هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر موقع "نيويورك ريفيو" الأمريكي
دراسة مطولة حول نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" الإسرائيلي، قال فيها
إن عام 2021 قد يؤرخ له في المستقبل باعتباره عام تغيير الموجة لصالح النضال
الفلسطيني.
وأضافت الدراسة التي أعدها طارق باقوني أن هذا
العام شهد لأول مرة وصف الاحتلال باعتباره نظام فصل عنصري من منظمة إسرائيلية، كما
أن هذه المنظمة المرموقة -وهو الأهم بنظر المؤلف- اعتبرت أنه لا يمكن اعتبار الفصل
العنصري واقعا فقط في المناطق المحتلة عام 1967، بل هو واقع الحال في كل المناطق
التي تسيطر عليها القوات الإسرائيلية في فلسطين التاريخية.
وتستعرض الدراسة معنى نظام الفصل العنصري عمليا
بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، ليس باعتباره مجرد اتهامات خطابية، بل واقعا حقيقيا
يعيشه الفلسطينيون يوميا.
الجزء الأول: دراسة: ماذا يعني "الفصل العنصري" بالنسبة لإسرائيل؟ (1)
الجزء الثاني: دراسة: هكذا حارب الاحتلال النضال الفلسطيني بـ"الأبارتايد" (2)
الجزء الرابع: دراسة: الاحتلال يمعن بـ"الأبارتايد" وتهجير الفلسطينيين (4/4)
وتنفرد "عربي21" بنشر ترجمة كاملة
للدراسة على أربعة أجزاء، وفي ما يأتي الجزء الثالث منه:
على الرغم من العنف وعمليات الطرد التي مورست
على نطاق واسع ضد الفلسطينيين، وصاحبت استقلال إسرائيل، بدت الصهيونية
في سنواتها الأولى كما لو كانت ما تزال متمسكة بما كانت تعد به المثل الاشتراكية
والديمقراطية لكثير من مؤسسيها. ففي عام 1961 صوتت إسرائيل داخل الأمم المتحدة
لصالح قرار يندد بنظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، مما حفز رئيس وزرائها هندريك
فيروود، المهندس الرئيسي لنظام الأبارتيد، إلى الرد بعنف قائلاً: "إسرائيل
ليست صادقة ولا مبدئية في موقفها الجديد المعادي للأبارتيد، فقد انتزعوا إسرائيل
من العرب بعد أن عاش العرب فيها ثلاثة آلاف سنة... إسرائيل، مثلها مثل جنوب
أفريقيا، دولة أبارتيد."
على الرغم من دقة ما ورد في تصريحه من معان،
إلا أن الرؤية الليبرالية السائدة داخل إسرائيل وفيما بين القوى الغربية استوعبت
إمكانية وجود صهيونية مختلفة تجعل المقارنة مع الأبارتيد والاتهام بالعنصرية أمراً
فجاً واختزالياً. كانت غولدا مائير، السياسية العمالية التي شغلت منصب رئيس وزراء
إسرائيل من عام 1969 وحتى عام 1974، قد جسدت ذلك الموقف المتناقض من خلال التأكيد
على معارضة إسرائيل للأبارتيد في جنوب أفريقيا والإعلان عن وقوف إسرائيل مع
الحركات الأفريقية المناهضة للاستعمار. وبالفعل، عندما تأسست إسرائيل في عام 1948،
كان اليسار الدولي بشكل عام لا يعتبرها مشروعاً استعمارياً استيطانياً وإنما مشروع
اشتراكي مناهض للإمبريالية، على الأقل إلى أن بدأ الاحتلال في عام 1967. قلة قليلة
حينذاك رأت في آلام مخاض الدولة الصهيونية ما يستحق الوقوف عنده من إشكالات
أخلاقية أو سياسية، ناهيك عن الاعتراف بوجود مثل تلك الإشكالات أساساً.
