قضايا وآراء

قبل أن تنقض حماس غزلها من بعد قوة

ياسر عبد العزيز
1300x600
1300x600

هل لا تزال فلسطين قضية الأمة الأولى؟

قد يعتقد البعض أن السؤال بديهي، وأن فلسطين ما زالت قضية الأمة الأولى، لكن الحقيقة أن الأمر لم يعد كذلك، وإن ظلت فلسطين والقدس في قلب اهتمام الشعوب العربية والإسلامية. فالقضية إن لم تكن مسألة إنسانية في المقام الأول ترتبط باحتلال وتطهير عرقي، وإزالة شعب من أرضه وإحلاله بشذاذ الأرض، الذين أُتِي بهم من كل حدب وصوب، وهو ما جعل غير العرب وغير المسلمين يتعاطفون مع القضية، فإنها قضية أرض عربية إسلامية احتلت، وواجب المروءة استعادتها، ولأن العرب والمسلمين تجمعهم وحدة اللغة والثقافة والدين من قبله، فإنهم مجبرون بموجب هذه العوامل أن يفزعوا من أجل نصرة سكان الأرض المحتلة، ولما كان الدين حاضرا في أزمة فلسطين بالنسبة للمسلمين في أقصاهم، وكنيسة المهد بالنسبة للمسيحيين العرب وحتى الغربيين، فإن التحرك لتخليص مقدساتنا واجب ديني.

لكن السؤال لا يزال قائما: هل ما زالت فلسطين قضية الأمة الأولى؟ فالحرائق المشتعلة في بلداننا جعلت كل شعب مهتم بإطفاء بيته، وهو ما لا يمكن أن ينكر عليه. وأظن أن إشعال الحرائق في أغلب بلدان الأمة العربية هو لإشغال باقي الأمة بمشاكل لا طاقة لهم بها، مع وضع الحل بيد الكيان المحتل، فمن الحكام العرب من قضى في تطبيعه ومنهم من ينتظر.

المقاومة من قبل ومن بعد حماس

لم تقف المقاومة في فلسطين منذ اللحظة الأولى لاحتلال أراضيها، وهنا الحديث لا ينسحب على المقاومة الفلسطينية، ولكن عن المقاومة العربية والاسلامية. فمنذ اللحظة الأولى هبت الحكومات العربية من أجل الدفاع عن فلسطين، ولا تكاد تجد شبرا على أرض فلسطين إلا وارتوى من دم جندي أو مقاتل عربي أو مسلم، فالكل انخرط من أجل تخليص الأرض من براثن الاحتلال. ولعل هذا ما جعل القضية الفلسطينية من القضايا الأولى عند العرب والمسلمين. 

ولما كانت فلسطين هي الأقدم كقضية جامعة في تاريخ العرب والمسلمين فقد ظلت في وجدان العرب برمزيتها، وهو ما جعل الأنظمة العربية، تدفع بالمال والسلاح للمقاومة وتستضيفها على أراضيها كمقر أو منطلق. ومع اعتراف العرب ثم المجتمع الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية الجامعة، في حينها، لأغلب الفصائل المقاومة، أصبحت المقاومة أكثر تنظيما، وظل الأمر على ما هو عيه حتى اختارت المنظمة خيار أوسلو، فظهرت حركة المقاومة الإسلامية في غزة والضفة كبديل مقاوم. وجدت الدعم من بعض الدول العربية والإسلامية، ولم تجده من الباقي لظروف سياسية وتموضعات لا تتفق مع إمكانية دعم مقاومة مسلحة.

واستفادت إيران ومحورها الذي استطاعت تشكيله في الثلاثين سنة الماضية من هذه الثغرة، فتماهت مع المقاومة وأصبحت ظهيرا لها، تمدها بالسلاح والمال والتدريب. مع ذلك ظلت المقاومة قبل حماس وبعدها تحظى برصيد شعبي على مستوى الأمة العربية والإسلامية، وهو ما تظهره من حين لآخر أنباء استشهاد المقاوم (س) من دولة كذا والذي انخرط في الحركة منذ كذا أو الذي ساهم في تطوير كذا، ما يؤكد أن الأمة ما زالت ترى في القضية الفلسطينية محورا مهما للذود عن شرفها. ولعل أيضا الدعم المعنوي من خلال التظاهرات للضغط على الأنظمة لمناصرة القضية يؤكد ذلك، وكذا الدعم المالي من الشعوب العربية والإسلامية، بعد كل حرب تُستهدف فيها المقاومة وحاضنتها الشعبية في غزة. والشاهد أن القضية لا تزال في قلب كل عربي ومسلم، لكن..       

