في زيارتي الشهر الماضي لمقاطعة أونتاريو في كندا قمت بزيارة إحدى قريباتي الكبيرات في السن، كانت الزيارة ممتعة فوصل الرحم واجب ورؤية الأحبة أمر محبب إلى قلبي، ولكن لفت نظري أمر ما أزعجني وأرغمني على التفكير في هذه القضية.
كانت السيدة تشاهد التلفاز، وتشاهد بالذات برنامجا تلفزيونياً لبنانياً اسمه أحمر بالخط العريض. هذا البرنامج يعالج قضايا شائكة في المجتمع ويطرح في كل حلقة قضايا إشكالية من مخدرات وعنف ومثلية وخطف أولاد وسفاح القربى، ومسائل تعتبر من التابوهات المحرمة في مجتمعاتنا والتي لا يناقشها أحد رغم أهميتها. كانت قريبتي منزعجة جداً من حجم الانحلال الأخلاقي الذي وصله المجتمع اللبناني مقارنة بما تعرفه هي عنه كمهاجرة منذ أكثر من أربعين عاماً.
ما لفت نظري في الموضوع هي كمية
المعلومات المتدفقة من هذا البرنامج إلى دماغ هذه السيدة المسكينة البسيط إلى الحد الذي أصابه بالتشوش، سألت نفسي: هل نحن حقاً بحاجة إلى هذا الكم الهائل من المعلومات الحشو التي لا نحتاجها جميعاً في حياتنا اليومية؟
بعدها زرت قريباً آخر وشاهدت أمراً مماثلاً؛ كان يشاهد الكثير من الفيديوهات التي يزخر بها اليوتوب اليوم، والتي تتحدث عن نظريات المؤامرة والشبكات الاقتصادية الخفية التي تدير العالم، كنت أستطيع أن أرى تأثير ذلك في حديثه، فهو كيفما حدثته في موضوع ما يدير الموضوع ويحيله على دوائر المؤامرات الخفية التي تدير العالم، حتى أنه ذكرني بنكتة الولد الذي درس فقط درس الفيل للامتحان وحيث أن السؤال كان عن النملة فقد كان جوابه على الشكل التالي: النملة حشرة صغيرة يعرف عنها النشاط والحد وتقوم ببناء بيتها في باطن الأرض، وقد مر فيل وداس بيتها، ويمتاز الفيل.. وكتب كل درس الفيل وللنكتة تتمة. ومجدداً سألت نفسي: هل نحن فعلاً بحاجة لهذا الكم الهائل والمتخم أحياناً من الفيديوهات عن نظريات المؤامرة وإدارة العالم؟
أو بالأحرى دعوني أعيد تقنين السؤال:
هل كل الناس بحاجة لهذه المعلومات عن الفساد الأخلاقي أو المؤامرات السوداء؟
حسب إحصاءات ٢٠٢٠، كل يوم تتم إضافة ١.١٤٥ تريليون معلومة جديدة، كل يوم كل شخص يقوم بإضافة ما مقداره ١.٧ ميغابايت كل ثانية ما معناه أننا نقوم بخلق ٢.٥ كوينتيليون معلومة كل يوم.
هل هذه المعلومات دقيقة؟ وهل هذه المعلومات جديدة؟
لنتحدث أولاً عن الدقة، في عصر التدفق المعلوماتي وعصر السوشال ميديا، أصبح أي شخص قادرا على الوصول إلى الإنترنت وخلق محتويات على فيسبوك أو تويتر وسنابشات، أو على وسائل أخرى كمواقع المحادثات والمنتديات أو المواقع المتخصصة، وكثير من هذه المعلومات مكررة ومقتطعة من مصادر أخرى بطريقة غير صحيحة. لا، هناك معلومات غير دقيقة ومغلوطة ومنافية للحقيقة أحياناً، وتعكس وجهات نظر أكثر مما تعكس حقائق علمية وفعلية.
هل سيساهم هذا في تسهيل حياتنا كأفراد؟ لا شك أن وفرة المعلومات أمر مهم للباحث ولكن هل الكثرة جيدة؟ قديما كانوا يقولون إن أردت أن تحيّره فخيّره، لأن كثرة الخيارات تصيب المرء بالحيرة، وحين كنا نختار من سبعة ألوان لون الدهان الذي سنصبغ به جدران منازلنا كانت العملية سهلة، بعض هذه الألوان غير مستساغة وستستبعد بشكل تلقائي لمنافاتها للذوق العام، وما بقي بعد ذلك يسهل الخيار لنا ويحصره في عدة خيارات لا أكثر. اليوم نحن أمام وفرة متقاربة جداً في الخيارات إلى الحد الذي نحتاج معه إلى رأي دقيق ومتخصص جداً في نوعية الصباغ وملاءمته لما نقوم بصباغته، وإن كان هذا هو اللون الدارج لهذا العام، فالذوق العام تعقد لدرجة أن ما كان مقبولاً منذ سنوات قليلة أصبح قبيحاً الآن ودقة قديمة، والأمر يجري على أمور كثيرة بنفس المنهاج. فهل أحتاج أنا هذا الشخص العادي لهذه الوفرة في الخيارات؟
كما أسلفنا وفرة الخيارات تعطي الشخص المتخصص القدرة على التمييز والتفضيل، ولكنها تشتتني كشخص عادي إلى درجة الشلل وتضعني تحت صدمة عقلية تجعل دماغي غير قادر على الفصل.
