كتب

جعيط وتشكيل دعائم الدولة في الغرب الإسلامي وتركيز مؤسساتها

هشام جعيط: الفتح الإسلامي نقل أفريقيا من مصير تاريخي إلى آخر مختلف تماما (فيسبوك)
هشام جعيط: الفتح الإسلامي نقل أفريقيا من مصير تاريخي إلى آخر مختلف تماما (فيسبوك)

الكتاب: تأسيس الغرب الإسلامي: القرن الثاني والثالث هـ/ السابع والثامن م 
الكاتب: هشام جعيط
الناشر: دار الطليعة ط 2بيروت، لبنان، 2008 .
عدد الصفحات: 261 صفحة

انطلاقا من استقرائه للمصادر المختلفة، أعاد هشام جعيط في الشطر الأول من كتاب "تأسيس الغرب الإسلامي"، "إخراج"حدث فتح المغرب وفق تصوّره. فقدم للقارئ سردية مقنعة تقلّص من فجوات تاريخ الإسلام المبكّر في هذه الربوع. ومن أهمّ ما خلصت إليه كتابته أن المقاومة البربرية كانت شرسة وشجاعة ولكن بلا أفق، وأنّ البربر، لأسباب حضارية، لم يكونوا جاهزين بعد لبناء دولتهم الخاصة. وهذا ما يجعل اندماجهم في الإمبراطورية الإسلامية قدرا مسطورا.

1 ـ المغرب ومسار الاندماج في الإمبراطورية الإسلامية

إلى أي حدّ يمكننا أن نسلّم بأطروحة جعيط هنا؟ فكتابه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" يبرز لنا بجلاء أنّ العرب انتقلوا سريعا من طور البداوة التي تحكمها العصبية القبلية وأعرافها إلى مرحلة الدولة. ولكن، أين للبربر بحنكة الرسول أو بدور الإسلام في صهر التصدعات بين القبائل المتصارعة؟

بصرف النّظر عن مدى وجاهة هذه القناعة، فقد نقل الفتح الإسلامي أفريقيا من مصير تاريخي إلى آخر مختلف تماما، تمّ خلاله تركيز دعائم دولة المغرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن الطبيعي أنّ تأسيس المغرب الإسلامي لم يتم دفعة واحدة، ولكن المؤرخين يختلفون في تحديد أطواره ومراحله. وضمن عمله على إعادة "إخراج"حدث الفتح، يقارن بين الروايات ليحدد أطوار قيام ولاية أفريقيا، مولّدا عديد الإشكاليات الفرعية، كأن يبحث في صفة عقبة ين نافع باعتباره غازيا قائدا عسكريا، أو باعتباره عاملا على ولاية من ولايات "دار الإسلام"، وكأن يخوض في  العلاقة الإدارية والقانونية بين مصر وأفريقيا في فترات مختلفة من حدث الفتح. 

ويقدر، بعد الفحص والتمحيص والمقارنة بين الفرضيات المختلفة، أنّ "مكانتها"، ويقصد أفريقيا، "بالنسبة للمقاطعة الأم؛ أي مصر، لا تختلف مع نظيراتها خراسان أو المجالات الفارسية الأخرى بالنسبة إلى البصرة والكوفة. وهكذا كانت بين 27 و55 للهجرة أرض جهاد ثم ولاية عادية بداية من آخر تاريخ ذكرناه. وفي تينك الحالتين، ستعرف أفريقيا إشراف الفسطاط بدون انقطاع، وهي وضعية قانونية كانت دائما مقبولة من الخلفاء".

2 ـ بناء الدولة وتركيز المؤسسات

يمثل الطور الثاني طور "الولاة والأمراء". ويصفها الباحث بكونها مرحلة الاندماج الفعلي للمغرب في الإمبراطورية الإسلامية، ويحدّد تاريخها بالقرن الممتدّ بين سنتي 84 ـ 184 هـ. وواضح أنه يترك فراغا بين أفريقيا التابعة للفسطاط وأفريقيا الولاية القائمة الذات، يستغرق انتفاضتي كسيلة والكاهنة، وأنه يجعل نهاية القرن قيام الدولة الأغلبية. 