أين المشكلة؟

المشكلة كما ذكرت أنفا تكمن في كم الحرائق المشتعلة في ثوب أمتنا، ونظر كل طرف لنفسه على أن قضيته محورية وعليه حلها أولا. فالسوري يعيش منذ عشر سنوات بين القتل والاعتقال والتهجير، وكاد فيها أن ينتصر لولا تدخل الإيراني وإعطاؤه قبلة الحياة لنظام كاد ينتهي.. واليمني انتزعت إرادته بانقلاب من مليشيا موالية لمن أعطى قبلة الحياة لنظام بشار القاتل، فأعطتها إيران السلاح وزودتها بالخبراء لإمعان القتل في اليمنيين المقاومين الراغبين في يمن أفضل، فحولته إلى يمن ما قبل التاريخ.. واللبناني أول من عانى من دعم إيران لمليشيا تهيمن الآن على القرار، تعطل الحياة السياسية وتفرض أجندة طهران على البلد العربي، وتفرض معها هوية دخيلة على بلاده..

والعراق لحق بلبنان بعد احتلال أمريكا له، ففي غفلة من الزمن سيطرت إيران على مقاليد الأمور من خلال ساسة يقدمون مصلحة طهران على حساب بغداد، ولو ضحوا في ذلك ليس فقط بالمكون السني إرضاء لمعتقدات ملالي قم، بل يضحون بالشيعة من أجل مشروع إيران الفارسي التوسعي..

وبين كل ذلك تصدر إيران خطاب الدفاع عن فلسطين في ظل تخاذل عربي واضح، بل وتماهٍ إلى حد التطبيع مع الاحتلال، وهو ما يخفض أسهم الأنظمة العربية أمام شعوبها ويرفع في المقابل أسهم إيران "راعية المقاومة".

مع وصول الملك سلمان إلى الحكم في 2015 التقى رئيس المكتب السياسي في حركة حماس خالد مشعل، وهو ما ظنه الكثيرون ومنهم قادة حماس تحولا جذريا، ففرحوا به كثيرا، لا سيما وأن اللقاء سبقه تصنيف حماس إرهابية في كل من مصر والإمارات، وتبعه الإفراج عن معتقلي الحركة في سجون السعودية. وبداهة، كان المطلوب أخذ خطوة بعيدا عن إيران، في مقابل تلبية كل ما تحتاجه الحركة، وهي الفترة التي شهدت فتورا بين الحركة وإيران، لكن الشهور مرت، وأتى الجديد من ولي العهد القابض على الكثير من مقاليد الأمور في المملكة؛ على لسان وزير خارجيته بتوصيف حماس إرهابية.

مشكلة حماس تكمن في أنها والمقاومة محاصرة وغير مدعومة، وترى في نفسها أنها لا تدافع فقط عن نفسها أو عن فلسطين أو عن المقدسات، ولكن تقوم بواجب نحو الأمة أجمع، ومن ثم فإن على الأمة أن تضطلع بدورها في حملها ودعمها.

ومشكلة حكام العرب في تحولهم، مدفوعين بمصالحهم من ناحية وبالضغط الغربي والأمريكي من ناحية أخرى، عن قناعات لا تزال حماس تتمسك بها، بل وتريد أن تفرضها مستدلة بالدين والعرف والمروءة، ولذلك ترتمي حماس في حضن من فتح لها ذراعيه ممولا وداعما بالسلاح والعتاد والتدريب، غير آبهة في ذلك بجراحات الأمة، أو هكذا يخيل لمن يرى مواقفها، وهي من غير بديل للمناورة، وهو ما يترك أثرا على المستوى الشعبي.


ومشكلة حكام العرب أنهم يلعبون بورقة فلسطين للتمكين داخليا بإرضاء القطاع الأغلب الأعم من شعوبهم، وإن كانوا يعملون الآن على تقليص تلك الشريحة بالعديد من الطرق، لعدم تحمل عبء ورقة ضغط تحملها المقاومة. كما أن مشكلتهم الضغط المفروض عليهم والامتيازات المعروضة إن هم تماهوا مع الطرح الغربي للقضية الفلسطينية، وإذا تم دمج المقاومة في العملية التفاوضية مع قبولها بنتائج الواقع. ويستخدم في سبيل ذلك ذهب المعز (فتح المعابر)، وسيفه (تشديد الحصار والتصنيف على قوائم الإرهاب واعتقال عناصر الحركة)، وصولا لما تراه هذه الأطراف حلا بقيام دولتين، إحداهما مبتورة مقطعة الأوصال، منزوع الروح، مكبلة، تحتاج وصيا، والوصي بالقطع هو الاحتلال، وهو ما لا ترضاه المقاومة ولا حاضنتها الشعبية ولا أي حر.

لكن المشكلة أيضا تكمن في أن الحركة ببياناتها باتجاه إيران تستفز أنظمة عربية كبيرة تتخذ من إيران عدوا، بل وتذيقها إيران من كأس شرورها المر، وهو ما يخلق أزمة حقيقية بين الطرفين.

