كشفت آخر تقارير نقابة الصحفيين
التونسيين و"الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري"، التي تلعب
دور وزارة الإعلام منذ إلغائها مطلع 2011، أن وسائل الإعلام العمومية في تونس، وخاصة القنوات التلفزية والإذاعية الرسمية، ابتعدت منذ القرارات الرئاسية الصادرة في 25 تموز (يوليو) الماضي عن "التوازن" في تعاملها مع الأطراف السياسية والحزبية وفي تغطية أخبار الأطراف المساندة للسلطة التنفيذية ومعارضيها.
أهم مكسب بعد ثورة 2011
وأوصت بلاغات تحمل توقيع رئيس النقابة ياسين الجلاصي ورئيس الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري النور اللجمي ونائبه هشام السنوسي الإعلاميين والمشرفين على المؤسسات الإعلامية العمومية بعدم التفريط في "أهم مكسب تحقق منذ ثورة يناير 2011" أي التعددية الإعلامية والسياسية والتحرر من رقابة السلطات واحترام قواعد المهنية والحياد والتوازن في التعريف بالرأي والرأي الآخر.
وأوردت دراسة جديدة أعدتها "الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري" أن التقارير الإخبارية والبرامج الحوارية في القنوات الإذاعية والتلفزية العمومية، وخاصة في القناة الوطنية الأولى، خصصت بعد منعرج 25 تموز (يوليو) السياسي أكثر من 80 بالمائة من المساحة لعرض وجهة نظر قصر قرطاج ومساندي القرارات الرئاسية مقابل مساحات صغيرة جدا لمعارضيها ولممثلي البرلمان والمجتمع المدني والأطراف التي وصفت تلك القرارات بـأنها "انقلاب على الدستور وعلى الشرعية الانتخابية".
انتقادات من داخل مؤسسة التلفزة
في الأثناء تعاقبت انتقادات السياسيين والمثقفين والإعلاميين لما وصف بـ"تراجع المرفق العمومي عن القيام بدوره المهني وعن الحيادية عند تناول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
وروجت بعض الصحف والقنوات الإذاعية الخاصة، مثل موزاييك، تفاصيل الدراسة التي أجرتها هيئة الإعلام السمعي البصري عن نشرات الأخبار في القناة التلفزية الوطنية والتي اعتبرت أنها خصصت أكثر من 90 بالمائة "للتعريف" بقرارات قصر قرطاج وحوالي 5 بالمائة فقط لوجهة النظر الأخرى، دون نشر أي حوار مع ممثلي رئاسة البرلمان والنواب المنتخبين .
وانتقد بعض الصحفيين والمثقفين توقف القناة الوطنية الأولى عن استدعاء الشخصيات السياسية والحزبية والبرلمانية بما في ذلك الشخصيات المعارضة.
ونوه العجمي الوريمي، الأكاديمي المختص في الدراسات الفلسفية والقيادي في حركة النهضة، بالنجاح الذي حققته بعض برامج القناة الأولى في التلفزة الوطنية خلال العقد الماضي "بفضل انفتاحها على الرأي والرأي الآخر". لكنه دعا النقابات إلى الوقوف إلى جانب المهنيين وضمان ما تحقق من مكاسب وحريات "برزت مؤشرات عديدة عن إمكانية التفريط بها والعودة إلى
سياسة التعريف بالرأي الواحد والموقف الواحد".
ظروف العمل
جدير بالذكر أن كل ضيوف البرامج الإخبارية أو "الحوارية" أصبحوا من بين الإعلاميين والمثقفين المساندين لقرارات رئاسة الجمهورية، أو من بين خبراء القانون الذين يتداولون على المصدح للرد على زملائهم الذين أدلوا بتصريحات إلى بعض وسائل الإعلام الخاصة أو الأجنبية تصف قرارات 25 تموز (يوليو) و22 أيلول (سبتمبر) الماضيين بـ "الانقلاب على الدستور والشرعية الانتخابية".
وألغيت كل البرامج الحوارية اليومية والأسبوعية السياسية التعددية التي كان يديرها الثنائي أبو بكر بن عمر وشاكر بالشيخ والثنائي ألفة الخديمي وزينة الخميري والإعلامي إيهاب الشاوش..