ولكنه لا يلاحق الأحداث ولا يدرس عواملها المحركة أو يبحث في تتابعها الخطي، بقدر ما يدرس مؤسساتها ويعرض من خلالها كيفيّة تنزيل النظام الإسلامي في الواقع والمجتمع، وبناء أركان الدولة و"تأسيس الغرب الإسلامي" نهاية، عبر إعادة بناء الحياة العامة على مستويات الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وعلى مستوى التنظيم الإداري والقضائي والعسكري. 

ولتغيّر الوضع القانوني والإداري تبعات كثيرة، لعلّ أهمها تغيير صيغة أفريقيا من أرض جهاد تطالب بها الإمبراطورية الإسلامية، فتمنح نفسها الحق في سبي نسائها وأسر رجالها وتطلق يدها في ثرواتها، إلى أرض إسلامية تتمتع بكامل الحقوق. ويناقش جعيط التفاعل بين النموذج البيزنطي لتشكيل أجهزة الدولة والإضافات العربية، فيبدو حريصا على إبراز التفوق الساحق للتصوّر العربي على النظام الموروث من بيزنطة، ويهدف من وراء ذلك إلى تصحيح تصورين رسخا في أذهان المؤرخين:
 
ـ أنّ المؤسسات الإسلامية في دار الإسلام، ويريد مركز الخلافة في المدينة ثم الشام ثم العراق، أفادت بدورها من الموروث البيزنطي، ثم أخذت تتحرر منها وتبحث عن منوالها الخاص منذ خلافة  عبد الملك (65 ـ 87) هـ. وهذا ما يعني أنّ تشكيل الدولة في الغرب قطع المسار نفسه الذي  قطعه الشرق.

ـ أنّ المدرسة التاريخية الفرنسية، تدرس هذا التاريخ من منطلق ثنائية الشرق والغرب، وهي ثنائية غير موجودة في التفكير السياسي العربي. فالأمر يتعلق بمركز قائم في عاصمة الخلافة وأطراف تنتشر حوله.
 
3 ـ منهج مختلف ونتائج مغايرة

يقارب جعيط مسألة تأسيس المغرب وفق رؤية تأليفية تربط مسار الأقاليم البعيدة أو الأطراف بالوضعية السياسية في مركز الإمبراطورية، وتفضي مقاربته هذه إلى نتائج تختلف عمّا كتب في هذا الموضوع؛ فتبرر تراجع التوسع العربي في أفريقيا بالتنازع على السلطة في دار الإسلام ثم بالتمرّد الزبيري لاحقا، على خلاف ابن عبد الحكم، في أثره "فتوح أفريقيا والأندلس" مثلا. فقد طلب عمرو بن العاص الإذن بغزو أفريقيل بعد أن حسم أمر مصر وبلغ برقة سنة 21 هـ، وفق هذا الأثر، ولكنّ الخليفة عمر رفض ذلك رفضا قطعيا، قائلا؛ "إنها ليست بأفريقيا ولكنها المفرّقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت". 

وعلى النحو، تبدو وجهة نظره أكثر تماسكا حين نقارنها بالاعتقاد الذي يسود لدى عدد من المؤرّخين، ومداره على أنّ الأمويين عامّة لم ينظروا إلى أفريقيا باعتبارها وجهة جديدة للإسلام، بقدر وجدوا فيها مصدرا للموارد؛ فقد "كانوا" فيما ينقل الحسين بن محمد شواط عن مصادر مختلفة، "يستبيحون طرائف المغرب ويبعثون فيها إلى عمال أفريقيا... فيرسلون لهم البربريات السنيات"، ص 68. ويجدون في ولاية عبيد الله بن الحبحاب ما يبرر هذه السياسة بجلاء. ويعتقدون أنّ عمر بن عبد العزيز مثّل الاستثناء؛ فقد  أرسل، نهاية القرن الأول، ابن أبي المهاجر وعشرة من التابعين ليعلموا البربر دينهم. وقضى أغلبهم هناك، وبذلك تأسست اللبنة الأولى للقيروان باعتبارها مركزا للعلم، لا محطة ترحال لجيوش الفاتحين.

