هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعيش تونس مهد الربيع والثورة واحدة من أكثر لحظاتها التاريخيةِ المعاصرةِ حساسيةً وحرجا. لا يتعلّق الأمر هنا بالمسار الانقلابي فحسب بل يمتدّ ليشمل كامل المسار الانتقالي الذي انطلق منذ أكثر من عشر سنوات من المدّ والجزر وصولا إلى هاته اللحظة الحاسمة. عاشت تونس مدة عقد من الزمن مسارا حافلا بالإنجازات العظيمة لكنه كان كذلك زاخرا بالخيبات والرجات التي كشفت عمق الوهن الذي تعاني منه الدولة والمجتمع نخبا وإدارة ومؤسسات.
في لحظة قريبة انتصر الوهنُ على المُنجز الثوري ونجح مشروع الانقلاب على المسار الانتقالي بعد أن خان قائد الانقلاب القسم الدستورية فأمر بإغلاق البرلمان واستحوذ على السلطة التشريعية والتنفيذية وهو يخوض اليوم آخر جولاته ضد السلطة القضائية. خاض قائد الانقلاب معاركه الكلامية بفصاحة فجّة لا تسثني من الاتهام بالخيانة والعمالة أحدا من مخالفيه فوسم معارضيه بأبشع النعوت وتوعّدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنه في الوقت نفسه لم يُثبت على أحد منهم تهمة واحدة من التهم التي اتهمهم بها بل راكم الزلات وراء الزلات حتى وجد الانقلاب نفسه حبيس مشروعه.
ظهر قائد الانقلاب عليما خبيرا محيطا بما يجري في الكواليس أو كما يحلو له أن يسميها الغرف المظلمة التي تتآمر عليه وعلى مشروعه العظيم. لكنّ تسارع الأحداث كشف عن أنّ أخطر الغرف المظلمة هي غرفة الانقلاب نفسه حيث تحاك الدسائس والمؤامرات على الثورة والشعب ومستقبل البلاد بدعم خارجيّ لا يَخفى.
الخطر الداهم والغرف المظلمة
تعلل الانقلاب بالخطر الداهم الذي ينصّ عليه الفصل الثمانون من الدستور فاستحوذ على كل السلطات رغم أن الفصل نفسه ينص بصريح اللفظ الذي لا يقبل التأويل على أن البرلمان يبقى في حالة انعقاد دائم وأن الحكومة لا تُمسّ وأن الفترة الانتقالية محدودة في الزمن. الخطر الداهم حسب "الرئيس المنقلب" هو البرلمان الذي هو رغم كل مساوئه صوت الشعب الذي انتخب أعضاءه لتمثيله والتعبير عنه.
لم يخفِ المُنقلب تذمّره من البرلمان ومن النوّاب الذين يزاحمونه السلطة ويعبّرون عن الشعب الذي يراه مُلكه الحصري الذي لا ينازعه فيه أحد فهو وحده العالم بما يريد الشعب. كان لزاما عليه وعلى مشروعه أن يُزيح هذه العقبة الكأداء من طريقه لأنها الحاجز الوحيد القادر على إسقاط المشروع الإقليمي في الإطاحة بآخر قلاع الربيع العربي. لكن الانقلاب ككل الانقلابات لم يكتف بذلك بل قاد حملة شرسة ضد كل مؤسسات الدولة السيادية فأقال الحكومة وعيّن بنفسه حكومة جديدة من الأصدقاء والموالين وألغى كل الهيئات الدستورية المنبثقة عن دستور 2014 ثم ألغى الدستور نفسه رغم ادعائه غير ذلك.
أما آخر جرائم الانقلاب فقد انكشفت يوم عيد الثورة في الـ14 من يناير الماضي حين قمعت قوات الأمن بأمر منه آلاف التونسيين الذين خرجوا للاحتفال بعيد الثورة وسقط منهم الجرحى واستشهد المناضل "رضا بوزيان" تحت ضربات بوليس الانقلاب.
تتسّع دائرة المعارضين للانقلاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع تحرّك القوى الحقوقية من محامين وقضاة ونشطاء مدنيين خاصة بعد حملات الاعتقالات العشوائية التي طلت الجميع وما صاحبها من قمع وحشي أعاد إلى الأذهان صورة البلاد في زمن الاستبداد.
كانت وزارة الداخلية ذات التاريخ الدموي في قمع التونسيين خلال أكثر من نصف قرن ساحة معركة حاسمة بين قائد الانقلاب وعدد من الإطارات التي بقيت حريصة على إنقاذ سمعتها من جرائم جديدة لن تكون قادرة على تحمّل تبعاتها. أطاح رئيس البلاد بقيادات هامة في الوزارة وعيّن رجله على رأسها وحوّلها من جديد إلى أداة للقمع والتنكيل والاختطاف والسجن والتنكيل دون اعتبار للقانون أو لدور القضاء في تحديد طبيعة الجرائم ومعاقبة مرتكبيها.