وكانت تلك البرامج استضافت في العام الماضي مئات الشخصيات السياسية والإعلامية والثقافية الحزبية والمستقلة من مختلف التيارات، ونجحت في مضاعفة مشاهدي القناة الوطنية الأولى ومداخيلها من الإعلانات.
هل يتعلق الأمر بـ"إجراءات انتقالية" اضطرت لها الرئيسة الجديدة لمؤسسة التلفزة الوطنية الصحفية عواطف الدالي، التي عينت في منصبها يوم 29 تموز (يوليو) الماضي بعد قرار من رئاسة الجمهورية أعفى الرئيس السابق للمؤسسة الأسعد الداهش من منصبه بعد ضجة إعلامية قادها القيادي في رابطة حقوق الإنسان بسام الطريفي وممثلة نقابة الصحفيين أميرة محمد بسبب منعهما من دخول مقر التلفزيون ونسبة قرار المنع إلى "ممثل المؤسسة العسكرية"؟
عدد من الإعلاميين، بينهم الصحفية آمال بالحاج علي، يدعون إلى "تجنب التشخيص" وينوهون بالخصال الإنسانية والصحفية للرئيسة الجديدة للمؤسسة عواطف الدالي التي عرفها جمهور الشاشة ببرامجها الحوارية الاجتماعية والعلمية. كما أنهم ينوهون بخبرة رئيسة التحرير الجديدة للقناة الوطنية لطيفة مقطوف والإعلامية انصاف اليحياوي. لكن الإشكال في نظرهم "غياب ظروف العمل الملائمة وتراكم الأزمات المادية والسياسية والنقابية داخل قطاع الإعلام".
انغلاق
البرلماني عن كتلة حزب النهضة والوزير السابق نور الدين البحيري اعتبر في تصريح لـ
"عربي21" أن الخطاب الإعلامي الذي هيمن على برامج القناة الوطنية الأولى أصبح "يكرس الإنغلاق ويستبعد الرأي والرأي الآخر".
لكن زميله السابق في البرلمان العجمي الوريمي توقع أن "لا تدوم هذه المرحلة الانتقالية لأسباب عديدة من بينها اقتناع غالبية الإعلاميين في وسائل الإعلام العمومية بالتعددية وبأخلاقيات المهنة الصحفية، إلى جانب الضغوطات التي سيمارسها الرأي العام والمثقفون والنقابيون لفرض التمسك بخيار الانفتاح على الآخر".
الإعلام بين المهنية والتوظيف
وأعادت الانتقادات الموجهة إلى أداء القنوات الإذاعية والتلفزية الرسمية وإلى وسائل الإعلام العمومية إلى السطح جدلا بدأ منذ مطلع 2011 حول "الخلط بين المهنية والتوظيف السياسي والأيديولوجي" في عدد من وسائل
الاعلام التونسية.
وقد سبق لمنظمات ومراكز دراسات تونسية، بينها منتدى ابن رشد للدراسات والمؤسسة العربية والأفريقية للدراسات وجمعية "نورـ تونس الجديدة"، أن نظمت بالاشتراك مع مؤسسات دراسات ووسائل إعلام عربية وأوروبية وأمريكية عدة ورشات تفكير وندوات حول "خلط وسائل الإعلام بعد ثورة يناير 2011 بين المهنية والتوظيف السياسي والحزبي والأيديولوجي ...الخ".
وحذر عدد من الخبراء بينهم الإعلامي ماهر عبد الرحمن وحسن الزروقوني مدير مؤسسة سبر
الآراء "سيغما كونساي" من سلبيات "الفراغ السياسي والإداري" على رأس قطاع الإعلام والاتصال في تونس بسبب إلغاء وزارة الإعلام في 2011، دون تأسيس "بديل حكومي يضمن مواكبة السلطة الرابعة لخيار التعددية السياسية والحزبية والثقافية" .
أما الكاتب والإعلامي التونسي نورالدين العويديدي فرأى أن هيمنة السلطة الحاكمة على الإعلام العمومي ليس جديدا في مسار وسائل الإعلام العمومي عامة، والوطنية على وجه الدقة والتحديد.
وقال العويديدي في حديث مع
"عربي21": "منذ نشأتها في الستينيات من القرن الماضي نشأت القناة الوطنية باعتبارها أداة دعاية لسلطة حاكمة، ترى حسنا ما تراه السلطة حسنا وترى سيئا وقبيحا ما تراه السلطة سيئا وقبيحا.. ولذلك فهي قناة تبحث عن سلطة تخدمها وتحتمي بها".