منذ فترة ليست بالقصيرة سألت خبير اتصالات سؤالاً محدداً: حين أقترب من أحد أبراج الاتصالات ينقطع الاتصال عندي رغم أن إشارة الإرسال تشير إلى مئة في المئة فماذا يحدث هنا، كنت أسأل سؤال العارف الذي يبحث عن جواب يظن أنه الصحيح، قال لي نعم حين يقترب الجهاز من برج الاتصال يحدث تدفق أكثر من اللازم للإرسال يجعل قدرة محمولك الصغيرة غير قادرة على أخذ كل الكمية المتوفرة من الباندويث، مما يضع الجهاز في حالة شبيهة بحالة الاختناق، شبيهة تقريباً بحنفية ماء نصف إنش يتمضخ عشرين إنش ماء إليها، وتحاول شركة ذكر اسمها أن تعالج الموضوع من خلال جهاز معين، ولكن العملية لا زالت في بدايتها وتحتاج الكثير من الأموال التي لست أدري هل ستقوم شركات الاتصالات بتخصيصها لها كأولوية أم لا.
هل هذا ما يجري معنا حالياً؟
هل هذه الأدمغة البسيطة تحتاج لهذا الكم الهائل من المعلومات؟
بعض هؤلاء الذين يضيفون معلومات إلى الإنترنت لا يعرفون عن المصداقية ومعايير البحث أي شيء ولذلك وبكل بساطة فإن أحدهم قد يكتب "أشارت دراسة بريطانية" ويفقع كذبة من عنده تلفق لمفهوم أو فكرة جديدة، وهو ما يسمى في علم النفس إضافة المعلومة إلى سلطة ما (relying on an authority) لأننا لن نقوم بتصديقه ولكنه حين ينسبها إلى هيئة أو جهة دولية فإن هذا سيجعل معلوماته قابلة للتصديق أكثر وسنخدع نحن بالمحتوى.
إن أي محاولة لتصفح موقع "fact checking" أو التثبت من الحقيقة تصيبك بالذهول من بعض الأخبار التي تنشر ويتعامل معها الناس على أنها حقائق، بينما هي محض أكاذيب.
هل يسهل هذا عملي أو حياتي كشخص بسيط أعيش على هذه البسيطة وأحاول العيش بسلام؟
بالطبع لا، ففي حالة العجوز أو حالة الشاب لم يكن أي منهما بحاجة لهذا التدفق غير الضروري في المعلومات في قطاعات لا تؤثر بشكل مباشر على حياتهما اليومية، وتجعلهما في حيرة وتبعثر فكري رهيب يجعلهما غير قادرين على التركيز في القيام بأبسط الأمور في حياتهما، لانشغالهما بهمّ أكبر ما كانا لينشغلا به لولا أن أحدهم لفت ويلفت أنظارهما إليه ويشتت تركيزهما.
قبل ١٥٠٠ سنة قال عنترة: "هل غادر الشعراء من متردم"، فهو كان يشكو من أن الشعراء لم يتركوا له ما يقوله على الأطلال، فهل هذا هو حالنا اليوم؟
قلت سابقاً هذه الفكرة وأعيد قولها أحيانا؛ إن الكثير مما يطرح من أفكار اليوم على أنها أفكار جديدة ليست جديدة بالمرة، بل إن الكثير منها نستعمله في حياتنا اليومية دون أن نعلم ذلك، وكل ما يقوم به هذا العالم أو ذاك هو بتحديد هذا المفهوم وتقنينه وتعريفه. فهل كان مفهوم الصفر غائبا عن أذهان الناس حين اخترع الهنود الصفر وعرفه الخوارزمي وحدده مثلاً كأداة قياس؟ بالطبع لا، كانت الفكرة موجودة ولكن الناس لم يحتاجوا لها لأنها مدركة بالبديهة.
هذه الأفكار الملبسة بلبوس جديد وتقدم نفسها على أنها أفكار جديدة؛ هل هي إضافة جديدة حقاً؟ وهل نحتاج لهذا الكم الهائل من الكتب في حقل ما مثلاً بينما كلها تطرح نفس الفكرة وتدور حولها وتقدم تقريباً نفس الأفكار بصياغات مختلفة؟ خذ مثلاً الموضة الدارجة حالياً في موضوع التخسيس، وسترى كمّاً هائلاً من تدوير المعلومات، ولو حاولنا تبسيط هذه المعلومات أو تقنينها سترى أن هناك ببساطة اتجاهين أو ثلاثة في عملية تخسيس الوزن، وكل أفكارهم واحدة ولكنهم يسمونها أسماء مختلفة ويقدمونها بصياغات مختلفة لإيهام المشتري بأنهم يقدمون له فكرة خلاّقة جديدة. إنهم ببساطة يدهنون الهواء ويبيعونه لنا على أساس أنه منتج جديد.
فهل حان الوقت لإعادة تقنيين العلوم وتبسيطها؟
حين يتحدث البعض عن غربلة التراث الإسلامي فإن من يعارضهم في ذلك يقدم لهم محاولات طبيعية جرت في التراث من أهل التراث نفسه لتبسيط الأمور، فجاءت الاختصارات والتبسيطات والتيسيرات في كثير من الحقول لتختصر أفكاراً كثيرة في حقل ما وتقننه، لتسهل على الباحث البسيط الخوض في مسالكه الوعرة وتوفر عليه عناء البحث، فهل نشهد محاولات لتبسيط نظرتنا إلى الحياة أو تقويم مفاهيمنا لها؟
لا شك أن مسألة كهذه تحتاج كتاباً كاملاً لمعالجتها ولن تفي مقالة واحدة بحقها، ولكنني سأتوقف هنا حتى لا أقع في فخ الإطالة.