يتعرض مفهوم "
المواطنة" منذ سنوات لسيل من المساءلات، وموجات من النقد، والاعتراض، والدعوة إلى المراجعة، وهي في الواقع وقائع لها ما يُفسرها، ويبرر الأسباب الداعية إليها. فالتغيرات النوعية المتعاقبة بكثافة نهاية القرن العشرين والعقدين الأولين من الألفية الجديدة، عرّضت القواعد المؤسّسة للمواطنة للاهتزاز وفقدان الجدوى، بل إن المعاني العميقة للمفهوم طالَها التبدّل ولم تعد قادرة على البقاء وفيّة لأصولها الأولى، فعجزت عن تمكين المواطنين، وهم أصحابها بالقانون، من الاستفادة منها، والمحافظة عليها معبرة عن وجودهم الجماعي، وضامنة لعيشهم المشترك.
تأسست المواطنة، واستمدت شرعيةَ وجودها، من الاعتراف للأفراد - بوصفهم أعضاء الجماعة البشرية المستقرة في رقعة جغرافية محددة - بالحقوق التي وُلدت معهم بالفطرة (نظرية الحقوق الطبيعية)، أو التي منحهم إياها خالقُهم باعتبارهم مُستخلَفين في الأرض، كما ارتبط ميلادُها في دول أخرى بالقيم التي حملتها الثورات، وسعت إلى تعميمها وتوطينها في الثقافة السياسية للدول والمجتمعات.
المعاني العميقة للمفهوم طالَها التبدّل ولم تعد قادرة على البقاء وفيّة لأصولها الأولى، فعجزت عن تمكين المواطنين، وهم أصحابها بالقانون، من الاستفادة منها، والمحافظة عليها معبرة عن وجودهم الجماعي، وضامنة لعيشهم المشترك
فالمواطنة ارتبطت في
فرنسا، على سبيل المثال، بقيم ثورة 1789 ومُثلها العليا، وأصبحت لصيقة بالمشروع المجتمعي الذي عبرت عنه روح الثورة وسعى الثوار إلى تجسيده في مؤسسات النظام الذي أقاموه لاحقا، وكرَّسته دساتير السنوات الأولى لما بعد الثورة في الشعار الثلاثي للجمهورية: "الحرية، المساواة، الإخاء". ومنذئذ استقرت المواطنة في الدساتير وفي المعاهدات والاتفاقيات الدولية والإقليمية، وأصبحت قيمة الدول ومراتبها تُقاس بمدى تكريسها للمواطنة في قوانينها وتشريعاتها، وضمان حسن الاستفادة من الحقوق والامتيازات المترتبة عنها في الممارسة.
غير أن تغيرات عميقة وكبيرة طرأت على مفهوم المواطنة منذ عقود. فمن جهة، توسعت دائرتها، حيث لم تعد مرتبطة على مستوى الانتماء الجغرافي بالدولة، أي الوطن الذي ينتسب إليه بالجنسية أعضاء الجماعة البشرية، بل تجاوزته إلى فضاءات جغرافية أوسع، فأصبح الحديث مثلا عن "المواطنة الأوروبية"، في إشارة إلى الرقعة الجغرافية التي تغطي حدود الدول الأعضاء في هذا الاتحاد (27 بلدا)، وقد تحول مواطنو هذه البلدان بفعل المعاهدات والاتفاقيات المبرمة، والمتضمنة لحقوق وحريات وامتيازات جماعية، لينعموا بمواطنة جماعية أعلى من حيث الاتساع والشمولية من مواطنة بلدانهم، كما أصبحوا قادرين على التعبير عن تطلعاتهم ومطالبهم في مؤسسات أوروبية مشتركة (هياكل الاتحاد الأوروبي) تعلو على مؤسسات بلدانهم.
والأكثر من كل هذا، تعرضت المواطنة في سياق حركة العولمة الجارفة التي غزت العالم منذ نهاية القرن العشرين إلى نوع من "العولمة"، فبدأ تداول مصطلح "المواطنة العالمية"، والحديث بكثافة عن "الإنسان العالمي"، وظهرت أدبيات غزيرة تدعو إلى إعادة صياغة جديدة لمفهوم المواطنة، وبناء قانوني يتلاءم مع التغيرات الجديدة التي شهدتها مسارات الانتقال في معنى المواطنة ودلالاتها.
