هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قديماً قالت العرب: "المعنى في بطن الشاعر"، وذلك لتفسير مقولة تحمل أكثر من معنى، وقد ارتبط الأمر ببيت شعر لشاعر، يحتمل معنيين، أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، وكذلك مقولات السيسي، بل معظم مقولاته، والجديد فيها هو حديثه عن إعادة صياغة المعتقد!
مشكلتنا مع جناب المشير، هي في عدم قدرته على التعبير عما في رأسه، ولهذا يحدث جلبة عبر منصات التواصل الاجتماعي، عندما يتكلم، لاسيما في شأن من شؤون الدين، وهو يعتقد أنه الإمام المجدد، يوشك أن يدعي أنه يوحى إليه، ولماذا يوشك وقد ارتفع بنفسه ليكون واحداً من أولي العزم من الرسل، عندما ادعى مؤخراً أنه كليم الله، وأن الله تعالى قال له، وفي مرة سابقة على ذلك، ألمح بما لا يحتاج إلى تصريح بأنه في مقام نبي الله سليمان، عندما قرأ جزءاً من آية "ففهمناها سليمان.."، بشكل فهمه من استمع إليه بدون أية إشارات إضافية، على نحو كاشف بأننا أمام حالة لابد وأن تنتهي إلى الحكم بالحق الإلهي!
في مداخلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، قفز من حديث إلى حديث آخر بدا أنه ما يسيطر عليه عندما قال: "من يوم ما تولدنا المسلم مسلم والمسيحي مسيحي.."، "فمن ساعة ما تولدنا لقينا مكتوب في البطاقة مسلم ومسيحي.. احنا عاوزين نغير الفكرة والمنطق دا"، ومن ثم دعا إلى ما أسماه بإعادة صياغة المعتقد، من خلال التفكير فيه!
فالحاكم الذي لا يسمح بالتفكير في تغييره، يدعو المصريين للتفكير في دينهم، وفي الوقت الذي لا يسمح فيه بمناقشة عدم اقتناع الناس به، ويريد منهم الإيمان بدون تفكير، يدعو الناس لإعادة صياغة معتقداتهم، وفي الوقت الذي ليس مسموحا للمصريين فيه بالعمل من أجل تغييره فإنه يدعوهم إلى تغيير الدين، ولا يسلمون بما جاء في خانة الديانة منذ المولد!
الداعي والدعوة:
حالة عبثية حقاً، لكن إذا تجاوزنا الداعي إلى الدعوة، والسيسي إلى ما يدعو اليه، وجدنا أنفسنا أمام طلاسم، تسبب فيها عدم قدرته على التعبير، ليصبح من الطبيعي أن ندعوه إلى إعادة صياغة ما يقول، قبل أن يدعونا إلى إعادة صياغة المعتقد، أو الاستعانة بصديق ليعبر عنه بتفسير معتمد لما يقول، لكي يقفل الباب على الذين يستهويهم الاجتهاد مع النص، فيذهبون بعيداً، إلى حد إراحة النفس باتهامه بالعداء للإسلام، أو أنه يدعو للديانة الإبراهيمية، المعتمدة في أبو ظبي، وهذا ليس صحيحاً وإن كان مريحاً.
فبالعودة لتصريح قديم له، بدا بدون مناسبة، ككل تصريحاته الخاصة بالدين، عندما قال إنه لم يسلم بصحة كونه مسلماً، إلا بعد تفكير عميق، انتهى به إلى أن يكون كذلك عن إيمان واقتناع، أو كما قال، فقد أعدنا صياغة تصريحه ليصبح صالحا للقراءة والفهم، ومن ثم فإن أي حديث عن العداء للإسلام أو الدعاية لديانة أرضية إنما يدخل في باب المناكفات السياسية، ولاسيما وأن دعوته لإعادة صياغة المعتقد ليست قاصرة على المسلمين فقد استهدف المسيحيين أيضاً، والذين نكفيهم بحماسنا شر كثير من الحروب، فيعتزلوها باعتبارها لا تخصهم، تماما كما نجح بعض المسلمين في تحويل الحرب ضد العلمانية وكأنها معركة إسلامية، في حين أن نشأتها الأوروبية تقول إنها نشأت ضد الكنيسة، وتماما كما يحث عندما ترفع الأنظمة التافهة الانتماء الفرعوني في مواجهة الانتماء الإسلامي، مع أن استدعاء الفرعونية يمثل اعلان حرب على الديانتين المسيحية واليهودية، فموسى عليه السلام هو من دخل في حرب مع فرعون، والمسيحيون المصريون سحلوا الفراعنة "الوثنيين" في الشوارع!