مكاسب حماس ومكاسب إيران

الواقع الملموس يقول إن حماس في تعاطيها مع إيران وتماهيها رابحة، فالحركة التي بدأت ضعيفة مستباحة من قبل الاحتلال أصبح لها أنياب، و"سيف القدس" شاهدة على ذلك. فالانتصار الذي حققته العملية والذل الذي ارتضت به تل أبيب لإيقاف الحرب يجعل الحركة تتمسك بنجاحاتها، لا سيما وأن التطور الذي شهدته على المستوى العسكري في إنتاج بعض سلاحها المؤثر يجعلها أكثر تمسكا بالطرف الداعم.

لقد كان لمقتل قاسم سليماني على يد القوات الأمريكية في العراق وتعزية رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، واصفا إياه بشهيد القدس، وقع سيئ على شعوب سوريا واليمن وشريحة عريضة من شعب العراق وسنة لبنان، كما ساء كل حر لا يقبل جرائم مليشيات إيران في هذه البلدان. وتجدد حماس عبر ممثلها في اليمن أوجاع تلك الشعوب وتحرك علامات الغضب مرة أخرى بذلك الدرع الذي أهداه للحوثي، قاتل الأطفال المنقلب على الشرعية.

لقد خرجت حماس من معركة سيف القدس منتصرة على كل المستويات، وأهم هذه الانتصارات في عودة قضية فلسطين إلى الواجهة، في ظل زخم جماهيري أعاد إلى المقاومة حاضنتها الشعبية التي التفت حولها من طنجة إلى جاكرتا، وكان لها أبلغ الأثر في الضغط على الأنظمة. لكن ممارسات الحركة السياسية التي قد لا تمرر من العامة رغم التبريرات ستفقدها تلك الحاضنة المتماهية مع كل خطوة تخطوها لتعطشها لأي إنجاز أو انتصار، في ظل حالة الإحباط الممنهج التي تضعها فيها الأنظمة ومن يحركها من الخلف في تقاطع مصالح مصيري لا يمكن أن ينفك، فبقاء أحدهما مرتبط بالآخر.

كما أن هذه الممارسات قد توصل الحال إلى أن يكفر العامة بما يرونه من براجماتية غير مسئولة، لا تكترث بهم، رغم أن الآخر مهتم.

ولقد سمعت من أكثر من مثقف عربي يمني وسوري وعراقي، أن الصهاينة لم يضرونا فلماذا نعاديهم! وهو ما لا يمكن قبوله، وستعلق شماعة التطبيع الشعبي بعد إذ على المقاومة البراجماتية.

وفي المقابل إيران ترى نفسها رابحة، إذ أنها استطاعت أن تتاجر بقضية الأمة وتظهر بمظهر المدافع عن المقدسات، وهو ما حدث في العدوان الصهيوني على لبنان 2006، حيث فتن العرب بحزب الله قبل أن يظهر وجهه الحقيقي في سوريا لاحقا. فالقضية الفلسطينية حصان طروادة الذي يخترق به المشروع الإيراني الفارسي دولنا العربية في وقت تخاذل فيه الجميع، وهو جل ما تريده ولذا تنفق عليه عبر دعم حماس.

قبل أن تنقض حماس غزلها من بعد قوة

وقبل أن تنقض حماس غزلها من بعد قوة أقول ناصحا: إن فقدانكم حاضنتكم الشعبية العربية والإسلامية هو شهادة وفاة لكم مهما دعمت إيران، ومن يكيد لكم من الأمة يمشي في نفس الطريق مع الأسف بشيطنتكم. فالمخطط هو أن تفقدوا الشلال البشري الداعم لتقفوا وحدكم في معركة هي معركة الأمة، وبعدها تتخطفكم بعض الأنظمة العربية من جهة، لتقدمكم قربانا على مذبح الصهيونية العالمية، لتفتح طهران يديها لكم، وهي لا تبعد كثيرا عن كعبة من باعوا أمتهم ليشتروا عروشهم.

فكما أن للصهيونية العالمية مشروعها ونحن بضاعته، فإن إيران لها مشروعها ونحن بضاعته، فيتداعى الفسطاطان علينا، ووقتها ستكونون مجرد ورقة تستخدم أينما شاء الملالي وتضيع البوصلة، أو خنجرا في خاصرة الأمة يطعن به من أراد عرشه على رضا رب العرش.

فعلى المستوى الاستراتيجي ما تقومون به الآن سيعود عليكم بالخسران مستقبلا، وترك مساحة بين المقاومة وإيران وعدم التماهي معها، هو العلاج. ولعل الوقت يهون الجرح، في ظل الحب الشعبي الجارف لكم، فلا تفقدوه، فأنتم بالنسبة للشعوب تمثلون الأمل والحلم في ظل عتمة الإحباطات التي تعيشها.. يقول الشاعر: وكم من طعنة بالمداراة وبالوقتِ تهون.. استقيموا يرحمكم الله.

التعليقات (0)