تعرضت المواطنة في سياق حركة العولمة الجارفة التي غزت العالم منذ نهاية القرن العشرين إلى نوع من "العولمة"، فبدأ تداول مصطلح "المواطنة العالمية"، والحديث بكثافة عن "الإنسان العالمي"، وظهرت أدبيات غزيرة تدعو إلى إعادة صياغة جديدة لمفهوم المواطنة، وبناء قانوني يتلاءم مع التغيرات الجديدة
ومن هنا، لم تعد المواطنة مقتصرة على رابطة الانتماء إلى جماعة سياسية (الدولة) محددة جغرافيا، ومعبرة عن مشروع مجتمعي جامع وموحّد لكل أعضائها، بل غدت متعددة دوائر الانتساب، ومتسعة جغرافية الانتماء. ومن جهة ثانية، أصيبت المواطنة بأزمات عديدة مسّت جوهر معانيها، وعطلت الاستفادة من النتائج المترتبة عن الاعتراف بها، وتكرسها في نصوص الدساتير والمواثيق الدولية، وهو ما جعل الباحثين المتابعين لتطور هذا المفهوم يشيرون بقوة إلى وجود أزمة حقيقية لمفهوم المواطنة، ويتساءلون عن إمكانيات الخروج منها.
فمن مؤشرات تعرض المواطنة لأزمة هيكلية تلك الاختلالات التي عمّت المجتمعات الصناعية، الأكثر قدما في مجال الديمقراطية والاعتراف بالمواطنة لأعضاء جماعتها السياسية، حيث تفاقمت الفوارق الاجتماعية، وازدادت فجواتها، وضعف أداء دولة الرفاه في الكثير من البلدان، وانكمشت مُقدرات المواطنين وإمكانياتهم في العيش بكرامة، لا سيما بالنسبة للقطاعات الأكثر التصاقا بآدمية الإنسان وكينونته، كالرعاية الصحية، والتعليم، ولأمن الغذائي، والعيش في بيئة صحية وسليمة.
والحال، أن هناك أمثلة كثيرة دالة عن طبيعة الأزمة التي تخترق مفهوم المواطنة، وتفقده بالتدريج معانيه الأصيلة. ففي فرنسا على سبيل المثال - وهي البلد الذي ظهر فيه أول "إعلان لحقوق الإنسان والمواطن" عام 1789، وأرفق ببيان الثورة الفرنسية - قدمت حركة "السترات الصفر (gilets jaunes) عنوانا واضحا عن الأزمة التي تخترق المجتمع الفرنسي، وتعرض مفهوم المواطنة المؤسس على روح الثورة وقيم الجمهورية للمساءلة والتشكيك والنقد.
من مؤشرات تعرض المواطنة لأزمة هيكلية تلك الاختلالات التي عمّت المجتمعات الصناعية، الأكثر قدما في مجال الديمقراطية والاعتراف بالمواطنة لأعضاء جماعتها السياسية، حيث تفاقمت الفوارق الاجتماعية، وازدادت فجواتها، وضعف أداء دولة الرفاه في الكثير من البلدان، وانكمشت مُقدرات المواطنين وإمكانياتهم في العيش بكرامة
وتؤكد استطلاعات الرأي أن نسبة ثمانين في المائة من الفرنسيين غير راضين على أوضاعهم الاجتماعية، ويتوقون إلى حصول تغيير إيجابي جوهري ينقلهم إلى حال أحسن. والشعور نفسه يتزايد في الكثير من الأقطار الأوروبية، بما فيها تلك التي تعمقت فيه "دولة الرفاه"، ولمس الناس نتائجها الإيجابية في حياتهم اليومية، كما هو حال الدول الأسكندنافية. أما في أمريكا وعموم دول أمريكا الشمالية (كندا تحديدا)، فالشعور يتزايد باستفحال ظاهرة التمييز العنصري، وتراجع القيم الأصلية التي بُنيت على أساسها هذه المجتمعات، من قبيل التسامح، والمساواة، وقبول الآخر، والترقي في السلم الاجتماعي.
تمرُّ المواطنة في الواقع بأزمات حادة وعميقة، وتبتعد شيئا فشيئا عن قيمها الأصيلة، لذلك هناك حاجة ماسة إلى وعي أزمات المواطنة أولا، والعمل ثانيا على ترميم لمفهوم ليغدو متناغما مع معانيه القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والأهم لكي يُنتج آثاره في جعل الناس مستفيدين من حقوق المواطنة ومنافعها وامتيازاتها.