قضايا وآراء

مائة عام من الهراء (5)

ماهر البنا
1300x600
1300x600
لا تكف الوقائع عن التوالي لتعزز فرضيتي الأساسية التي قادت سلسلة المقالات، هذه، وهي أن مؤتمر القاهرة 1921، الذي "رسم" حدود "الشرق الأوسط" كي تبقى دوله التي نشأت من وحي نقاشات فندق سيمراميس تتصارع، دون أن تتمكن من تجاوز صراعها العبثي هذا. وقد ذكرت أن القضية الفلسطينية، هي في القلب من كل هذا، وهي الدليل الأبرز على أن الأعوام المائة الماضية من وجود العرب في هذا العالم، كان عن حق هراء.

سنذهب بالقطع إلى فلسطين في القادم من المقالات، لكن هنا- الآن، وسريعا، نذكر واقعتين جديدتين: الأولى، أن "هيئة البث الإسرائيلية (مكان)؛ وهي قناة تلفزيونية مملوكة للدولة (الاحتلال) وموجهة للجمهور العربي، ذكرت أن "الجنرال الليبي خليفة حفتر أجرى زيارة سريعة لتل أبيب، الجمعة 14 كانون الثاني/ يناير، ضمن الاتصالات المستمرة بين مسؤولين ليبيين وإسرائيليين خلال الأيام الأخيرة". وفي الثانية أعلنت "جماعة الحوثي في اليمن مسؤوليتها عن تفجير صهاريج نفط في أبو ظبي في الإمارات، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص. وقال المتحدث العسكري باسم الجماعة إن خمسة صواريخ باليستية وعددا من الطائرات المسيرة استخدمت في الهجوم، محذرا من استهداف المزيد من المواقع الهامة. وكان التحالف الذي تقوده السعودية لقتال الحوثيين في اليمن قد شن غارات جوية على العاصمة اليمنية صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون.

ويكتمل المشهد بهذا المقطع من أغنية "كل العرب ملاح"، للمطربة الإسرائيلية نوعام شوستر إلياسي، التي بثتها "مكان" قبل يومين، وجاءت معظم كلماتها باللغة العربية: "في آخر النفق فيه ضي (ضوء).. لو كل العرب زي، دبي دبي دبي.."، وتكمل في مقطع آخر: "ما فيش أحلى من العرب، معهم ملايين، ونسيوا شعب انتكب، نسيوا فلسطين".

* * *

في تقديم تعريبه لكتاب "توجهات بريطانية- شرقية" (مذكرات السير رونالد ستورس، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2004) يذكر الدكتور رؤوف عباس أنه "وبرغم أهمية الكتاب، وما يلقيه من أضواء كاشفة على السياسة البريطانية في المشرق العربي عامة، وفي مصر والجزيرة العربية والعراق وفلسطين خاصة، وبرغم حرص كل من درس تاريخ المنطقة في العقود الأولى من القرن العشرين على الرجوع إليه لاستخلاص المعلومات منه كمادة دراسية، أو لتحقيقها مقارنة بما كشفت عنه الوثائق البريطانية الخاصة بالفترة، فإن أحداً لم يفكر في نقله إلى اللغة العربية.. لأنه (عند ظهور طبعته اللندنية عام 1937) كان يميط اللثام عن علاقة الهاشميين وآل سعود ببريطانيا، وكان هؤلاء ملوكا يتربعون على عروش العراق والسعودية والأردن، ومن ثم لم يدرج الكتاب ضمن مشروعات الترجمة بمصر أو غيرها لكبر حجمه، وحساسية ما يتناوله من أمور (بمعايير تلك الأيام)".

هذا أحد جوانب "الهراء" الذي أعمل على كشفه؛ فأهمية ما دونه ستورس (1881- 1955) لا شك فيه، فقد لعب دورا مهما في توجيه صناعة القرار الخاص بالسياسة البريطانية في المنطقة من خلال موقعه كخبير بالشؤون العربية، تولى منصب "السكرتير الشرقي" بالقنصلية البريطانية في مصر (1908- 1917)، وشغل منصب "الحاكم العسكري للقدس" (1917- 1926)، ثم أصبح "حاكم القدس" في ظل حكومة الانتداب (1920- 1926).

