثى الوحيد بالنسبة إليه. واحترامه لوالدته الذي لا يعكس أبدا أي احترام لأنثى أخرى في حياته، لأن هذا الاحترام منبعه عقدة أوديب. أما بالنسبة للطعام، فإن خبراتنا الأولية في الطعام تشمل ما نتلقاه من قبل الأم تحديدا، ولهذا قد يعمل الطعام كبديل نفسي عن الناس غير الموثوقين وغير المتاحين ولا يمكن الاعتماد عليهم، بينما يكون الطعام موثوقا ومتاحا باستمرار كرمز للحب، مما يجعل العلاقات مع الطعام تبدو أكثر أمانا من الناس. لذا يعتبر الطعام ملفا أساسيا في مفهوم الاغتراب وانعدام الثقة وتقدير الذات، حيث ينعكس في اضطرابات الطعام مثل البوليميا والأنروكسيا.

ولنشرح أكثر، فإن الجدل يدور حول النظرية القائلة بأن الطفل لديه مشاعر جنسية تجاه أحد الوالدين، حيث يعتقد فرويد أنه على الرغم من أن هذه المشاعر أو الرغبات مكبوتة أو غير واعية، إلا أنها لا تزال تؤثر بشكل كبير على نمو الطفل. يتم اتهام المحللين النفسيين بشكل متكرر بأنهم يبالغون في شرح آثار عملية الفطام على البالغين عند التحدث عن علاقتهم مع الطعام، مع أن أطباء الأطفال وكذلك علماء النفس أكدوا على أنه عندما يتم الفطام تدريجيا مع بداية تقديم الطعام للطفل بالكأس أو الملعقة، فإن صدمة الطفل تكون أقل وأسهل لأن يتم يتجاوزها، ولأن الطعام يشكل للطفل -في بداياته- لذة بديلة للذة رضاعته من الأم، يعاني العديد من البالغين من العلاقة المضطربة مع الطعام التي يعود أصلها للطفولة المبكرة.

ومع أن مفهوم الأم والطعام اللذين كانا مفهوما واحدا كبيرا في الطفولة المبكرة يبدآن بالانفصال تدريجيا للعقل الواعي للأطفال منذ السنة الثانية، إلا أن اللا وعي يبقى محتفظا بتلك الصورتين المتداخلتين شعوريا. ويظهر انعكاس العلاقة مع الأم على الطعام كموضوع خارجي حيث يصبح الطعام رمزا للأم، وهنا تظهر العلاقة الملتبسة مع الأم واضحة على العلاقة مع الطعام، مثل الانتقائية في تناول الطعام، أو فقدان الشهية، أو الشره. كما أن الشعور بالذنب تجاه الأم ينعكس على عدم المقدرة على الاستمتاع بالطعام، أو في مرحلة عمرية متقدمة أن يرفض الرجل الاستمتاع بطعام عدا طعام أمه. كذلك الغيرة من حب الأم لأطفال آخرين قد تظهر على شكل طمع وعدم الرضا وصعوبة الشعور بالاكتفاء، وكمرحلة من القمع لعقدة أوديب قد يرفض الطعام كانعكاس لإنكار المشاعر القوية تجاه الأم.

لكن اضطرابات الطعام هذه تتلاشى عادة تدريجيا مع التقدم في العمر، خاصة عندما تتطور العلاقة مع الأم بطرق أكثر وعيا، بينما تبقى طرق الإطعام غير السوية سببا مباشرا لاضطرابات الطعام للبالغين، لأنها حتى لو اختفت لفترة من الزمن تعود بشكل أكثر وضوحا وعنفا عند أول صدمة أو محفز من وجهة نظر نفسية تحليلية.

ومع أن الأمهات لا يطمحن إلى خلق صعوبات في الإطعام لدى أطفالهن، لكنهن يتصرفن بطريقة قد تفاقم ظهور العوامل المرضية. فتحت تأثير اللا وعي المتخيل فإنهن يقمن بالاستمرار بربط الطعام بهن كأمهات، بتأكيد أن وظيفتهن الأساسية الإطعام، فيشعرن بالسعادة والرضا إن تناول الطفل الطعام، ويشعرن بالإهانة بشكل شخصي إن تم رفضه وكأنه جزء أساسي من كينونة الأم. وهنا يعامل رفض الطعام معاملة رفض حب الأم وعطائها، لهذا كثيرا ما يطلبن من أطفالهن تناول الطعام من أجلهن تحديدا، وأنهن سيشعرن بالحزن إن لم يأكل الطفل هذا الطعام.

