كتاب عربي 21

ليلة الجنرالات = ليلة الغدر

جعفر عباس
1300x600
1300x600

"ليلة الجنرالات" فيلم من بطولة البريطاني بيتر أوتول والمصري عمر الشريف، يبدأ بتحقيق حول قتل مومس كانت تتجسس في بولندا في أربعينيات القرن الماضي لصالح ألمانيا النازية، وتلاحق شبهات الضلوع في الجريمة ثلاثة من الجنرالات الألمان، وما إن يبدأ التحقيق معهم حول الجريمة، حتى يتم نقل المحقق إلى جبهة قتالية في فرنسا، ثم تتشابك خطوط الفيلم بضلوع بعض الجنرالات موضع التحقيق في جريمة قتل جديدة، ثم مخطط التخلص من هتلر، وبفشل المخطط ينقلب الجنرالات على بعضهم البعض، وتتشابك خيوط كثيرة يروح ضحيتها كثيرون.

يوافق يوم 17 أيار (مايو) التاسع والعشرين من رمضان الجاريين الذكرى الثانية للمجزرة البشعة التي ارتكبها عسكريون سودانيون بحق شباب كان قد فرغ للتو من الاحتفال بليلة القدر، ثم هجعوا خلال اعتصامهم في خيام منصوبة في الساحة الأمامية للقيادة العامة للقوات المسلحة، في سياق الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام المشير عمر البشير، والتي كانوا يريدون استكمال حلقاتها بالإطاحة بالجنرالات الذين نصبوا أنفسهم خلفاء للبشير.

قبل ذلك بأيام كانت ليلة الجنرالات السودانيين، فعلى ذمة شمس الدين كباشي عضو المجلس العسكري المؤلف من كبار قادة الجيش، فقد اجتمع كبار قادة القوات النظامية بكافة فروعها الشرطية والاستخباراتية والأمنية وقررت فض اعتصام القيادة العامة، وحاول كباشي هذا، وهو شخص مشهود له بخفة اللسان أن يلحس كلامه، ولكنه كان لحسا لا يصمد أمام الأدلة الدامغة بأن قيادات عسكرية جلست وخططت لفض الاعتصام، وفي ليلة الصفر حركت طوابير من المركبات عليها مئات وربما آلاف الجنود وطوقت منطقة الاعتصام وصبت النيران على المعتصمين وهم صيام ونيام، وتولت مجموعة من القتلة ربط جثامين بعض الضحايا بالطوب الإسمنتي وإلقائها في النيل.

وبعضٌ ممن جلسوا وخططوا لتلك الفعلة، وباعتراف شمس الدين كباشي المسجل في قناة السودان التلفزيونية الرسمية، يجلسون اليوم أعضاء في الكيان الدستوري الأعلى للحكم في السودان (مجلس السيادة)، ويتحدثون بكل بجاحة عن انحيازهم للثورة التي نشدت التغيير، ويترحمون على شهداء الثورة بلغة معممة دون الإتيان على ذكر مجزرة القيادة العامة.

في هذا تلا الشاعر يوسف الدوش قصيدة باللغة العامية عبر قناة تلفزيونية، جعلت الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش السوداني (الرسمي) ورئيس مجلس السيادة يرفع عليه دعوى قضائية باعتبار أنه مارس القذف والتشهير بحق أعضاء مجلس السيادة، وأستميح الشاعر عذرا في تحوير بعض كلمات القصيدة لتصبح مفهومة لغير السودانيين: 

نفس الزول (الشخص) ال قتل ولدك/ حاكم بلدك/ .. حاكم بلدك رمز سيادة/ شال من يد الكوز (الكوز كنية لحقت بعضوية حزب المؤتمر الوطني الذي حكم البشير بإسمه) شال من يد الكوز السوط والسلطة وجلدك/ نفس الكوز في وجه جديد/ نفس الكلب في الرقبة قلادة/ نفس جهاز الأمن والخوف هُم بي أمرك فضوا "قيادة"/ لما زاد الغل في نفوسهم رسموا الخرطة هناك في القاهرة.. سمو شهيدنا الباسل (شاذ)/.. ونامت عين الشرطة الساهرة.. وقامت ثورة.. وحصدت لجنة!

 

الشعب السوداني قد ينسى ما هو فيه حاليا من ضيق في العيش وانهيار للخدمات الضرورية، وقد يسكت حينا من الدهر على اكتساب مليشيات متفلِّتة حق حمل السلاح في المدن بل وفي الخرطوم تحديدا، وتسلق انتهازيين على رفات شهداء ثورة 2018 إلى المناصب العليا، ولكن شعار "لن ننسى ـ لن نغفر" ما زال مرفوعا بقوة

 


واللجنة التي حصدتها الثورة هي التي تم تشكيلها في أواخر عام 2019 للتحقيق في مجزرة فض الاعتصام، وبعد أكثر من سنة على تشكيلها لم تكن اللجنة قد استجوبت العسكريين الذين اعترف كباشي ذاك بأنهم اجتمعوا وخططوا للأمر، ولهذا يقول الشاعر إن الثورة حصدت "لجنة" ـ لا أكثر، وما أكثر اللجان التي تم تشكيلها بعد سقوط نظام البشير، ويبدو أنها مشكلة بمنطق "إذا أردت أن تقتل أمرا فأوكله إلى لجنة"

