قضايا وآراء

المقاومة.. إيران وجدلية الحليف والحاضنة

عز الدين إبراهيم
1300x600
1300x600
بعد الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في العام 1967 وضياع ما تبقى من فلسطين التاريخية، تعززت القناعة بمرارة في نفوس الفلسطينيين لجهة قدرة أو جدية النظام العربي الرسمي في تحرير الأرض المحتلة، وهو ما انعكس على شكل إرادة بضرورة أن يأخذ الفلسطينيون زمام المبادرة بأنفسهم وأن يخرجوا من عباءة الوصاية والأبوية التي فرضتها الأنظمة العربية، وبالتالي الانتقال لثورة مسلحة مستقلة حقيقية قلبت الموازين.

هذه الرؤية عبّر عنها الراحل الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في وثيقة صدرت في العام ١٩٨٦ونشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية، يشير فيها اعتمادا على وثائق رسمية في الجامعة العربية إلى أن الهدف الوحيد لقيام هذا الجيش وإرساله إلى فلسطين؛ كان فقط مصادرة القرار الفلسطيني والإرادة الفلسطينية المستقلة.

ترجمت هذه الأفكار التوجهات بإنشاء منظومة مستقلة تقود العمل المقاوم نجحت نسبيا في تشكيل الكيان الفلسطينية بهوية خاصة، بعيدا عن سطوة النظام العربي الرسمي الذي سرعان ما سعى إلى الالتفاف ومصادرته، تارة بالاستمالة والترغيب، وتارة أخرى بالسعي لشق الصف الفلسطيني ومنظماته، واستخدام ذلك للأسف في تصفية الحسابات بين هذه الأنظمة بعيدا عن الهدف الأساسي وهو تحرير فلسطين، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى حصار الثورة الفلسطينية والتضييق عليها في أماكن وجودها.

واقع انعدام الحليف، وغياب الظهير الذي يحفظ ظهر المقاومة، وظروف أدت إلى غياب الدعم العربي الذي كان متوفرا، هو الذي ساقه من برر ويبرر إلى الآن قرار الراحل أبو عمار باللجوء إلى خيار التسوية وصعوبة استمرار المقاومة من خارج فلسطين، وبالتالي العودة إلى جزء من الأرض المحتلة كاستراتيجية يحصد الفلسطينيون للأسف ثمارها المرّة إلى الآن.
لا تكاد الحرب أن تضع أوزارها حتى يتحول التركيز إلى مواقف سياسية تصدر بخصوص العلاقة مع حلفاء أو داعمين إقليميين؛ في منطقة تشهد في السنوات الأخيرة سيولة غير مسبوقة في المواقف والاصطفافات

نأتي على هذه الخلفيات التاريخية، في وقت يثار فيه الجدل حيال مواقف المقاومة الفلسطينية عند كل مواجهة تخوضها مع الاحتلال، حيث لا تكاد الحرب أن تضع أوزارها حتى يتحول التركيز إلى مواقف سياسية تصدر بخصوص العلاقة مع حلفاء أو داعمين إقليميين؛ في منطقة تشهد في السنوات الأخيرة سيولة غير مسبوقة في المواقف والاصطفافات.

ولطالما وقفت المقاومة الفلسطينية عند النظر إلى عمقها في المنطقة أمام مستويين؛ مستوى الحليف ممثلا في أنظمة ودول استفاد منها أو استفادت منه طيلة محطات المواجهة مع الاحتلال، ومستوى الحاضنة الشعبية ممثلة في الأمة العربية والإسلامية والتي ظهرت ثابتة على مواقفها رغم التغيرات الكبيرة والانهيارات التي شهدتها دول كانت تشكل كتلا صلبة في المنظومة العربية.

في السنوات الأخيرة، وفي المستوى الأول، ثمة بُعد رسمي تبدل فيه الحال كثيرا، فحليف الأمس للقضية الفلسطينية أصبح الآن جزءا من منظومة إقليمية ودولية معنية بتصفية القضية، وفي أحسن الأحوال آخر يسعى لإبقائها تحت سقف أوسلو وإفرازتها، في مقابل منظومة رسمية أخرى ممثلة بإيران ترى في فلسطين ساحة من ساحات المناورة مع الغرب، وربما ساحة استثمار في السياسة الداخلية.

وفي المستوى الثاني، تبدو الحاضنة الشعبية العربية - المرهقة أمنيا واقتصاديا واجتماعيا - صحيح أنها موحدة بشكل كبير حيال القضية وثوابتها، لكنها منقسمة تجاه ما تشهده المنطقة من تطورات، ومنها الموقف من إيران وسياساتها، وهذا بالطبع بنسحب على الموقف من سعي طهران للحضور في الملف الفلسطيني.

ومن هنا يذهب البعض إلى أن المقاومة الفلسطينية هنا أمام رفاهية الاختيار، ما بين مستوى رسمي يمتلك الأدوات والتأثير، أو آخر شعبي لا يملك من أوراق الضغط شيئا أمام القبضة الأمنية للأنظمة، علما أن تاريخ حركات التحرر في العالم حافل بنماذج الاستفادة من المستويات الشعبية والرسمية في آن واحد.