لكن لا بأس من خوض حروب الاستنزاف هذه بالنيابة عن الغير أو بالأصالة عن النفس، وقد خاض المسلمون المعركة الخاصة بإعادة صياغة المعتقد، فاعتبروها موجهة ضدهم بالأساس، مع أنها شملت "المسيحي" مع "المسلم"، لتبقى المشكلة كامنة فيما يريد أن يقوله الشاعر؟!
المصريون كافة:
فالظاهر من مقولات السيسي أنه يدعو المصريين كافة، إلى التفكير في ديانتهم، ليؤمنوا بها أو يكفروا، ولم يقل من أين البداية، وهل نعود مثلاً منذ بداية عبادة الأصنام، لنصل لمرحلة هذا ربي هذا أكبر، ونمر بمرحلة الشك للوصول إلى اليقين، هذا إذا وصلنا؟، وما هو الموقف القانوني لمن بدأ التفكير ولم يقتنع بدينه؟، والقانون الحالي يعاقب الملحدين بتهمة ازدراء الأديان!
لقد فهم البعض إنه بذكر "البطاقة" انما ينوي الاستجابة لمطالب حقوقية بإلغاء خانة الديانة، ومن ثم أعلن محامي الكنيسة نجيب جبرائيل، أنه بصدد إقامة دعوى قضائية لإلغاء خانة الديانة من البطاقة، وغضب المسلمون أيضاً لإحساسهم المزمن بالاضطهاد، وماذا في هذه الدعوة يغضب؟
ربما لدى السيسي مآرب أخرى مثل سعيه للاستجابة للدعوة الحقوقية ولإرضاء الغرب وتقديم خدمة وهمية للمسيحيين بإلغاء الديانة في البطاقة، وقد استدعاها بدون مبرر، لأن تدوين الديانة "من ساعة ما تولدنا.." لا يكون في البطاقة، ولكن في شهادة الميلاد!
المسيحيون، والحقوقيون، يرون أن حرص الدولة على الإبقاء على خانة الديانة في البطاقة هو تصرف طائفي يستهدف التمييز لكي يُستبعد المسيحيون من وظائف بعينها، وكأن هذا هو العلامة الدالة على التمييز، ولا يعرف الناس المسلم والمسيحي بمجرد الاسم، وكأن المسيحيين لا يمارسون التمييز الطائفي بدق الصلبان على أيديهم؟!
لظاهر من مقولات السيسي أنه يدعو المصريين كافة، إلى التفكير في ديانتهم، ليؤمنوا بها أو يكفروا، ولم يقل من أين البداية، وهل نعود مثلاً منذ بداية عبادة الأصنام، لنصل لمرحلة هذا ربي هذا أكبر، ونمر بمرحلة الشك للوصول إلى اليقين، هذا إذا وصلنا؟، وما هو الموقف القانوني لمن بدأ التفكير ولم يقتنع بدينه؟، والقانون الحالي يعاقب الملحدين بتهمة ازدراء الأديان!
أكبر المؤسسات الحقوقية التي تتبنى هذه الدعوة هي "المبادرة المصرية"، وهي كعبها عال على دولة العسكر، وشاهدنا كيف أنها عقدت ندوة مؤخراً حضرها لفيف من سفراء الدول الغربية في القاهرة، في تصرف كان يستدعي موقفاً من السلطات المصرية، والتي هي أضعف من هذا، فكان المصريون بالمنظمة هم الضحايا، لكنها اضطرت أن تفرج عنهم بعد فترة قصيرة من الحبس الاحتياطي، وهزمت في هذه الموقعة.