هذه التصرفات تعزز مشاعر الطفل اللا واعية التي أسلفنا ذكرها حول رمزية الأم وارتباط حبها بالطعام. قد لا تستطيع الأمهات تغيير تخيلات اللا وعي لدى أطفالهن، لكنهن بأفعالهن يستطعن تقوية الوعي السليم والصحي للسير نحو المرحلة التطورية التالية لأطفالهن، وذلك بمساعدتهم لبناء علاقة صحية مع الطعام، وتنمية شهية مرتبطة باكتشاف الحواس ليتم الانسحاب الطبيعي والتدريجي لوجود الأم كرمز للطعام، حيث يبدأ الطفل بخلق علاقة خاصة به وحده مع الطعام بشكل مستقل عن مشاعره تجاه أمه.

الآن نستطيع أن نفهم لماذا يحب الرجال النساء اللواتي يطبخن، ليس لأننا نحب أن نأكل فحسب، بل لأن العبارة المبتذلة التي تقول "الطريق إلى قلب الرجل هي من خلال معدته" صحيحة بالتأكيد من وجهة نظر نفسية تحليلية، لكنها تدل على حالة مرضية تحتاج للعلاج بدلا من التعزيز.
تعلموا منذ الطفولة أن الطعام هو التعبير الأصيل والأوحد عن الحب من قبل أمهاتهم. فهل نصل هنا إلى أن المرأة هي عدوة المرأة، في تأصيل لمتلازمة الحماة والكنّة؟

نستطيع أن نقول ببساطة إن المرأة القادرة على الطهي تذكرهم بأمهم؛ لأن الطعام والأم وجهان لعملة واحدة بالنسبة لهم. وحتى لو قيل ضمن السياق الأنثروبولوجي إن الرجال يحبون النساء اللواتي يستطعن الطهي لأنه يعني أنه سيتم الاعتناء بأسرهن، فهذا يحتوي مغالطة تتلخص في أنه قديما أسلمت المجتمعات قيادها للأمهات، فقد كانت المرأة هي المنتج الأساسي للجماعة، كونها المسؤولة عن تأمين حياة أطفالها بشكل عام واقتصاديا بشكل خاص، حيث أنها هي من اكتشفت الزراعة وانتقل الإنسان من مجتمع الصيد إلى مجتمع إنتاج الغذاء، بينما حافظ الرجل طيلة هذه المراحل على دوره التقليدي في الصيد والتنقل بحثا عن الطرائد، التي كان كثيرا ما يعود منها فارغ اليدين. ولربما كان دوره الوحيد إمتاع المرأة وربما حمايتها، حيث أنه في حينها لم يكن مفهوما بعد أن إخصابه هو المسؤول عن الحمل والإنجاب، وهكذا فإن فكرة الأسرة والاعتناء بها لم تكن تهم الرجل تطوريا بأي شكل من الأشكال لتشكل هاجسا له أصلا.

وهنا نستطيع أن نفهم لماذا سنجد أن لغة الحب الأولى عند معظم رجالنا العرب من بين اللغات الخمس التي تحدث عنها غاري تشابمان ستكون الخدمة، ويندرج تحتها إعداد الطعام، لأنهم تعلموا منذ الطفولة أن الطعام هو التعبير الأصيل والأوحد عن الحب من قبل أمهاتهم. فهل نصل هنا إلى أن المرأة هي عدوة المرأة، في تأصيل لمتلازمة الحماة والكنّة؟

في الحقيقة أنه يمكننا أن نعتبر النساء تاريخيا طبقة مضطهدة، تماما مثل السود في أمريكا، وفي مثل هذه الطبقات يكون من مصلحة الرجل الأبيض مثلا أو الرجل أن يزرع الفرقة والفساد بين أفراد الطبقة التي يضطهدها حتى يستطيع السيطرة عليها، فتخيلوا مثلا لو أن الحماة والكنة اجتمعتا على قلب "رجل" واحد؟ فللمرأة قدرة عظيمة، فما بالك باجتماع النساء بشكل واع؟

وأخيرا، ماذا عن الرجل الذي يطهو؟ يتداول العديد أنه مثير ومرغوب به من قبل النساء، ربما لأنه لم يكتف بالأدوار التقليدية للرجل والمرأة، وربما لأنه يثبت في طهيه أنه يبذل جهدا استثنائيا غير متوقع، وربما لأن المرأة تشعر بأنه يستطيع تأمين احتياجاتها الأساسية من خلال تحضير الطعام، لكنه بالتأكيد لن يذكّرها بأمها.
التعليقات (0)