والحق، أن قراءة جعيط  تبدو أكثر إقناعا وانسجاما مع مسار تاريخ الدولة الإسلامية، وفي الآن نفسه يختلف تصوره للتنظيم الإداري في أفريقيا عن السائد. فإبراهيم جدلة في أثره "مدخل إلى دراسة السياسة المالية ببلاد المغرب، من القرن الأول إلى القرن الخامس" مثلا، يعتقد أن حسّان بن النعمان وجد النظام المالي والإداري قائما بعد، "فصالح على الخراج وكتبه على عجم أفريقيا وعلى من أقام معهم على دين النصرانية"، وكان ضريبة إجمالية تدفعها المجموعة وتبعث بها حين يحين وقتها. ورغم أنه يقدّر أنّ هذا النظام لم يختلف كثيرا عن نظيره المشرقي المتأثر بدوره بالموروث البيزنطي، فإنه يقدّر أنّ هياكله الإدارية لم تتطور كثيرا؛ لأن استقرار البلاد لم يتحقق إلا في عهد موسى بن نصير (88هـ ـ 96ه). وأنها لم تبلغ أوجها إلا في العهد الفاطمي. 

4 ـ التاريخ والسرد ولعبة المربكة 

لهشام جعيط مقاربات عميقة، قوامها معرفة جيدة بالمصادر والمراجع وبالعلوم الإنسانية وبعلم الاجتماع السياسي، خاصّة. فتشع ترسانة من المفاهيم من خلال كتاباته بشأن القبيلة والدولة والإمبراطورية والحكم السلالي والفتح والجهاد، لتصل بين الوقائع المختلفة وتعيد بناء الأحداث ضمن رؤية شمولية تأخذ بعين الاعتبار حركات الأفكار في الذهن وحركات المجتمعات في الواقع. هذا شأنه في عامة كتاباته. 

وأما في مبحث تأسيس المغرب الإسلامي، فيصطدم بشح المصادر والمراجع، ولم يكن له من بدّ غير مواجهته بمقاربته الخاصة وأسلوبه المتفرّد. فكثيرا ما واجه الثغرات التاريخية والأحداث المنقوصة باعتماد السرد والتخييل، في ضوء تطور الأحداث اللاحقة ومن منطلق دراسته العميقة للبنية النفسية والذهنية للشخصية المعنية. فماذا حدث لينتفض كسيلة على عقبة بن نافع بعد أن رافقه في رحلة الفتح في المغرب الأقصى؟ 

لا تجود الروايات على المؤرّخ بالتفاصيل. فيفترض، من منطلق تمثله للعمق النفسي للقائد العربي إساءاته المختلفة للقائد البربري وتعاليه عليه؛ "فعلى طريق العودة لا بد أن يكون القائد العربي قد أهان قائد أوربة كسيلة بطرق متعدّدة، وذلك بالرغم من نصائح أبي المهاجر الحكيمة والحصيفة. لقد اغتاظ كسيلة وجرح في الأعماق، وعندما وجد نفسه على أرض قبيلته، قام بالاتصالات الضرورية مع قومه ومع البيزنطيين، وبما أنه أصبح غير قادر على تحمّل هذا التحالف الذي تحوّل إلى تبعيّة مذلة، فقد فرّ وجمع قومه ونصبوا كمينا لعقبة". 

