المناهضون عاجزون

بعدما كررت الثورات المضادة نفسها في ميادين كثيرة في العالم العربي، وتكررت الخيبات الكبرى في أنظمة عربية ودولية وفي نخب عربية من المحيط إلى الخليج، توالت انكسارات الأحلام في التحرر من الظلم والقهر والاستبداد والاحتلال، وبناء الدولة والمجتمع العربي على أسس المواطنة والحرية والعدالة. ذلك أن الحقائق الجديدة التي أفرزتها أحداث السنوات الماضية بلغت من القوة والرسوخ ما يمكن أن يميّزها عن حقب التاريخ المعاصر التي سبقت الثورات والانتفاضات العربية، والتي ميّزتها عن غيرها بمسّها عصب الاستبداد وتهديد عرشه بوضعه باتجاه مأزق تاريخي محتوم، عبر خلق حالة شاملة من النهوض تُمكّن الإنسان العربي من متابعة دوره وقدرته على التغيير والبناء.

وعلى هذا الأساس حظيت الثورات العربية بهذا القدر الهائل من الاهتمام على خارطة العالم، وبما يعيد مجدداً حالة الترابط والتلاحم بين قوى الاستبداد الوظيفية مع بعضها البعض، ومع النظام العالمي المستفيد منها، بغض النظر عن التفسيرات التي تفتقت عن البنية الرسمية للسياسة العربية في مرحلة الثورة المضادة، أو من النخب الثقافية التي وجدت في ثورة الإنسان العربي مؤامرة، أو غيرها من التبريرات للتخندق في صف الطغيان لقمع الإنسان العربي وقتل طموحاته، بغية التغطية على الواقع وتزويره وتضليل الرأي العام؛ باجترار شعارات حقبة الاستبداد والتلطي خلف متراس النظام العربي لـ"محاربة الإرهاب" للتخفيف من الصورة الملطخة للأنظمة، ونخبها السياسية والثقافية والاقتصادية، وهرباً من تحمل مسؤولياتها التاريخية إزاء الشارع العربي عبر العقود الماضية، وإزاء كل ما قدمته من شعارات وأدبيات فكرية وسياسية مناهضة للاستبداد أو الاحتلال، وادعاءاتها اللفظية بالوقوف إلى جانب كرامة وحرية الإنسان.

فلأول مرة، تضع الثورات العربية قدرة النخب والأحزاب والحركات "الثورية المقاومة" أمام الاختبار الحقيقي، خارج شرانق ومتاريس بعيدة عن مستقبل ومصير أمة بكاملها وُضعت على المحك، ليسطع عجز المناهضين في انسياب مرارة مواقف لا يقال عنها سوى "خيانة" للتاريخ وللحاضر، وللضحايا الذين سقطوا أثناء الدفاع عن حريتهم وكرامتهم.

لقد نجحت الثورات العربية، رغم كرّات الخيبة، في تعميق الهوة داخل بنية الاستبداد العربي ونخبها، لكن نجاحها لم يحقق "الصحوة" المطلوبة من أجل التغيير، لذلك ذهبت انتقادات نخب الأنظمة تنصبّ على تبني خطاب الثورة المضادة، لعدم قدرتها على مواكبة التغيير الحاصل، والذي وجدت فيه تهديدا وجوديا لدورها العاجز بالأصل عن ترجمة ما قدمته خلال عقود طويلة، وهو ما دفع بالبعض ممن نظر تاريخياً داخل أحزاب اليسار العربي أو الليبراليين العرب والمثقفين المحسوبين على تيار "ثوري"؛ إلى الاندفاع أكثر نحو الدفاع عن طغاة قتلة ومجرمين في منظومة الاستبداد العربي، ورفع درجة الإعجاب بهم إلى الحد المهين والمقيت في تبرير جرائم طالت ملايين البشر في السنوات العشر الماضية، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها: ما يتعلق كما ذكرنا سابقا بمسألة العجز، والأمر الثاني الانكشاف والتعرية التي ظهرت عليها أحزاب ونخب عربية اتخذت الخوف من المصير المجهول وعدم الثقة بقدرة الإنسان العربي على التغيير؛ ما لم يكن محكوماً بطغاة ومجرمين اتخذوا من شعارات "العروبة وتحرير فلسطين والمقاومة" سلاحاً لارتكاب الفظاعات، ومن ثم تسلحوا بذرائع مكافحة الإرهاب لسترها.

تصدعات كثيرة وخطيرة حدثت بفعل الثورة المضادة، وعصفت بتاريخ أحزاب وقوى فكرية وسياسية وثورية ارتبطت بأحلام أجيال عربية. واشتدت مظاهر الاستقطاب في أوساط نخب الطغاة إلى حدود عنصرية قاتلة، تندمج في أطروحاتها وتنظيراتها مع أكثر الأحزاب عنصرية ونازية في الغرب وصهيونية؛ في مغازلتها لجرائم الطاغية في دمشق والقاهرة والخرطوم والضاحية الجنوبية لبيروت على سبيل المثال والحصر، أو برفع درجة الإعجاب بالمستبدين والانقلابيين، وبالعصابات المذهبية الطائفية العابرة للحدود والتي تدعم المجرم في حربه ضد شعبه.. إعجاب نكاية فقط بالعجز الذي ظهرت عليه بسبب صرخة وجرأة الإنسان العربي الذي سبق وتجاوز تنظيرات من كان يعتبرها نخبا، ودعاها للوقوف بجانب آلامه، لكنها رَكلته بعيداً، وانشغلت بتلميع سكاكين الجلاد ولعق دم الضحايا.

لكل ذلك تبقى "مناهضة ومقاومة" النخب المحصورة بشعارات الطغاة ومشاريع الاستبداد، عاجزة عن إنجاز غير ما أنجزته.

twitter.com/nizar_sahli