وقد نشر كتابه في لندن عام 1937، لكنه للأسباب التي ذكرها عباس، لم يجد طريقه للتعريب إلا في عام 2004. والمعنى أن معرفتنا بـ"حقيقة" الأحداث التي جرت في المشرق العربي، متأخرة دائما للغاية عن مفاعليها، التي تعقبها أحداث أخرى تنتج جديدا يضيف مفاعيل جديدة، وهي معرفة مجتزأة؛ إذ أنها تقدم من وجهة نظر طرف واحد، وهو الاستعماريون الحريصون على تقديم شهاداتهم عن الأحداث التي شاركوا فيها. أما "القادة" العرب الذين شاركوا في صنعها (في تنفيذها للدقة) فلم نقرأ لهم مطلقا، لأنهم لم يدونوا شيئا، لأسباب كثيرة؛ منها أنهم كانوا يتصرفون وفق تصور أنه لا أحد من العرب سيطالبهم بسرد تلك الأحداث وتفسير تصرفاتهم، أو أنهم، في اعتقادهم الراسخ، كانوا يقومون بما يجب كتمانه لتعارضه المطلق مع ما يعلنونه.
معرفة مجتزأة؛ إذ أنها تقدم من وجهة نظر طرف واحد، وهو الاستعماريون الحريصون على تقديم شهاداتهم عن الأحداث التي شاركوا فيها. أما "القادة" العرب الذين شاركوا في صنعها (في تنفيذها للدقة) فلم نقرأ لهم مطلقا، لأنهم لم يدونوا شيئا، لأسباب كثيرة

* * *

ويشير عباس في تقديمه إلى ما "نجده في المذكرات من إشارات تعبر عن التكوين الثقافي الاستعماري لستورس، الذي يرى في كرومر (المندوب السامي في مصر) "مؤسس مصر الحديثة"، وفي الاحتلال البريطاني لمصر "إنقاذا" لها من وهدة التخلف، ودفعا لها على طريق "الإصلاح" و"المدنية". ويرجع رجال الحركة العربية إلى بريطانيا طلبا لمساعدتهم في الثورة على الأتراك، لرغبتهم في "التمتع" ببعض ما حظي به المصريون - على يد الإنجليز - من تقدم وإصلاح، وهو ينظر إلى المصريين نظرة عنصرية (كرومرية)، فيصنفهم إلى مسلمين وأقباط، كما ينظر إلى الفلسطينيين بالمنظار نفسه، فهم مسلمون ومسيحيون، ولا يفلت من قلمه ذكر مصرية المصريين أو عروبة الفلسطينيين إلا نادرا".

لعب ستورس دورا مؤثرا في توجيه السياسة البريطانية في ما يخص مصر، قبل الحرب العالمية الأولى وفي أيامها الأولى، لكن دوره الأهم تمثل في إقامة الصلات الأولى بين بريطانيا والشريف حسين بن علي، شريف مكة، وتشجيعه على الثورة ضد الأتراك في الحجاز. وقد فكرت دوائر صنع القرار في بريطانيا في من يصلح لقيادة عمل عسكري مضاد للأتراك، باعتباره الشخصية المقبولة عند الجميع، وطرحت ثلاثة أسماء: شيخ الكويت، والأمير عبد العزيز بن سعود شيخ نجد، والشريف حسين بن علي. ورجحت كفة الأخير.

* * *

في عام 1989 أصدر المحامي الأمريكي المتخصص في القانون الدولي، ديفيد فرومكين، كتابه "سلام ما بعده سلام: سقوط الدولة العثمانية واختراع الشرق الأوسط الحديث 1914- 1922"، واصفا الأحداث التي أدت إلى تفكك الدولة العثمانية؛ أثناء الحرب العالمية الأولى، والتغييرات الجذرية التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، والتي أدت (بحسب تقديره) إلى حرب عالمية جديدة مستمرة حتى إصداره للكتاب. وقد صدرت ترجمتان عربيتان للكتاب (دار الساقي، 1992، دار عدنان، 2015).

وعنوان الكتاب يستمد وقعه من جملة أرشيبالد ويفل؛ الذي كان ضمن قوات اللنبي التي احتلت فلسطين، التي قالها تعقيبا على المعاهدات والاتفاقيات التي وضعت نهاية للحرب العالمية الأولى: "بعد الحرب التي قُصد بها إنهاء الحروب، يبدو أنهم نجحوا في باريس نجاحا تاماً في تحقيق سلام ينهي السلام".