على هذا النحو، كثيرا ما كان جعيط يلجأ إلى السرد ضمن فهم مخصوص للتأريخ، يجعل المؤرخ أقرب إلى لاعب المربكة (puzzle)  الذي يعيد تركيب المشهد الكبير انطلاقا من مئات المكونات الجزئية المتناثرة. وقد يحدث أن تُفقد بعض القطع فيعيد رسمها بنفسه رسما مشروطا بانسجامها مع اللوحة الكلية، ضمن تصور للتاريخ تتساكن فيه صرامة العلم مع خيال الفنّان.

5 ـ "جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" مرّة أخرى

يمثل الكتاب مواصلة بشكل ما للبحث في "جدلية الدين والسياسة" التي طرحها هشام جعيط في أثره "الفتنة"؛ ففي هذا الكتاب يرصد بداية تشكل العقل العربي في مرحلة الإسلام المبكر، ويجد قريشا الفضاء الأنسب لظهور الدعوة لعديد العوامل الموضوعية، ويرى أنّ المرحلة المدنية انتقلت بهذا العقل من القبيلة إلى الأمة، فتشكلت نواة دولة ذات أساس عسكري ونواة جدل بين الديني والسياسي، سيميّز هذا العقل لاحقا. 

ورغم تقديره أنّ الرسالة الإسلامية فقدت شيئا من هالة صفائها بسبب "إظهار النبي بوادر عودة كثيفة إلى الوطن وروابط الدّم"، فإنه بصادر على أنّها اكتسبت، "من جراء ذلك الفعل بالذات، الشروط السياسية للنجاح في هذا العالم" (ص 31). فبعده وبفضل مركزية قريش ورمزيتها الدينية، سيتم توحيد كامل الجزيرة العربية، وسيكون للدين الكلمة الفصل في ذلك. فكان هذا الأثر، في عمقه ملحمة يتخذ فيها الصراع بعدا جسديا عنيفا ويراق فيها الدّم، ولكنها تفضي إلى بناء الأمة وتحقيق الكينونة الجماعية. 

أما في "تأسيس المغرب الإسلامي"، فقد عمل على التعمق في فهم تاريخ المنطقة، منطلقا من فعاليات الأفراد والمجتمعات في الماضي، وعلى تفسير مجرياته، من زاوية نظره الخاصة التي تنفتح منجزا على العلوم الإنسانية، في الأنتروبولوجيا والاجتماع والفلسفة خاصّة، وعلى منهج المدرسة الاستشراقية في تدوين التاريخ، دون أن تلتزم بها حرفيّا؛ فكان يستحضر دائما العوامل المادية والخلفيات الفكرية أو الحضارية وما ينشأ بينهما من الجدل، فلا  يقدم تأسيس المغرب باعتباره نصرا من الله وفتحا وغير ذلك مما يذهب إليه المتحمسون للدين، ولا يمعن في مدح "المقاومة البربرية الشرسة" للمستعمر العربي، بقدر ما ينزّل الأحداث ضمن الحتم التاريخية التي تفرض مواجهة غير متكافئة بين إمبراطورية قوية نهمة وشعوب قبلية لم تعرف الدولة ولم تكن جاهزة لهذا التحدي، فكانت تتحدى قدرها وتخوض معركتها وحيدة، رغم يقينها بالنهاية الحتمية. ومن ثمة فكان ينزّل الأثر ضمن أفق تراجيدي، فيه يصارع البطل من أجل الشرف ودفاعا عن الحرية، كذا كان قدر كسيلة وكانت نهاية الكاهنة. 

وعامة، كان هشام جعيط يعمل على تحرير فهم الفعل السياسي من دائرة المقدّس، وعلى تحرير فعل التأريخ من الأيديولوجيا، فيتخلّص من كل الأفكار المسبقة وينزّل الحدث التاريخي في سياقه الحضاري أولا، ويسلط عليه عقل اليوم بمختلف مكتسباته لفهمه وتفسيره. 

 

اقرأ أيضا: أفريقيا من غزوات الاستكشاف إلى حملات الفتح.. رؤية هشام جعيط


التعليقات (0)

خبر عاجل