والدعوة إلى إلغاء خانة الديانة من البطاقة هي جزء من حملة تبني المبادرة للبهائية، وقد أقامت دعوة أمام القضاء الإداري، في عهد مبارك لتدوين الديانة البهائية للبهائيين في البطاقات، لكن المحكمة قضت بوضع (شرطة) امام خانة الديانة لهم، وهي الآن تستكمل المهمة، ويعوم المسيحيون على عومها بأن وجود هذه "الخانة" من الأدلة على وجود اضطهاد طائفي يمكن من يرغب منهم اللجوء السياسي في الغرب؟!
ومع الوقت، صدق المسيحيون الدعاية، وصاروا ينطلقون جادين من أجل إلغاء هذه الخانة، دون إدراك حقيقي لعواقب الأمور، لأن هذا من شأنه أن يجعل عملية الانتقال للدين الإسلامي، سهلة وميسورة دون الخضوع لإجراءات طويلة ومملة لتغيير الديانة في البطاقة، يمكن خلالها للأهل الانتصار على المتحول ولو باختطافه ووضعه في أحد الأديرة، قبل أن ينتهي من هذه الإجراءات، وفي حال الغاء خانة الديانة لن يكون بحاجة إلى ذلك.
وإذا كانت الكنيسة تمارس ضغوطا على النظام من خلال تسليمه لزوجات القساوسة اللاتي يعتنقن الإسلام لاحتجازهن في الأديرة، كما واقعة كاميليا شحاتة، ووفاء قسطنطين، بمجرد الشروع في خطوة تغيير الديانة في البطاقة، فلن يكون بحاجة إلى هذه المخاطرة في المستقبل، بل إن السلطة نفسها مطالبة بعملية الاختطاف والتسليم!
وهناك أزمة آلاف المسيحيين الذين طلقوا زوجاتهم بأحكام قضائية ولا تعترف الكنيسة بهذا الطلاق ومن ثم لم تسمح لهم بالزواج الثاني، فإن سقوط عائق الديانة في البطاقة لن يجعلهم بحاجة إلى هذه الموافقة التي لن تصدر أبداً، وبإمكانهم حل مشكلاتهم بعيداً عن سلطان البابا.
تجارة الوثائق الرسمية:
ومهما يكن، فمن الواضح أن المسيحيين لم يدركوا مغبة ما يطالبون به من كثرة ترديده، أو أنهم يراهنون إلى عدم استجابة السلطة لهم. ومع وجود المطلب الدولي بإلغاء خانة الديانة، يكون السيسي ـ بحسب الظاهر من الأوراق ـ قد ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فيرضي الغرب، ثم يرفع الحرج عن نظامه في أزمة المسيحيين المتحولين، وجزء من الأزمة تكمن في التصور أن الإجهاز على السيسي يكون باتهامه بالعداء للإسلام، أو بأنه مرتد، ليُطوى ملفه، وهو لا هذا ولا ذاك، لكن لديه تصورات عن نفسه (يعجز عن التعبير عنها فيلمح)، وعن تدينه، قد ينتقل به إلى أن يكون شكري مصطفى مؤسس جماعة المسلمون (التكفير والهجرة)، الذي كان يكفر من لا يعتمد تصوراته هو عن الدين، وعن الذات. وقد قال من قبل إنه مسؤول عن "دين المصريين"، لا تسأل عن الدم فعبد الرحمن ابن ملجم قاتل سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لم يكن يشك لحظة في أنه يقدم خدمة عظيمة للإسلام!
لنصل هنا إلى المهم إذا كان ما في بطن الشاعر هو التمهيد لإلغاء خانة الديانة (اعتبرها البعض حرباً على الإسلام)، لندخل في "سبوبة"، أو تجارة الوثائق الرسمية التي تعرفها مصر الآن بشكل منقطع النظير، ويدرك أهميتها "التاجر" البسيط، في حدود ثقافة "تاجر البقالة"، والسيسي لم يتجاوز هذه الثقافة!