وأشار إلى الارتباك الذي شهدته القناة الوطنية في تعاملها مع الثورة من دون أن يؤثر ذلك على طبيعتها ولا على توجهاتها، وقال: "حين جاءت الثورة عام 2011 ارتبكت القناة الوطنية، وكانت تسمى تونس 7 نسبة لتاريخ 7 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي انقلب فيه ابن علي على بورقيبة.. لم تعرف ماذا تفعل في البداية.. غيرت اسمها وانحازت ظاهريا للثورة.. لكنها سرعان ما عادت لعاداتها القديمة. فقد حافظت على عدوها التقليدي في عهدي بورقيبة وابن علي عدوا: أي الإسلاميين. ومارست عليهم وهم في الحكم كل أشكال الصنصرة والتعتيم وتهييج الناس عليهم".
وحول الطاقم المشرف على الوطنية ومشروعهم قال العويديدي: "يتألف طاقمها إلا القليل منهم.. ومن أجل الدقة وتجنب التعميم لنتحدث عن النافذين وأصحاب القرار منهم.. يتألفون من يسار رأى أن أفضل السبل العمل من خلال الدولة والتغلغل فيها. وكانت تونس 7 أداة الدولة الضاربة فانضموا إليها.. ومن دستوريين ثم تجمعيين. والطرفان على علاقة عداء تقليدية مع الإسلاميين".
وأشار إلى أن "القناة الوطنية، كانت قبل الثورة أداة قمع وتشويه للإسلاميين. وقد اتهم بعض المعتقلين برامج المنظار لصاحبه منصف الشلي بأنه صور في السجون والسجناء تحت التعذيب حتى تنتزع منهم تصريحات تدينهم. وكان الشلي يعمد بنفسه إلى ضرب المعتقل إن لم يقل ما يحتاجه لرسم صورة الإسلامي الوحش القبيح".
وأعرب العويديدي عن أسفه لهيمنة الانقلاب على وسائل الإعلام العمومي، وقال: "حين انقلب قيس سعيد على السلطة لم يجد صعوبة كبيرة في إخضاع "الوطنية" فتاريخها يساعدها على الرضوخ لكل سلطة مستبدة.. ولذلك سريعا ما انحازت إليه مثلما انحاز إليه التجمعيون واليسار الذين كانوا يهاجمونه أثناء الحملة الانتخابية عام 2019.. خاصة وقد وجدوا فيه من قد يساعدهم على التخلص من خصمهم التاريخي: الإسلاميين".
ورأى العويديدي أن "الوطنية وزيادة على ما سبق تعاني من أمرين خطيرين: البيروقراطية العاجزة وقلة المهنية".
وقال: "رغم إمكانياتها الهائلة من حيث التجهيزات والطاقم البشري قياسا بالمحطات الخاصة، فإن إنتاجها كما ونوعا دون المطلوب. ففي عام 2013 كان المئات يعتصمون تحت بنايتها مطالبين بإصلاحها، إلا أنها كانت عاجزة عن تصويرهم ونقلهم نقلا حيا كما فعلت قنوات أخرى، بسبب البيروقراطية والعحز الدائم".
وتابع: "أما مهنيا فالوطنية ضعيفة من حيث الالتزام بقواعد المهنة وضعيفة من حيث جودة العمل وإتقانه. ولعل منطق "رزق البيليك" وغياب التحفيز والمراقبة والعقاب جعل العاملين فيها لا يتقنون أعمالهم ويقدمون الحد الأدنى. ولذلك يغيب عنها الإتقان والإبداع"، على حد تعبيره.
يذكر أن هذه التطورات حصلت في مرحلة لا يوجد فيها مستشار للإعلام أو ناطق رسمي في قصري رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، بما يفتح الباب أمام مزيد من التأويلات والتساؤلات حول "الجهة" التي تقف وراء "التراجع عن مكاسب التعدد والمهنية والانفتاح على الآخر" خاصة أن كل خطب الرئيس قيس سعيد وتدوينات شقيقه المحامي والأكاديمي نوفل سعيد تؤكد على تمسكهما بـ"الدستور والديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان و..".
يأمل كثيرون أن يكون "الانغلاق" ظرفيا وعابرا وأن ينتهي بعد مرحلة "الإجراءات الاستثنائية".