ما لبث التراجع الانتخابي والسياسي لكتلة غولدا
مائير العمالية أن مهد الطريق أمام إسرائيل المتجهة بشكل متسارع نحو اليمين لأن
تصبح شريكاً فاعلاً لنظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا. تضمن ذلك تقديم المساعدة
العسكرية للجمهورية المارقة والتواطؤ مع مسؤوليها في البحث عن أفضل السبل للتهرب
من العقوبات الاقتصادية والضغط الدبلوماسي الذي كان يكتسب مزيداً من التأييد في
الغرب. كانت تلك العلاقة مدفوعة بمصالح واعتبارات عملية في السياسة الخارجية بقدر
ما كانت مدفوعة بما بين الكيانين من تقارب على المستوى السياسي أو الأيديولوجي.
فقد وجد الكيانان الاستعماريان والاستيطانيان قضية مشتركة تحفزهما على اعتبار
نفسيهما مواقع أوروبية متقدمة ترفع راية النضال الحضاري في مناطق محاطة بجوار سيء،
وكلاهما خلصا، كل في دولته، إلى حتمية الحفاظ على قدر من التحكم الإثني. وذلك ما
صرح به رئيس أركان إسرائيلي سابق أمام مؤتمر للطلاب في جامعة تل أبيب في عام 1987،
قبل انهيار نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا بسنوات قليلة، حين قال:
"يريد السود في جنوب أفريقيا كسب
السيطرة على الأقلية البيضاء تماماً كما أن العرب يريدون كسب السيطرة علينا. ونحن
أيضاً، مثلنا مثل الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، علينا أن نتصرف حتى نمنعهم من
السيطرة علينا."
باتت الصهيونية اليوم أبعد ما تكون عن المثل
الاشتراكية والديمقراطية التي كان كثير من أنصار إسرائيل يأملون باستمرار أن تصبح
تجسيداً لها، وصار صعباً بشكل متزايد تأييدها، حتى بالنسبة لليبراليين الذين كانوا
من قبل يبررون جرائمها، أو حتى لغيرهم ممن كانوا يرون فيها أيديولوجية ممثلة
للمجموع اليهودي، بغض النظر عن الشكل الذي غدت فيه حالياً كدولة إسرائيلية. كان
الفلسطينيون يرون حتمية الوصول إلى هذه النتيجة، ولا أدل على ذلك من كلمات الصايغ
التي كتبها في 1965 متحدثاً عن دولة ملتزمة بالتوسع وبممارسة العنف. وهذه الحقائق ماثلة ما عادت تخفى على أحد: يوجد لدى إسرائيل الآن ما يقرب من 700 ألف
مستوطن يعيشون بشكل غير قانوني داخل الأرض المحتلة التي يتم ضم المزيد منها يوماً
بعد يوم ليعلن أنها صارت جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل. ومنذ بداية الانتفاضة الثانية
في سبتمبر 2000، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية والمدنيون الإسرائيليون ما يزيد عن
عشرة آلاف فلسطيني. وفي عام 2018 تم تضمين الفصل العنصري وفكرة التفوق اليهودي في
القانون الأساسي الإسرائيلي على شكل قانون الدولة القومية، والذي ينص على أن
اليهود لديهم حق فريد في تقرير المصير داخل إسرائيل، التي تعتبر "الدولة
القومية للشعب اليهودي." وقد أقرت المحكمة العليا في البلاد ذلك القانون
واحتفى به السياسيون الإسرائيليون والمؤسسات الإسرائيلية، وأعلن بنيامين نتنياهو،
الذي كان حينها رئيساً للوزراء، أن إسرائيل "دولة قومية، ليس لجميع مواطنيها،
وإنما فقط للشعب اليهودي."