تحوّل قصر قرطاج إلى غرفة الغرف المظلمة وتتابعت التسريبات من داخل أروقة القصر عن صراع الأجنحة بين العائلة المالكة الجديدة وبقية الأطراف المشاركة في الانقلاب، وليست استقالة مديرة الديوان الأخيرة إلا جولة من الجولات التي انتصر فيها أحد الشقوق داخل القصر على الشق الآخر. تضاف إلى ذلك جملة من الوثاق السرية التي تظهر التنسيق الخطير بين مؤسسة الرئاسة والمخابرات المصرية التي تلعب دورا مركزيا في تصفية الثورة التونسية ومسارها الانتقالي.
لقد صار القصر الرئاسي غرفة سوداء مظلمة تُرتّب فيها تفاصيل الانقلاب وتحاك فيها مراحل تفكيك المنجز الثوري وتخاط فيها أثواب الدستور الجديد والأوامر الرئاسية العليّة وتحدد فيها قوائم المشمولين بغضب الزعيم الجديد أو المحاطين برعايته وعطفه.
الانقلاب يأكل أبناءه
لن يخرج انقلاب تونس عن منوال الانقلابات العربية على مدار تاريخها الحديث حين يبدأ قائد المغامرة بالتخلص من أعوانه ومساعديه واحدا تلو الآخر لأنهم الوحيدون العالمون بخبايا الجريمة ووحدهم القادرون على فضحها. وليس أدلّ على ذلك في تاريخ تونس الحديث من انقلاب بورقيبة على حكم البايات حين بدأ في التخلص من رفاقه في النضال بالاغتيال والقتل والتهجير والتعذيب والنفي حتى يخلو الجوّ للمجاهد الأكبر زعيما أوحدَ دون غيره.
ثم جاء "رجل التغيير" فقاد انقلابه الطبي ضد الرئيس العجوز سنة 1987 ونفاه في مسقط رأسه حبيس غرفة مظلمة لا يدخلها النور حتى مات وحيدا لا يجد شربة ماء. قام المنقلب الجديد بالتخلص من كل رفاقه بما فيهم من قادوا معه الانقلاب وعلى رأسهم وزير الداخلية وقتها "الحبيب عمّار" لأنّ الطاغية الجديد لم يكن ليسمح لأحد من الأنداد بأن يشاركه كعكة الحكم حتى انتهى به المطاف هاربا إلى غير وجهة معلومة.
لم يبق اليوم إلى جانب المنقلب إلا عائلته المقرّبة ومجموعة العناصر والأبواق الذين نالوا النصيب الأوفر من مراكز السلطة والقرار بتوصية من العائلة نفسها في مشهد يعيد إلى الأذهان سطوة حكم العائلة في السنوات العشر الأخيرة من دولة بن علي.
أما الانقلابي الجديد فقد بدأ مبكّرا بالتخلص من العناصر العاقلة أو المزعجة داخل فريقه الرئاسي الذي استقال منه عدد كبير من المستشارين مثل الجنرال الحامدي والمستشارة الإعلامية وغيرهما. ولم يقتصر الاستفراد بالسلطة والقرار عند هذا الحدّ بل إن قائد الانقلاب قد عمد إلى إقصاء أكبر الداعمين لمشروعه من الأحزاب السياسية والشخصيات الحزبية التي لم تظفر بنصيبها من السلطة بعد نجاح الانقلاب. تحوّل "حزب التيار الديمقراطي" من مساند للرئيس وقراراته مهللا بالانقلاب إلى مندد به داعيا التونسيين إلى إسقاطه بكل الطرق المشروعة وحتى غير المشروعة كما جاء على لسان زعيم الحزب.
أما "حزب حركة الشعب" ذو التوجهات القومية المساند الرسمي للانقلابات على الثورات فقد بقي متشبثا بالانقلاب وقائده رغم أنّ الرئيس قد أعلن أكثر من مرّة أنه لن يقتسم السلطة مع أحد وأنه لن يشرّك أعضاء هذا الحزب في مشاوراته السياسية ومشاريعه الانتقالية. هكذا ظهر بالدليل الملموس أنّ مشروع الحركة القومية لم يكن غير إفشال الثورة وإلحاقها بالمنوال المصري تحت غطاء الحرب على الإسلاميين بالتنسيق مع القوى الاقليمية وعلى رأسها السلطة المصرية.
لم يبق اليوم إلى جانب المنقلب إلا عائلته المقرّبة ومجموعة العناصر والأبواق الذين نالوا النصيب الأوفر من مراكز السلطة والقرار بتوصية من العائلة نفسها في مشهد يعيد إلى الأذهان سطوة حكم العائلة في السنوات العشر الأخيرة من دولة بن علي.
في المقابل تتسّع دائرة المعارضين للانقلاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع تحرّك القوى الحقوقية من محامين وقضاة ونشطاء مدنيين، خاصة بعد حملات الاعتقالات العشوائية التي طالت الجميع وما صاحبها من قمع وحشي أعاد إلى الأذهان صورة البلاد في زمن الاستبداد. هكذا تقف تونس اليوم في انتظار ساعة الحسم الأخيرة بين الفريقين مع اشتداد الأزمة الاجتماعية واستفحال الغلاء وبلوغ البلاد مرحلة الإفلاس المعلنة، ولن يكون أمام الجميع من مخرج عقلاني يوفر على المجتمع والدولة انزلاقات كارثية إلا بعودة الشرعية وعودة البرلمان والدستور ومحاكمة الانقلابيين.