هذا العرض لا يبدو حاضرا بشكل كامل عند إثارة النقاش بشأن علاقة المقاومة مع إيران، وهو جدل - بالمناسبة - لم يكن حاضرا قبيل ثورات الربيع العربي، وتحديدا قبل تورط طهران في الملفين السوري واليمني.
شعبيا، هناك انقسام حيال تفسير وتقبل هذه العلاقة، والتعاطي مع تبريراتها، أما رسميا فتظهر المنظومة العربية الرسمية رافضة بالإطلاق لهذه العلاقةـ وتضعها في إطار التدخل الإيراني بالشأن العربي، رغم أن الشأن العربي أصبح بابا مفتوحا للجميع، لكن يجري التركيز فقط على إيران، وأحيانا تركيا

شعبيا، هناك انقسام حيال تفسير وتقبل هذه العلاقة، والتعاطي مع تبريراتها، أما رسميا فتظهر المنظومة العربية الرسمية رافضة بالإطلاق لهذه العلاقةـ وتضعها في إطار التدخل الإيراني بالشأن العربي، رغم أن الشأن العربي أصبح بابا مفتوحا للجميع، لكن يجري التركيز فقط على إيران، وأحيانا تركيا.

وتعاطي النظام العربي مع إيران - وفي حالات أخرى تركيا - محكوم بما تقرره مصالح الولايات المتحدة وحكومات الاحتلال، وليست قضايا الأمن القومي العربي وفي عمقها القضية الفلسطينية، وبالتالي النقاش فيه يصل إلى جدار مسدود.

أما المواقف الشعبية وتحديدا في الجولة الأخيرة، فمن الضرورة إخضاعها للنقاش والدراسة، لا سيما وأن المقاومة الفلسطينية في أدبياتها وبياناتها كانت ما زالت تخاطب الشعوب العربية وقواها الحية عند كل محطة من محطات الصراع مع الاحتلال، ومطلوب منها الاستماع إلى هذا الجدل جيدا وعدم تجاهله.

وحجم التضامن والدعم الذي حظيت به المقاومة الفلسطينية في أدائها الأخير الذي كان لافتا لدرجة أن الصغير والكبير في دول عربية أصبح يعرف أبا عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، وينتظر ظهوره الإعلامي، شوّش عليه الجدل حيال العلاقة مع إيران، وتحول التركيز عن ما حققته المقاومة في هذه المواجهة إلى جدلية العلاقة مع إيران وحلفائها.
شوّش الجدل حيال العلاقة مع إيران، وتحول التركيز عن ما حققته المقاومة في هذه المواجهة إلى جدلية العلاقة مع إيران وحلفائها

ثمة ثلاثة مستويات يجري فيها التعاطي شعبيا في ما يتعلق بخيارات المقاومة الفلسطينية وتحديدا العلاقة مع إيران: مستوى يتقبل العلاقة وينتقد شكل التعبير عنها وأدواته، من منطلق مراعاة حساسيات لدى المتأثرين مباشرة بسياسات إيران ومليشياتها في أكثر من مكان، ومستوى آخر يتفهم العلاقة ويتفهم شكل التعبير عنها من منطلق الاضطرار، ومستوى ثالث متأثر بدعاية أنظمة عربية ترفض العلاقة شكلا ومضمونا، وبل ويصنف المقاومة الفلسطينية كذراع من أذرع إيران في المنطقة، ويضعها في سلة واحدة مع باقي الكيانات التي تأتمر بأمر طهران.

وربما ينحصر الجدل في غالبيته، وتحديدا منصات التوصل الاجتماعي في المستويين الأول والثاني، للأسف هناك تداخل وخلط كبير - مباشر أو غير مباشر - بين محاولات تحليل وفهم شكل العلاقة وبين شكل التعبير عنها سياسيا وإعلاميا، وهو ما ينعكس سلبا في كل مرة على جهود تقريب وجهات النظر أو توضيح هذا الموقف أو ذاك.

وأصبح كل موقف أو تصريح فلسطيني بشأن هذا الموضوع خاضعا لعدسات مكبرة، وسببا كافيا لإثارة نقاش لا ينتهي، ما أتاح فرصة الاستثمار والاستغلال لقوى معنية بتصفية القضية الفلسطينية وتشويهها، من خلال جيوش إلكترونية تعمل على مدار الساعة لتحقيق هذا الهدف.
أصبح كل موقف أو تصريح فلسطيني بشأن هذا الموضوع خاضع لعدسات مكبرة، وسبب كاف لإثارة نقاش لا ينتهي، ما أتاح فرصة الاستثمار والاستغلال لقوى معنية بتصفية القضية الفلسطينية وتشويهها، من خلال جيوش إلكترونية تعمل على مدار الساعة لتحقيق هذا الهدف

من جهة المقاومة الفلسطينية، هناك حاجة لتقديم إجابات كافية، ورواية واقعية تراعي الحساسيات، بل وضبط الخطاب السياسي والإعلامي لتجنب - قدر الإمكان - إثارة معاركَ المقاومةُ قبل غيرها في غنى عنها.

ليس بالضرورة أن تقنع هذه الرواية الجميع، ولكنها مهمة ضرورية يجب أن تؤديها المقاومة في إطار التواصل مع حاضنتها الشعبية عربيا التي ثبت أنها تشكل سدا منيعا أمام محاولات التذويب للقضية وشطبها من أولويات الشعوب العربية.

وفي المقابل، لا بد للنخب العربية التي تعبر أو تقود ردات الفعل هذه أن تدرك أن المقاومة الفلسطينية تعمل في حقل ألغام، وتتعرض لحملات تأتي في إطار تصفية القضية الفلسطينية، وهناك من يتربص وينتظر كل موقف ينتقد المقاومة الفلسطينية لتأطيره ضمن ما يسعى لجعله توجها في الرأي العام العربي.

الجدل لن ينتهي حيال خيارات المقاومة في علاقاتها، وحجم التداخل بين الأخلاقي والبراغماتي كبير جدا، ومستويات الفهم والتقبل تختلف حسب التوقيت والظرف السياسي، وهذا يفرض على الجميع، وتحديدا أنصار المقاومة، مرونة في تقبّل الرأي والاختلاف والخلاف، لأن المستفيد من ذلك كله بلا شك هو الاحتلال وأنظمة عربية تدور في فلكه.
التعليقات (0)