هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يقضي الإنسان الفقير الشريف النظيف معظم عمره في العمل ليحصل على بيت يؤيه وأُسرَتَه، ولقمة تقيم أودهم.. ولأسباب لا يد له فيها، تحاصره أحداث وأزمات، وتحكمه قبضة طغيان وفساد ومؤامرات وصراعات وحروب، فيساق إلى الحرب فهو حطبها والمكتوي بنارها.. فيموت فيها أو يصبح ذا إعاقة، أو يفقد بعض أفراد أسرته، ويُهدَم بيته، وينقطع مصدر رزقه، وينزح من أرضه أو يُهجَّر في وطنه، ويعيش مع من تبقى من أفراد أسرته في الكهوف والمغاور أو في خيمة من مخيمات النزوح واللجوء المشلوحة في بلقع الأرض، تقارب في بؤسها سجوناً ومعتقلات من تلك التي يقبع فيها مجرمون ومدانون يقضون محكوميات، أو مقهورون قيد التعذيب والتصفيات..
فيدخل في متاهات الظلم والظُّلمات، ويعاني هناك في المنافي من ظروف لا تُحْتَمل مدة سنوات وسنوات، منتظراً عودة إلى الخراب الذي كان بيتاً، والوطن الذي كان حِمىً، ليعيد البناء ويؤوي نفسه وزوجه وأولاده، ويستأنف الرَّكض وراء رغيف خبز معجون بالمُر والقهر، مستطيباً الإقامة في أرضه يتنسم الحنين والذكريات.
هذه أوضاع تعيشها الفئات الأكثر عِوزاً وعَدداً في بلدان يتظافر عليها المستعمرون والعنصريون والطامعون المُعتدون، ويعبث بها الطغاة المستبدون والخونة المتآمرون والإرهابيون والفتنويون، والتابعون الممقوتون والفاسدون المفسدون.. بلدان يتعرض فيها الإنسان للاضطهاد، والحرياتُ والحقوقُ للانتهاك، والعقول للتهجين والتجهيل والتدجيل، والجموع للتجويع والقهر والتركيع.. وتتعرض فيها المَفاهيم للتشويه، والأخلاق للإزراء والحكمة للتسفيه، والقيم للتفسخ، والكائنات البشرية للمسخ، وتصبح فيها الحياة مأساة..
يحدث ذلك لأن الأوطان العزيزة المُعِزَّة تتحوَّل إلى معازل تُرتَكبُ فيها الأهوال والمَهازل، وتتحول الجموع إلى مقابر تسعى، تضيق وتضيق وتلفظ ساكنيها.. فيجد الحرُّ المنتمي إلى وطن وقيم، من البُناة المُضحين، المتجذرين في البيئة، المتشبثين بجذور آبائهم وأجدادهم في عمق الوجود والتراب والحضارة.. يجدون أنفسهم مقتلعين من جذورهم، تزوبعهم الريح، وتلقيهم العواصف من قِفار إلى بحار، ومن متاهة إلى تيه..
يتطوحون في فيافٍ ومنافٍ، حاملين على ظهورهم بناتهم وبنيهم، وتتبعهم أزوجهم اللائي يأوون إليهن في غير مكان ويؤوين إليهم في غيرما أمان، متأبطين وطناً وجنسية وهُويَّة.. يفرون بذواتهم بحثاً عن ذواتهم وعن ملاذات آمنة ومأوى وماء وغذاء ودواء لهم ولعيالهم.. يلقيهم الفراغ إلى الفراغ، ويتخطفهم الرعب ويحاصرهم الموت. يجوبون البلدان والقارات في صحراء بشرية موحشة.
ما الذي يمكن أن تكون عليه حال أناس تعرض وطنهم بكل حاضره وماضيه وما فيه للسرقة والتدمير والتخريب والاحتلال ونهب الدول والعصابات، وأصبح بحكم مجهول المصير وأصبحوا بحكم من لم يبق له وطن.. وهم مضطرون لخوض غمار الموت بحثاً عن أمن من جوع وخوف في أرض شعوب ودول ترضى أن تقبلهم لاجئين؟!
