يشكل التضامن التركي مع الشعب
الفلسطيني، لا سيما خلال الاعتداءات
الإسرائيلية، أحد المشاهد المألوفة.
وقد أظهرت الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في الأعوام ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ تضامنا
تركيا لافتا على مختلف المستويات السياسية والشعبية والإعلامية. وخلال جولة العدوان الأخيرة، بقي المشهد على ما هو عليه لجهة مظاهر التضامن الشعبية، من خلال العديد من التظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدن تركية عدة، لا سيما إسطنبول وأنقرة. ووسائل الإعلام التركية بمختلف توجهاتها كانت بوصلتها موحدة باتجاه فضح الجرائم الإسرائيلية. وكما وسائل الإعلام، فإن الكتل البرلمانية أيضا التي نادرا ما تُجمع على قضية، فقد وحّدتها القضية الفلسطينية وأصدرت بيانا مشتركا يدين العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وحمل البيان توقيع الأحزاب الخمسة الكبرى الممثلة في البرلمان، في سابقة نادرة.
مواقف الرئاسة والخارجية التركية، شددت بدورها على وصف الأحداث بالاعتداءات الإسرائيلية، رافضة وصفها بالعنف المتبادل، مع الإدانة الشديدة لهذه الاعتداءات. حتى الآن كل ذلك يبدو مألوفا إلى حد كبير، لكن ما أثار اهتمام المراقبين هي أفكار طرحها الرئيس
أردوغان وشريكه في الحكم رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، وقد يساعد ربط هذه الأفكار على استشراف المشهد القادم للمقاربة التركية للقضية الفلسطينية، وفق معايير جديدة.
فخلال سلسلة اتصالات هاتفية أجراها أردوغان مع أكثر من عشرين رئيس دولة وحكومة، شدد على ضرورة العمل على فكرة إرسال قوة دولية لحماية المدنيين الفلسطينيين، مؤكدا أن تركيا ستقدم أشكال الدعم السياسي والعسكري كافة لهذه القوة من أجل حماية الشعب الفلسطيني. وإذا تعذر إرسال القوة الدولية، وهذا هو المرجح في ظل الوضع الدولي الراهن، يأتي جواب بهتشلي مكملا لتصريحات أردوغان بأنه ينبغي على الشعب التركي الدخول في رباط جديد، في حال لم يتم تشكيل قوات حفظ سلام أممية، وأن استمرار ما وصفه بالإرهاب الإسرائيلي بهذه الوتيرة، ينذر بنشوب حرب عالمية أو إقليمية.
قد يساعد مرور سريع على أهم مفاصل العلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقود الماضية في فهم أكثر لأبعاد الموقف التركي من العدوان الأخير، فالعلاقات بين الجانبين شهدت خلال أكثر من خمسة عقود (بين عامي ١٩٤٨ و٢٠٠٢) تعاونا رفيع المستوى في مختلف المجالات العسكرية والاستراتيجية والدبلوماسية، حتى إن تركيا كانت أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل كدولة في آذار/ مارس عام ١٩٤٩.
لكن عام ٢٠٠٢ شكل منعطفا في العلاقات الثنائية بين الجانبين، ففي السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية سعى أردوغان إلى أداء دور الوسيط المؤثر في عملية السلام، مستثمرا رصيد العلاقات المتينة مع الجانب الإسرائيلي. وكان المسؤولون الإسرائيليون يصفون العلاقات مع أنقرة بأنها مثالية، لا سيما بعد الزيارة الرسمية التي قام بها أردوغان إلى إسرائيل حينما كان رئيسا للوزراء. لكن ما لبثت هذه العلاقات أن شهدت تدهورا وتراجعا تلو الآخر بالتزامن مع عدة أحداث؛ كان أبرزها قيام إسرائيل باغتيال مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين عام ٢٠٠٤، حينها وصف أردوغان للمرة الأولى السياسة الإسرائيلية في قطاع غزة بالإرهاب الذي ترعاه دولة.
وخلال الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عام ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩، أدت إدانة الحكومة التركية للعدوان الإسرائيلي إلى مزيد من التوتر في العلاقات، عززه الانتقاد الشديد الذي وجهه أردوغان إلى الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في سويسرا. وبعد قتل القوات الإسرائيلية تسعة نشطاء أتراك كانوا على متن سفينة مافي مرمرة، ضمن أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة، منتصف عام 2010، وصف أردوغان الاعتداء بأنه "إرهاب دولة". العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة عامي ٢٠١٢ و٢٠١٤ أدى بدوره إلى مزيد من التدهور في العلاقات، حيث وصف أردوغان إسرائيل مجددا بالدولة الإرهابية التي تقتل الأطفال الأبرياء.
أما خلال العدوان الأخير، فقد كان لافتا انتقال الموقف التركي إلى مستوى جديد أكثر حدة في وقوفه ضد الاعتداءات الإسرائيلية، ويبدو ذلك واضحا من خلال مطالبة أردوغان بتشكيل قوة دولية لحماية الشعب الفلسطيني، مع تأكيد استعداد تركيا لتحمل مسؤولياتها فيها، وهو الموقف نفسه الذي كرره وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو في كلمته أمام مجلس الأمن في ٢٠ أيار/ مايو، ثم ما أشار إليه بهتشلي بأنه في حال فشل مقترح قوة الحماية الدولي، فيجب على الشعب التركي أن يدخل مرحلة رباط من أجل المدينة المقدسة.
وهنا، يمكن أن نرسم علامات استفهام كبيرة حول شكل الدعم الذي ستقدمه أنقرة للفلسطينيين خلال المرحلة القادمة، وهل سيتخطى التضامن السياسي والمساعدات الإغاثية. لا أحد يملك الآن جوابا دقيقا، لكن يبدو واضحا أن معايير جديدة دخلت على المقاربة التركية للقضية الفلسطينية، ومن المرجح أن تزيد من عمق تدهور العلاقات مع الجانب الإسرائيلي من جهة، وأن تشهد دعما مؤثرا في معادلة الصراع للشعب الفلسطيني من جهة ثانية.