(الأردنيون في مأزق يستعصي فيه التئامهم كشعب، وصُنْع التنظيم السياسي الوطني الذي يعبر عن وجودهم في معادلة النظام وامتداده. وبفشلهم يشاركون في اغتيال وطنهم ويُساقون إلى خيارات غير محمودة)
وصلت الدولة الأردنية وشعبها لهذه المرحلة المؤلمة خطوة بخطوة، والنظام مستمر في مخاطبة الأردنيين بالكلام الواعد تعقبه الممارسات التي تعمق الحالة. ومع هذا يصر الأردنيون على تجاهل ما تحمله هذه السياسة من رسالة لا يمكن فصلها عن محددات إقامة الدولة. فقد ابتدأت بتصميم يقوم على عدم ترابط مكوناتها الأساسية من سلطة وشعب وأرض كي لا تترسخ كدولة وطنية، وأن لا يرتبط شعبها برموز الدولة الوطنية المعروفة التي تربطه بأرض دولته وتعطيه هويتها. وما كان لهذه الدولة أن تقوم في تلك الحقبة الزمنية لولا استمالة العشائر والتحالف معها لترسيخ الحكم.
ومع وحدة الضفتين وُضِغَت قواعد اللعبة الفتنوية بين المكونين لضفتي النهر من قبل المستعمر وأدواته وأدارها النظام، وما زالت تنال منا وتفتك بقضيتنا. ومع تضخم سكان الدولة كمُقتضى لكوارث
المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، عاد النظام للعشائر وفخخها وفجرها في داخل الحياة النيابية، بالتوازي مع صُنع الأحزاب وإفشالها لتفشَل فكرتها في عقول الناس. وخلال العقدين الأخيرين تمكن النظام من جعل الدولة أشبه بالإقطاعية السياسية.
وبهذا المفهوم، فإن القيادة الهاشمية التي اتفقت مع الإنجليز على قيام هذه الدولة ساهمت في منعها من أن تكون دولة وطنية (NATIONAL STATE)، ومنع شعبها من العمل السياسي الحر لتشكيل هويته السياسية الأردنية المرتبطة بأرض الدولة. وأدى ذلك في المحصلة مع تطور المشروع الصهيوني لإفشال الدولة، بعد إهدار مقدراتها وجهود شعبها.
والأردنيون اليوم يعيشون في دولة أشبه بالصورية بمستقبل ومصير غير مقروء لهم سياسيا.. قطاعها الخاص يُصفِّي نفسه مُضطراً، وقطاعها العام متضخم دون مؤسسية تؤمن ضبطه أو تمنع فلتانه أو فساده، ولا النظام قادر على ضبط إدارته أو أدائه أو ضبط سلوك موظفيه العامين الذين يستغلون تدهور الحالة العامة للدولة. وانعكس هذا على مصالح وحياة وسلوك المواطنين وفقدانهم البوصلة، وعلى سلوك النظام. فبينما اتخذ المواطنون سلوك الرفض والاقتراب من حالة العصيان المدني، اتخذ النظام سلوك القبضة الأمنية غير الراشدة، وأخضعهم لقوانين وممارسات تجاوزت طبيعتها قوانين المُستعمر وممارساته الى قوانين المُحتل وممارساته.
أمام هذا الوضع الأردني القائم والنهج السياسي الثابت، أليس الحديث عن
الإصلاح هراء وملغوم؟ لقد اعتاد النظام على استثمار مطالب الشعب بالإصلاح، ففي كل عملية إصلاح أجراها كان يُعمِّق بها الاختلالات والاستبداد بالسلطة والقرار. إلا أن العملية الإصلاحية الجارية حالياً والتي يتولاها النظام في غمرة خواتيم المشروع الصهيوني، مع بقاء نهجه السياسي قائماً، تنطوي على ملعوب خطير يرمي لتحميل صنيعته من الحكومات والمجالس النيابية مسؤولية قراراته المُقبلة. فالصلاحيات التي ستُمنح للمجلس تبقى وهمية وموجهة؛ لأن الأصل في الإصلاح بهذه الجزئية أن يبدأ بتخلي الملكُ أولاً عن ولايته على مجالس النواب والحكومات للشعب، ليكون تشكيلها ومُنتجها من إرادة الشعب.
السؤال الكبير هو: من المأزوم؟ هل هو النظام أم الشعب؟ ولماذا؟ وكيف الخلاص؟ أقول إن النظام ناجح بمسعاه ولا تهديد داخليا عليه، بينما الشعب هو الذي تتعرض مصالحه وحريته ووطنه للاستباحة، ومع ذلك يصر على عدم الاعتراف أو التعامل مع السبب الحقيقي المتمثل بمقتضيات المشروع الصهيوني في فلسطين والأردن، وبأن الأردن مستهدف بذات الاستهداف للشعب الفلسطيني، وبأن الفكر السياسي الصهيوني لم يعتبر الأردن يوماً إلا فلسطين الشرقية أرضاً وسكاناً.
لا أدري كيف لهذا الشعب الذي لا يمتلك من سلطة أو من حقوق المواطنة السياسية شيئاً، ولا هوية سياسية وطنية له، ويعيش في دولة تتراجع ويتعاظم فيها تهميشه وغموض مستقبله؛ أن يُصرُّ على أن يُفرغ حالة عجزه ومأزوميته بفتح المعارك البينية التي تعمق تفتيت اللُحمة الوطنية؛ على مسائل غير موجودة وحقوق لا يمتلكها. وكلها من طروحات العدو الصهيوني وأساسها التساؤل عمن هو الأردني ولمن الحقوق، دون أن يدرك شعبنا بأنه يُساق للعودة به لهوية مرحلة ما قبل عام 1921، ليبدأ المشوار الفلسطيني من نهايته.