هذا وضع من كان لهم وطن لفظهم فحفظوه في سويداء القلوب، يذوبون حنيناً إليه وهم يجوبون مجاهل الدروب، ويحنون إلى العودة إليه حنين الفاقدات يذرفن دم القلوب من العيون، وهن كذات البوِّ حنين وأنين.. فما الذي يمكن أن تكون عليه حال أناس تعرض وطنهم بكل حاضره وماضيه وما فيه للسرقة والتدمير والتخريب والاحتلال ونهب الدول والعصابات، وأصبح بحكم مجهول المصير وأصبحوا بحكم من لم يبق له وطن.. وهم مضطرون لخوض غمار الموت بحثاً عن أمن من جوع وخوف في أرض شعوب ودول ترضى أن تقبلهم لاجئين؟!
كلما استعادت ذاكرتي صور الأطفال والنساء وكبار السن، وفيالق البائسين المشردين الذين يهيمون في الدروب بحثاً عن أمن وسلم ولُقْمَة ومقومات حياة، وعن أمكنة يعيشون فيها كسائر خلق الله.. أغضب، وينهشني الرعب ولا يشفيني كلام، وتنهض الأسئلة الأحاجي في عقلي وتنتصب حول قلبي كشفرات السيوف ورؤوس النصال: لماذ يفقد الإنسان حقه في الأمن والسلم والمواطَنة في وطنه، ويتحول إلى خِرْقَة مبلَّلة بالدمع والدم، وضحية للظلم والسُّقم.. وإلى ورقة أو أداة بيد بغاة وطغاة وفاسدين، وأنظمة ودول وتحالفات متصارعة لا ترحم، تخوض حروباً دامية بالفقراء والشرفاء والطيبين والمنتمين، تخوضها أصالة أو وكالة، وتبقى شرهة وشرسة ودموية مدفوعة بدوافع عنصرية ـ عدوانية ـ استعمارية ـ توسعية ـ إرهابية ـ نَهبويَّة.. إلخ.. تتبع سياسات إجرامية مميتة مقيتة وغبية، لا تقيم للإنسان قيمة، ولا للحياة وزناً، ولا للأديان والأخلاق والعدل والحق حرْمَة.. تحضُن القَتلَة والظَّلمَة والجهلة والمستبدين والقاصرين والفاسدين، وتسلطهم على الفقراء والمسالمين والأكْفاء والطيبين الصالحين، فيوقعون الأفراد والجماعات، الشعوب والأوطان، في مآزق ويفضون بالأبرياء إلى مذابح وجائحات وكوارث؟!
لماذا يتحول من يُفترَض بهم أن يحمدموا الإنسان إلى قوة إرهاب منظمة عابرة للبلدان والقارات، يلاحقون الشعوب والأوطان، ويُشقون الإنسان ويُفنونه؟ لماذا يفقد الإنسان حريته وحقوقه وكرامته في وطنه الذي ينتمي إليه ويضحي من أَجله، ويصبح خرقة تمسح أعتاب الطغاة الظَّلَمة وأعداء الأوطان والسلم والاستقرار والأمن والإنسانية والإنسان.. وهم لم يرتكبوا ذنباً؟!..
ولماذا يقع على الأطفال الرُّضَّع واليافعين عبء لا طاقة لهم باحتماله، سواء أكان ذووهم من المذنبين أو من الأبرياء.. لماذا يعانون ويلاحقون كأنهم مجرمون، ويحرمون من حقهم في طفولة هادئة هانئة ومن الأمن والسلم والعيش الكريم، ومن السّعي لما فيه حياة وحرية وتقرير مصير.؟!