البلاغ الذي ارتد فضيحة على من قاموا بتحريكه، تقدم به ضابط في الجيش ضد الشاعر الدوش بزعم أنه مفوض من مجلس السيادة، سرعان ما ارتد على البرهان رئيس المجلس، لأن الأعضاء المدنيين الستة في المجلس أصدروا بيانا قالوا فيه بصوت واضح صادح أنهم لم يفوضوا أحدا لمقاضاة الشاعر، كما نفت الإدارة القانونية والأمانة العامة للمجلس السيادي علمها بأمر البلاغ، وكان استجواب الشاعر كارثيا على من سعوا لتكميم فمه، فقد سئل عن المقصود بـ "رمز السيادة" والكلب الذي على عنقه قلادة، فقال لهم ما معناه أن الحرامي على رأسه بطحة. وتم شطب البلاغ وارتقت قصيدة الدوش إلى مصاف النشيد الوطني، ثم نسج شعراء كثر قصائد على منوالها عن القاتل الذي يلبس مسوح الأبرياء.

لم ينج جنرالات الجيش النازي من المساءلة، وها هو الرئيس السوداني السابق عمر البشير يحاكم على جرائم حدثت في فترات متفاوتة منذ عام 1989، والشعب السوداني قد ينسى ما هو فيه حاليا من ضيق في العيش وانهيار للخدمات الضرورية، وقد يسكت حينا من الدهر على اكتساب مليشيات متفلِّتة حق حمل السلاح في المدن بل وفي الخرطوم تحديدا، وتسلق انتهازيين على رفات شهداء ثورة 2018 إلى المناصب العليا، ولكن شعار "لن ننسى ـ لن نغفر" ما زال مرفوعا بقوة في كل محفل وصولا إلى الاقتصاص من قطاع طريق الثورة ـ القتلة.


التعليقات (1)
همام الحارث
السبت، 08-05-2021 02:05 م
في قمعستان – تلك الديار الممتدة من الخليج النائم إلى المحيط الهائم – "ليلة الجنرالات" تعبير ليس فقط عن الإعداد لغدر و مكيدة بحق الشعب و لكنه أيضاً يشير إلى انغماس في لهو رخيص مع راقصات و مغنيات حتى مطلع الفجر لينام الجنرالات فيأتي طائف على مطارات الطائرات المصفوفة جناحاً قرب جناح فيجعلها كالصريم ليأتي الفلاسفة المأجورون ليعلنوا أن ما رأيناه هزيمة مدوَية " و رآه العالم كذلك" هو في منظارهم المقعَر المحدودب عبارة عن نصر تكتيكي كاسح قهر العدو لأن مراده كان أبطال الكلام فلم يتحقق له ذلك و أوسعوه شتماً لكنه فاز بالإبل " و هي الأراضي هنا " ، و سيستمرون بصب سيول الشتائم و اللعنات عليه حتى يخجل من نفسه و ينسحب من " كل الأراضي" و ليس من "أراضي" . جنرالات الغدر و اللهو و الهزائم كانوا و ما زالوا قرَة عين لكل عدو حاقد على أمتنا ، فبثمن بخس دراهم معدودة من متاع الدنيا الزائل ترى أحدهم مستعداً لبيع كل شيء و أهون ما يبيع أحدهم كرامته و كبرياءه. و ما داموا على هذا القدر من الخسة و النذالة ، فقد عمل عدو أمتنا على إقحامهم بدائرتين لا يكادون يفقهون فيها شيئاً ( الحكم و الاقتصاد) حتى يسخر منهم و منا عندما يراهم و هم يتخبطون تخبط العشواء أو من يصاب بمسَ من الشيطان نتيجة التعاطي بالربا. بالفعل ، أنتج الاستعمار المعادي نماذج اعتبرت الحكم مفتاح ملكية لمزرعة عائلية و لم تكن تفهم أنها كلاب حراسة فقط و ليست مالكة للمزرعة و وصولها للفهم يكون في اللحظات الأخيرة لانتهاء الصلاحية . في أقطار يتحكم فيها جنرالات مستبدون ، يكون النشاط الاقتصادي مرتهناً بأن يكون لهم منه جزء مقسوم يحددونه هم ( مثلاً 40% من مصنع أو 50% من شركة ) من دون تعب منهم أو نصب أو وصب غنيمة باردة يأكلونها بالسحت . الجنرالات دخلوا عالم الزراعة ، فأنتجوا ليس فقط الحشيش و الهروين و إنما الطماطم ، الخيار ، الفلفل الملوَن ، الجرجير أو مكوَنات السلطة الأساسية ، و هذه السلطة هي من جهود أبناء الشعب لخدمة بطون و عيون الشعب حتى يهتف الجميع ذلك الهتاف الساذج " الجيش و الشعب .. إيد واحدة !" و لا حول و لا قوة إلا بالله على هذا الواقع الهابط المزري .