لربما كان قرار 3379 ما زال يبدو سابقاً لأوانه
من الناحية السياسية في عام 2001، ولكن في ضوء اندفاع دولة إسرائيل، بلا هوادة،
خلال السنوات الأخيرة باتجاه احتواء المجتمعات الفلسطينية التي ترزح تحت سيطرتها
فيما يشبه جيوب البانتوستان، تبدو الحلقات السابقة من مؤتمر ديربان كما لو أنها
بشرت بحتمية الوصول إلى النقاش الدائر حالياً حول الأبارتيد الإسرائيلي. حلت
بالترادف مع هذا النقاش مقاومة جديدة ضد الاستدعاء الذرائعي لمعاداة السامية بهدف
إغلاق الباب على أي نقد مشروع لما يتم ارتكابه من انتهاكات باسم الصهيونية. كان
مثيراً ذلك التحول الذي كان من أهم معالمه إقرار منظمة هيومان رايتس واتش التي
تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها ومنظمة بيتسيليم الموجودة داخل إسرائيل بما ظل
الفلسطينيون يتحدثون عنه منذ زمن طويل. ولذلك لم يعد اليوم مثيراً للخلاف وصف
الوضع بأنه أبارتيد، وخاصة بعد أن تبوأ منصب رئيس الوزراء في إسرائيل شخص كان في
السابق من زعماء المستوطنين وممن يتفاخرون بالالتزام بإلغاء الخط الأخضر. إلا أن
ذلك لم يحل دون مضاعفة الجهود لكتم أنفاس من يتحدثون عن ذلك. إذ ما من شك في أن
الكثيرين من أنصار إسرائيل باتوا فعلياً على وعي بمدى ما يمكن أن يلحقه من ضرر
بالمشروع الصهيوني تآكل الشرعية على نطاق واسع داخل المجتمع الدولي.
في عام 2016، نشرت منظمة تسمى التحالف الدولي
لذكرى المحرقة وثيقة جاءت على ذكر نماذج مما يعتبر معاداة للسامية في الوقت
الحالي. وقد تضمنت تلك النماذج "إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير، على
سبيل المثال من خلال الزعم بأن وجود دولة إسرائيل مشروع عنصري." بدعم كبير من
الكيانات الإسرائيلية الرسمية، ما لبث التحالف الدولي لذكرى المحرقة أن اكتسب دفعة
قوية، بحيث راحت المؤسسات العامة والتعليمية حول العالم، بالإضافة إلى العديد من
الحكومات، تتبنى وثيقته كمعيار لتقييم السلوك المعادي للسامية.
برزت بعض المعارضة من داخل المجتمعات اليهودية
خارج إسرائيل، حيث رأي هؤلاء النقاد خطراً يحدق بيهود الشتات بسبب توجيه تهم
معاداة السامية خدمة للذات وتحقيقاً للمنفعة كما درجت على ذلك الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة. والذي أقلقهم هو أن استخدام تعريف التحالف الدولي لذكرى
المحرقة، فعلياً، كأداة للقوة الناعمة الإسرائيلية سوف ينجم عنه التغافل عن معاداة
السامية الحقيقية الأمر الذي يمكن أن يهدد حياة اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل.
كما أن من شأن ذلك أن يحد من الرغبة في التعاطف مع مجتمع يهودي ما لا صلة له من
قريب أو بعيد بانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان والقانون الدولي. ولقد بدا واضحاً
هذا الاعتراض، على سبيل المثال، من خلال إعلان القدس حول معاداة السامية الذي وقع
عليه أكثر من ثلاثمائة عالم من المختصين في التاريخ اليهودي ودراسات المحرقة
ودراسات الشرق الأوسط، الذين اقترحوا تعريفاً جديداً لمعاداة السامية وأرفقوا به
إرشادات توفر قدراً أكبر من الوضوح وتميز بجلاء بين معاداة السامية وانتقاد
إسرائيل والصهيونية. وبالتالي تسمح هذه الإرشادات بتوجيه الانتقادات المشروعة
لإسرائيل كدولة استعمارية استيطانية أو كدولة أبارتيد، على النقيض من النقد الذي
يخلط بين ذلك وبين العداء لليهود.
يتشكل الحراك الفلسطيني الذي انبثقت عنه هذه
التحولات من دوائر شعبية قاعدية في داخل فلسطين وفي الشتات. وفي ذلك شهادة على قوة
وفعالية مثل ذلك الفعل الصادر عن المجتمع المدني لدرجة أنه بعد خمسة شهور من
انتفاضة الوحدة، في أكتوبر / تشرين الأول 2021، صنفت الحكومة الإسرائيلية ستاً من
أشهر المجموعات الحقوقية الفلسطينية، بما في ذلك أولئك الذين رفعوا دعوى قانونية
ضد إسرائيل لدى المحكمة الجنائية الدولية، "منظمات إرهابية". اكتسبت هذه
المجموعات نفوذاً على الرغم من غياب الزعامة الديمقراطية الاستراتيجية عن الحركة
الوطنية الفلسطينية الرسمية.