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، جرى تعيين كيتشنر، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، الذي يصفه فرومكين بأنه "حاكم مصر الفعلي"، وزيرا للحربية في الحكومة البريطانية في لندن، وكان كيتشنر يعتقد أن "الخلافة/ الدولة العثمانية" إذا كانت في أيدي أعداء بريطانيا فقد تستخدم لتقويض مركز بريطانيا في الهند ومصر والسودان، وقد كانت بريطانيا تحكم أكثر من نصف مسلمي العالم. وكان اقتراح كيتشنر "أن تلجأ بريطانيا إلى تدبير ليكون مرشحها هو الخليفة، وبما أن النبي محمد ولد في شبه الجزيرة العربية، فقد رأى كيتشنر تشجيع الرأي القائل إن الخليفة يجب أن يكون من شبه الجزيرة العربية..

وكان أعوان كيتشنر حتى قبل دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب قد نبهوه إلى أن أمير مكة، وهو مرشح عربي للخلافة لا تخطئه العين، كان قد أجرى اتصالا معه.. فعبد الله؛ الابن الأثير إلى نفس الشريف الحسين، شريف مكة، كان قد التقى اللورد كيتشنر أول مرة في القاهرة عام 1912 أو 1913، والتقاه مرة أخرى في شباط/ فبراير 1914. وكان عبد الله قد أعقب لقاءاته مع كيتشنر بلقاءات أكثر تفصيلا مع ستورس.

ثم يذكر فرومكين أنه "ليس هناك حتى وقتنا الراهن ما يثبت ماذا قال عبد الله في القاهرة، وماذا قيل له". هذه الجملة تكشف بعمق ما جرى الإشارة إليه من أننا لا نعرف، حقا، ما هي "الرواية" الواقعية من وجهة النظر العربية، وأننا نتخبط في عمق دهاليز السياسات الاستعمارية، في غياب تام لأية وثائق عربية من مصادرها المباشرة.

لكن فرومكين يعقب فقرته التي تضمنت جملته تلك، فذكر أنه "والظاهر أن عبد الله ادعى - كاذباً - أمام ستورس أن الزعماء المنافسين لوالده في شبه الجزيرة العربية مستعدون للسير خلف والده في معارضة مخططات الباب العالي".
السياسة البريطانية تجاه المنطقة كانت تدرس وتخطط بناء على التصورات التي تصاغ في المركزين الاستعماريين في الهند ومصر، وأن كل واحد منهما كانت لديه تصورات متعارضة، وسنرى كيف جرى التوفيق بينهما في السنوات القليلة اللاحقة

* * *

عرفنا مما سبق من هذه السلسلة أن السياسة البريطانية تجاه المنطقة كانت تدرس وتخطط بناء على التصورات التي تصاغ في المركزين الاستعماريين في الهند ومصر، وأن كل واحد منهما كانت لديه تصورات متعارضة، وسنرى كيف جرى التوفيق بينهما في السنوات القليلة اللاحقة (أثناء الحرب وعقبها مباشرة).

في القاهرة كان ستورس يقدم التصورات السياسية، بينما كان جيلبرت كلايتن (1875- 1929)، ضابط الاستخبارات (الذي عمل لورانس ضمن إدارته)، يقدم المعلومات "الاستراتيجية"، وكان من ضمنها تقرير رُفع إلى كيتشنر (كوزير للحرب) تضمن "التأكيد على أن زعماء شبه الجزيرة العربية المتنافسين - أي حاكمي عسير واليمن، وكذلك ابن سعود وربما أيضا ابن الرشيد أمير نجد - سيتكاتفون مع أمير مكة للعمل من أجل أن تكون "شبه جزيرة العرب للعرب"، وجاء في مذكرة كلايتن أن هذه الحركة تلقى التشجيع من الخديوي (عباس حلمي الثاني)، الحاكم الاسمي لمصر تحت إمرة السلطان (العثماني)، وكان الخديوي أيضا يعتبر نفسه مرشحا لأن يخلف السلطان في مركز خليفة المسلمين".

يصف فورمكين مذكرة كلايتن السرية تلك بالخطأ الجسيم، ويعقب: "وليس واضحا كيف كان كلايتن ينوي أن يوفق بين المصالح المتضاربة لهذه المجموعة المتعددة الأهواء".

هذا ما سنحاول تبيينه في الأسبوع المقبل.

التعليقات (0)