قضايا وآراء

ما بين حركة السودان ونهضة تونس: "نتفهم"

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600
(١)
ما هو تأويل التفهم عند الحركتين؟

ففي بيان المؤتمر الوطني ١٣ نيسان/ بريل ٢٠١٩م، ومع تحولات سياسية فارقة في المشهد السوداني جاء فيه: "نتفهم دواعي التغيير"..

وفي بيان حركة النهضة التونسية الخميس الماضي (5 آب: أغسطس ٢٠٢١م)، وفي بنده الأول: "نتفهم الغضب الشعبي المتنامي، وخاصة في أوساط الشباب بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي بعد عشر سنوات من الثورة"..

هل هو إدراك متأخر للمتغيرات الكثيرة والتحولات المجتمعية، وعمق الهوة بين الواقع المعاش وتصورات هذه التيارات السياسية؟ أم أن الأمر محاولة للتعامل مع الواقع بالمسايرة والواقعية وتجنب الدخول في معارك سياسية غير مجدية؟ أم مجرد هروب من مناقشة الواقع والإقرار الجهير بالإخفاق والخلل..؟

ليست بالضرورة هناك إجابة قطعية، ولكن بالتأكيد هناك إشارات مهمة، تستوجب القراءه المتبصرة والرؤية الحصيفة..

قبل أن نجيب على هذه الافتراضات، لا بد من التأكيد على حقيقتين؛ الأولى أن هذه الحركات ذات تأثير في المشهد السياسي وذات فاعلية في بلدانها وفي المنطقة، وبالتالي فإن المراجعة والتقييم والإخفاق والقصور دليل عافية على الحياة مع أهمية التطوير والترقي، والنقطة الثانية أن الإسلام السياسي محل استهداف واسع، بأجندة وخطط وأموال وأجهزة.. كما أنه محط أمل وتطلعات بما يملك من تجربة ومنهجية ومرجعية..

(٢)
في معايدة عيد الأضحى عام ٢٠١٧م، كنا في لقاء إعلامي بدار د. فيصل حسن إبراهيم، مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم حينها، وأذكر أنني قلت له عبارة أعددتها بعناية: "إنكم تتحدثون بلغة قديمة لا يفهمها الجيل الجديد باهتماماته وتطلعاته". وهذه واحدة من قناعاتي، لأن نشوء أجيال جديدة يتطلب طرائق جديدة َوفاعلية وحيوية جديدة.

لقد أحدثت تقنيات الاتصال واقعاً جديداً، يؤسس على بناء التصورات "الفردية"، ويتجاوز مفهوم "العقد الاجتماعي"، وشاعت روح العمل الإنساني والجمعيات الخيرية والطوعية، وتعززت مفاهيم جديدة في مجموعات صغيرة ومعزولة عن بعضها وذات اهتمامات خاصة وأشواق خاصة، وهذا أمر لم تتفطن له القوى السياسية؛ ليس في السودان، َإنما في أعتى الدول الديمقراطية.. وانظر إلى جماعة البيض الداعمة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكذا جماعات متعددة في الغرب.. بما يستوجب أن تُطور الأحزاب السياسية أدواتها وأدوارها ووظائفها..

لقد استغلت بعض القوى السياسية السودانية هذه المعطيات لاختطاف القرار السياسي. ونهاية الأسبوع الماضي سمعنا عن حشد لجماعات فاقت مسمياتها أكثر من ٤٠ وعضويتها ١٣٠ شخصا، وهذا مثال فقط، مع أنها مجرد فقاعات وظواهر.. وهناك وجه آخر لهذه التشكلات في تونس.. وقد تنامي إحساس المناطقية، بينما أصبحت "الجماعة الاجتماعية"، ونقصد بها القبيلة والطريقة والطاعات المجتمعية والحركات المناطقية، حواضن أكثر رسوخاً ورواجاً وعابرة للقوي السياسية في السودان..

(٣)
هذا "التفهم" يعبر عن حقائق أخرى مهمة، ومنها غياب القدرة على استشراف المآلات وقراءة المخاطر والتعامل معها بحصافة. لقد كانت المعلومات متوفرة والإشارات واضحة، ولكن القدرة على التفاعل بطيئة، مما أتاح فرصة لخيارات أخرى، ولم يعد هناك مجال سوي المسايرة وإعادة ترتيب الأوراق..

والحقيقة الثانية، أن التعويل على السلطة وفاعليتها كان كبيراً، وفي حالة السودان فإن المؤسسات الحزبية كانت الأقل مساهمة في التعامل مع الأحداث والمتغيرات، ولم يقم الحزب بنقلة كبيرة لإحداث الفارق. لقد تم تغيير ثلاث حكومات في ظرف عام واحد، بينما قيادة الحزب باقية.. ذهبت حكومة الفريق بكري في ٢٠١٨م، واستمرت حكومة معتز موسى شهور معدود (١٥٦ يوما). وفي شباط/ فبراير ٢٠١٩م برزت حكومة د. محمد طاهر إيلا.. والأمر كذلك في تونس، ورغم القناعة بفشل حكومة المشيشي إلا أن النهضة تمسكت بها لآخر لحظة.. وفي النهضة فإن الحديث عن التجديد حديث ذو شجون بين قطاعات الحركة..

الحقيقة الثالثة، أن الحديث عن المراجعة جاء خجولاً، مع ذلك ينبغي أن يكون عملية مستمرة ومتجددة ومتصلة.. وفق المستجدات والضرورات..

وفي كل الاحوال، فإن المطلوب من هذه الحركات والتيارات أكثر مما أُعطي، ورغم كل العثرات فإن إمكانية تقديم نموذج أكبر من أي قوى أخرى، فقد تكلست القوى التقليدية، وانحسرت فاعلية التيارات القومية، ولا يملك اليسار سوي "اكليشيهات" من الهتافات.. وبالقدر نفسه فإن التحدي كبير ليس داخلياً فحسب وإنما دولياً وإقليمياً.. فالأمر ليس "تفهم" متغيرات وإنما تعامل مع معطيات جديدة..
التعليقات (0)