أقول بهذا فإن أمامنا كأردنيين مسلّمة لو أدركناها وانطلقنا منها لكنا بخير وعلى الطريق الصحيح، وهي أنه لا هوية للأردني ولا مصير إلا كهوية ومصير الفلسطيني، وهذا هو وعد بلفور، ومهمتنا أن ننقلب على هذا الوعد.
وليعلم الأردنيون بأنه ما كان للنظام أن ينجح بالدور ولا أن يجد وسيلة للاستبداد وتمرير نهجه لو كان هناك شعب سليم البناء سياسياً وتوعوياً. إنهم اليوم يُساقون لحصرهم أمام خيار العبودية أو الرحيل بصمت، في ظل عجز مُفتعل في دولة "وديعة". وإذا لم يتدارك المواطنون خطورة صمتهم وسلوكهم فسيكونوا مشاركين في اغتيال وطنهم وحقوق أجيالهم، ولن يَحظوا عندها حتى بما حظي به هنود أمريكا، ولن يكون لهم في هذه الحالة بكّاؤون ولا داعمون أو متعاطفون، بل سيكونون مضرباً للمثل الأسوأ.
ولا تدارك ينفعنا قبل أن نُدرك بأن المشروع الصهيوني هو نقيضنا الوجودي ومن يلاحقنا، وبأن الفلسطينيين توأمنا التاريخي، والقضية نشأت فلسطينية- أردنية بالأساس ولن تكون إلا هكذا، وبأن حل الدولتين الذي يتوهمه البعض مخرجاً ابتدأ خدعة، يلعب بها عبيد الصهيونية من العرب والمطبعين. فهو حَلٌ مرفوض من الصهيونية نفسها ومن الشعب الفلسطيني أيضاً، ولا وجود ممكناً لهذا الحل، ولا سلام معه حتى لو رضخت له "إسرائيل"، فلا المنطق ولا الشعب الفلسطيني ولا العربي عامة يقبل بأقل من رحيل المحتل وهذا وحده ما يحقق السلام.
الأردنيون اليوم في مأزق يستعصي فيه التئامهم وصُنْع التنظيم السياسي الوطني الجماهيري ومشروعه الإنقاذي الذي يعبر عن وجودهم كشعب في معادلة النظام والمعادلة الدولية، والذي بدونه لن يحصل التغير وتكون النتائج كارثية. لقد اتجه الأردنيون بعيداً عن مواجهة هذا التحدي؛ نحو تعدد التشكيلات السياسية المتوالدة والمتنافسة التي فاقت المائة، ولا يَعترف أو يأبه النظام بها لتشرذمها وفقدانها للمرجعية الشعبية الجماهيرية والشمولية الوطنية، وبالتالي فقدانها للقيمة السياسية والتأثير.
تحت وابل الموروث الاجتماعي اللا عصري، والإقليمية التي لا أساس "سايكوسبيكي" لها في الأردن وفلسطين، والمعبر عنها في الثنائية الغبية "فلسطيني– اأردني"، جاء هذا العجز والهروب من التحدي على شكل تشرذم سياسي أهدر به الأردنيون ثقلهم وفاعليتهم، وشجعوا النظام ومكنوه من تعظيم تهميشهم وتغيب رؤيتهم في الإصلاح، وأشاعوا اليأس بين الأغلبية الصامتة، وأوصلوا المعارضين المزيفين من أصحاب الأجندات والمصالح الشخصية ووسعوا نطاق المنافقين. فكيف لأي تنظيم أو تشكيل أردني حر معارض أو غير معارض أن يتساءل عن تغييبه من لجنة الإصلاح وتغييب منظوره مثلاً؟
الأردنيون في أزمة وطن ووجود ولا يمكن أن يُختزلوا بشخص، ولا أن يكونوا كماً سكانياً في وطنهم معزولين عنه وعن حقهم به، وحقه عليهم بالحماية، ينتظرون ساعة لا ينفع الندم فيها. لا بديل لـ"الشرق أردنيين" و"الغرب أردنيين" عن المواجهة السياسية الجماهيرية، وعن وحدتهم الوطنية بهوية شعب واحد لا بهوية مكونات وعشائر ومناطق وأيديولوجيات. ولا مجال أكثر لدجل النضال واختزاله بنطاح البيانات وتسجيل المواقف الاجتماعية والعشائرية والإقليمية على ظهر وطن وقدسية مُعتقد وحقوق أجيال.
ولا مناص لهم من التغلب على أسباب عجزهم وتهميشهم، فنحن أصبحنا عراة أمام مشهد عار. نحن بحاجة إلى تعبئة سياسية ثقافية توعوية في تنظيم سياسي وطني تذوب فيه المكونات، فالحرص على الوطن من الضياع والنفس من التيه والذل لا يكون إلا بمواجهة التحدي بثقل شعبي يُقنع الملك بأن هناك شعبا متجذرا لا يمكن تجاوزه، وبأنه على أرضه أقوى من أمريكا وأقدر على حماية المَلك والمُلك، وأوفى. هذه هي نصرة الملك لمن يريد نصرته، وهذه هي نصرة الوطن وإنسانه والقضية لمن يريد ذلك.. ومن هنا يبدأ المشروع.