ولماذا يصبح من يرفع صوته لوقف التدهور الشامل في حياة الناس وعمران الأوطان، ومَن يقول بالمساواة الحقة بين الناس، ويدعو لإقامة العدل واحترام القانون وإنصاف المظلومين، ويقف ضد إلحاق المآسي بالإنسان في وطنه أو في أي وطن من الأوطان.. لماذا يصبح هدفاً لأعداء الحياة والحرية والإنسان، ولماذا يلقى من يتفهم موقفه ويتعاطف معه ويقف إلى جانبه نفس المصير.. ويصبح كلٌّ من أولئك مهدر الكرامة والحق والدم، وهدفاً للتشهير والتسفيه والتدمير من قِبَلِ بُغاة عُتاة يرون أنفسهم مالكين للعباد والبلاد، ومن موالين لهم خانعين مطبلين.. فيدمرون حياة أناس مسالمين صادقين مخلصين، ويفسدون قيم العيش والتعايش بين الناس في أرض الله الواسعة التي ترحب بالأحياء وتمنحهم مقومات الحياة.؟!
كلما استعادت ذاكرتي صور الأطفال والنساء وكبار السن، وفيالق البائسين المشردين الذين يهيمون في الدروب بحثاً عن أمن وسلم ولُقْمَة ومقومات حياة، وعن أمكنة يعيشون فيها كسائر خلق الله.. أغضب، وينهشني الرعب ولا يشفيني كلام، وتنهض الأسئلة الأحاجي في عقلي وتنتصب حول قلبي كشفرات السيوف ورؤوس النصال..
إن ذلك شيء لا يمكن فهمه ولا تفسيره ولا القبول به.. وينقلب إلى تنغيص مطلق للعيش، وشلل للعقول والطاقات والكفاءات، وسموم فتاكة في الأجساد والأرواح، وحرب على العدل والحق والقيم والسلم والأمن.. وهذا وضع لا يجوز معه قَبول الاحتجاج له وفرضه باسم السلطة والسيادة والقوة وما تنتجه كلٌّ منهما وتفرضه.. فمنطق القوة مدمر لمنطق الحق ومدمر لصرح العدل. وما زالت البشرية كلها تعاني من نتائج فرضها ويفرضها منطق القوة على حساب المنطق والحق والعدل..
وأقرب الأمثلة على ذلك النظام الذي فرضه الأقوياء على دول العالم وشعوبه بمنطق قوة المنتصرين في حروب الإنسان على الإنسان خلال القرن العشرين، وهو نظام لم يرسِّخ أمناً، ولم يمنع عدواناً، ولم يحمِ شعوباً ودولاً من العدوان والاستعمار والاحتلال والاستغلال والقهر، ولا هو أقام عدلاً وحفظ سلماً وأمناً وضمن قيمة للقيم والأخلاق والأديان والإنسان.
ومن الأمثلة على هذا الذي أشرت إليه ما حل بأقليات وشعوب وأوطان، منذ بداية القرن الحادي والعشرين وحتى الآن، وما شهدناه ونشهده من معاناة رهيبة منذ العدوان الوحشي على العراق عام ٢٠٠٣ وحتى الممتد من معاناة: الروهينغا إلى الشيشان، ومن الإيغور إلى الأفغان، ومن معاناة عرب في بلدان دمرها العدوان العنصري الصهيوني ـ الصليبي ـ الاستعماري وعلى رأسها: فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان.
أمَّا آخر الفصول في المأساة المستمرة وليس فصلها الأخير، ـ وهو ما استدعى هذا الحديث في هذا المقام ـ هو اليوم وضع طالبي اللجوء العالقين على الحدود بين بيلاروسيا من جهة وبولندا وليتوانيا من جهة أخرى.. وهم لاجئون من بلدان منكوبة بالعدوان الهمجي، وبقصور الرأي والرؤية، وتجييش المفتونين بالفتنية والمتعصبين والمتطرفين.. بلدان دمرها المستعمرون الجدد وعلى رأسهم الأميركيون والبريطانيون، ونصَّبوا فيها واجهات سياسية حاكمة موالية لهم ومعادية لشعوبها، واجهات متقاتلة فيما بينها وتخوض حروباً بالأصالة والوكالة خدمة لمصالح الشخصية ومصالح أعداء بلدانها وأمتها..