في الثامن من يونيو / حزيران 2021، بعد شهر من
انطلاق انتفاضة الوحدة الفلسطينية، أصدرت منظمة التحرير تقريراً بعنوان "إنه
الأبارتيد: واقع الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي لفلسطين." على الرغم من أن
دراسة منظمة التحرير الفلسطينية أقرت بالأبارتيد الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب
الفلسطيني في المنطقة الواقعة بين النهر والبحر، إلا أنها قصرت بحثها على
الممارسات الإسرائيلية للأبارتيد داخل دولة فلسطين الاسمية (أي في المناطق المحتلة
للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة)، تلك الدولة التي مُنحت في
عام 2012 صفة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. وينسجم ذلك مع قرار منظمة التحرير
الفلسطينية التاريخي تمثيل الفلسطينيين في المناطق المحتلة واللاجئين، دون التحدث
نيابة عن الفلسطينيين داخل إسرائيل (والذين يشكلون خمس سكان البلاد)، وهو قرار قد
يكون له معنى فيما لو كان المقصود متابعة مشروع الدولة الفلسطينية، ولكن بالنظر
إلى أن تلك الدولة باتت بعيدة المنال، فإن إسقاط أولئك الفلسطينيين من الحسبان
قرار مثير للغاية. بحسب هذا التحليل، وفي أرجاء تلك المنطقة، التي تعتبرها منظمة
التحرير الفلسطينية الدولة الفلسطينية الوطنية القادمة، يتجلى الأبارتيد في النظام
القضائي المزدوج الذي تبقيه إسرائيل قائماً في الضفة الغربية (حيث يوجد قانون لما
يزيد عن سبعمائة ألف مستوطن يهودي وقانون آخر للرعايا الفلسطينيين المنتشرين داخل
168 جيباً) وكذلك في عزل وفصل غزة، وهو الوضع الذي تبقي عليه إسرائيل من خلال فرض
حصار عسكري شبه تام عليها. من خلال قصر التركيز على النظام العسكري الإسرائيلي في
المناطق فإن تقرير منظمة التحرير الفلسطينية يصبح الأخير ضمن سلسلة متواصلة من
الجهود التي تدين الأبارتيد الإسرائيلي بينما تتمسك بمنطق التقسيم.
بدأت إحدى هذا المحاولات في عام 2012 عندما
حذرت الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري إسرائيل من انتهاك
أحكامها وقالت إن عليها أن "تتخذ إجراءات مباشرة لمنع واجتثاث" سياسات
أو ممارسات الأبارتيد في الفصل العنصري داخل المناطق الفلسطينية المحتلة. وبعد
عامين، وقعت فلسطين على الاتفاقية، وشكل ذلك التوقيع نقطة البداية في مسعاها
للحصول على تعويض قانوني دولي على ممارسات إسرائيل للأبارتيد داخل أراضيها. ثم في
عام 2015، بعد انضمام فلسطين إلى معاهدة روما، والتي أسست المحكمة الجنائية
الدولية، بدأ مكتب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق الأولي في تهم
بارتكاب جرائم داخل دولة فلسطين. على الرغم من أن التحقيق ركز على المستوطنات داخل
الضفة الغربية والمواجهات العسكرية في غزة، إلا أن مكتب المدعي العام أشار إلى أنه
بدأ في تلقي معلومات حول "ما يفترض أنه تأسيس لمنظومة مؤسساتية من التمييز
المنتظم" داخل دولة فلسطين. أنهى مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية
الدولية جمع البيانات في عام 2019، وقام في وقت مبكر من هذا العام بفتح تحقيق
رسمي. كما قررت المحكمة الجنائية الدولية هذا العام بأن لديها الصلاحية للنظر في
الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة داخل فلسطين، وفي الانتهاكات التي من ضمنها
الأبارتيد. بينما أعربت عن دعمها لجهود المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المنظمة
الحقوقية الفلسطينية البارزة، منظمة الحق، ظلت تكافح ضد حصر النقد الموجه
للأبارتيد الإسرائيلي بالمناطق المحتلة. ورأت المنظمة أن مثل هذا الخطأ سيكون من
شأنه تكريس الفصل والتمييز المنتظم من خلال الإذعان الضمني لتجزئة الشعب الفلسطيني
– أي بمعنى آخر الخضوع لمنطق التقسيم.