لم تكن مصر تعرف صلاحية للبطاقة، فهي سارية حتى تجدد، وتبدأ بطاقة شخصية، وبعد الزواج تجدد لبطاقة عائلية، ثم يكون تغييرها إذا استدعت الحاجة لتغيير بعض بياناتها، كمحل الإقامة، أو المهنة، وقد صاحبتني بطاقتي طالباً وصحفياً، ومقيما في الصعيد وفي القاهرة، وعازباً ومتزوجاً، ولم أجدني مضطراً لتغيير بياناتها، الا بعد انتهاء العمل بالبطاقات الورقية.
لكن، البطاقة الجديدة، أو ما يسمى بالرقم القومي، مدة صلاحيتها محددة، وإن لم يطرأ طارئ يستدعي تغييرها، والهدف من هذا هو جني المزيد من الأموال من المواطنين، مع أن شيئاً لا يكون قد تغير، فالرقم القومي ثابت، وكذلك الاسم وتاريخ الميلاد، ثم إن الانسان لا تتغير صورته كل سبع سنوات، هذا فضلا عن أن صور الرقم القومي هي من أردأ الصور، ولا يمكن التعرف على الشخص من خلالها أبداً، ولو التقطت في الحال!
وكانت شهادات الميلاد الورقية، تستخدم للإنسان مدى الحياة، في كل المهام المطلوبة من أول التقديم للدراسة، وتنتقل نفس النسخة وربما صورة طبق الأصل منها، معه في كل مراحل التعليم، وفي استخراج البطاقة وفي الزواج والطلاق، لكن البطاقة المميكنة حالياً ينتهي مفعولها بعد ستة أشهر، ليتم استخراج شهادة أخرى مع كل مهمة جديدة، وتعد الثانوية العامة "فاتحة خير" على السلطة، فالتقديم للجامعة يلزمه شهادة جديدة، كما يلزمه استخراج شهادة قيد عائلي بالإضافة إلى أن تكون البطاقة صالحة!
ويضج الناس في بلدي ي بالشكوى لهذه الرسوم التي يدفعونها بدون مبرر، فضلاً عن التكدس أمام الجهات الحكومية المختصة باستخراج هذه الأوراق وختمها!
ولا شك أن إلغاء خانة الديانة سيرتب دخلا كبيرا للسلطة بعد توقف الدعم الإقليمي، فالبطاقة تتراوح رسومها بين 45، و120، و170 جنيها، بحسب سرعة إنجازها، واستخراجها يستدعي وجود شهادة ميلاد سارية تكلفتها رسوماً وتوثيقاً مائتا جنيه، وفي بعض الحالات قد يحتاج إلى شهادة قيد عائلي بنفس التكلفة استخراجا وتوثيقا!
وبند إلغاء خانة الديانة، سيدر على خزينة الدولة مبالغ طائلة، يكفي أن تضرب خمسمئة جنيه رسوماً، في خمسين مليون مواطن، للوقوف على هذا الناتج، الذي يحتاج إلى شاطر في جدول الضرب للوصول إليه، فقد حاولت وفشلت، ولا يقال إن الجميع ليسوا مطالبين بشهادة القيد العائلي، لأننا أسقطنا أكثر من عشرة ملايين مواطن من تعداد من هم فوق 16 سنة!
فهل وصلنا إلى كل ما في بطن الشاعر.. أقصد السيسي؟!
سطور أخيرة:
رداً على قرار سحب الدكتوراه الوهمية منه قال الممثل محمد رمضان إنه يستطيع أن يشتري جامعة من بابها.
وهذا صحيح، وليس هذا فحسب، بل يستطيع أن يشتري دكتوراه ليحاضر في هذه الجامعة، لكنه أبداً لن ينجح في أن يكون فنانا كبيراً.
إن سلطة تقف خلفه لتجعل منه أحمد زكي بدون جدوى، وبإمكانيات لو توفرت لجحا لكسب رهانه، ونجح في أن يعلم حمار العمدة اللغة الإنجليزية.
إنه إفراز مرحلة، وخيار سلطة، لا أكثر ولا أقل!