بلدان، ولم يبق فيها نتيجة للطيش والحمق والقصور والتبعية العمياء والطغيانية المتورمة وانتشار الفتنة.. ظلٌّ لعيش آمن وإمكانية لحياة كريمة، ولرغيف خبز مقبول يقتاته الناس. إن العالقين في المأزق اليوم فئة من أولئك الكثيرين الذين يعدون بالملايين تتقطع بهم السبل، وركبوا المخاطر في البر والبحر، ومعهم أطفالهم ونساؤهم، وتعرضوا للموت هرباً من الموت.. إذ ماذا يفعلون حين تحاصرهم الأزمات والفتن والخرائب والمجاعات، وتحولهم السياسة إلى أوراق تلعب بها دول كبرى وتحالفات دولية وسياسات تابعة طغيانية راتعة.. إضافة إلى أحزاب وطوائف وعصابات وفاسدين مفسدين؟! فمن ينقذهم من مآزق خطير وقد أصبحوا على شفا الهلاك؟!
فإلى متى تستمر المعاناة البشرية الرهيبة؟ وإلى متى يستمر انتهاك حق الإنسان في الحرية والحياة، وهما حقان متلازمان فلا معنى للحياة بلا حرية..؟! وما هو السبيل إلى الخلاص؟! وكيف الشفاء من منطق القوة العمياء، وأساليب الإشقاء، وطغيان الجهلة البلهاء، ومن مدمري البلدان، وقتلة الإنسان، وأتباع الشيطان.؟!
في ذلك المأزق ألفان أو ثلاثة آلاف إنسان خرجوا من روسيا البيضاء "بيلاروسيا" في طريقهم إلى الاتحاد الأوربي وحوصروا عند حدود بيلاروسيا ـ بولندا، وهم الآن في وضع إنساني صعب للغاية.. ففضلاً عن الظروف المأساوية التي هم فيها، يُقبل عليهم فصل الشتاء بقسوته الشديدة في مناطق معروفة بالبرد والصقيع والثلوج والعواصف، وهم في غابات ومستنقعات بلا خيم ولا مواد إغاثة.. تواجههم قوة عسكرية بولاندية من خمسة عشر ألف جندي مسلح تمنعهم من العبور إلى دول الاتحاد الأوروبي، وتدفعهم قوة عسكرية بيلاروسية إلى الخروج من بلد لا يسمح لهم بالبقاء فيه، ولا هم يريدون البقاء فيه.. وقد أصبحوا ورقة سياسية في مهب العواصف السياسية بين روسيا وبلاروسيا من جهة وبولندا وليتوانيا والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
وتقف الولايات المتحدة الأمريكية، رأس الشر التي سببت معظم المآسي لهؤلاء ولملايين من الناس غيرهم، تقف موقف اللاعب من الخلف، المتبرئ مما على يديه من الدماء، تعبث بمكر هو ديدنها بعد أن قتلت من قتلته من بشر، وأفسدت ما أفسدته من أنظمة، ودمرته ما دمرته من بلدان يضطر مواطنوها للهرب منها ومن الموالين للقتلة الأميركيين من عملا لهم ولدول أخرى نصبوا فيها واجهات سياسية لهم.. بعدما أصبحت البلدان والأنظمة والقوانين والقيم خراباً، يتحكم بها صناع الخراب وحراسه والمرتبطون بالقتلة والمخربين والمجرمين المحميين من الكبار الكبار.
فإلى متى تستمر المعاناة البشرية الرهيبة؟ وإلى متى يستمر انتهاك حق الإنسان في الحرية والحياة، وهما حقان متلازمان فلا معنى للحياة بلا حرية..؟! وما هو السبيل إلى الخلاص؟! وكيف الشفاء من منطق القوة العمياء، وأساليب الإشقاء، وطغيان الجهلة البلهاء، ومن مدمري البلدان، وقتلة الإنسان، وأتباع الشيطان.؟!
فقد ضِقنا وضَاقت الأرضُ بنا يا الله.