في هذا المقال الثالث من سلسلة أهم الأحداث التي جرت في عام
2021 سنتناول انسحاب القوات الأمريكية الغازية من أفغانستان، بعد احتلال دام عقدين من الزمان ارتكبت خلالهما القوات الأمريكية وحليفاتها من العرب والأوروبيين جرائم يندى لها جبين البشرية؛ اعترف بعض الجنود الأمريكيين بارتكابها ونشرت على صفحات التواصل الاجتماعي.
الكل يتحدث عن الفقر والجوع والتخلف والديمقراطية وتعليم المرأة، ولكن الأهم من وجهة نظري في هذا الملف هو الكرامة الإنسانية والحقد الديني الذي صاحب هذا الاحتلال، وكيف تعامل هؤلاء الغزاة مع ثقافة شعب متدين ومتمسك بعقيدته. لقد بدا الغيظ المكتوم في صدور الغزاة واضحا، وظهرت على الملأ خططهم لمحاربة الإسلام ومحاولة اقتلاع جذوره.
وبالعودة للبدايات يتضح لنا أن الرئيس الأمريكي -الجديد حينئذ- جورج بوش الابن، والذي سيطر على إدارته مجموعة من المحافظين اليمينيين الذين كانوا ولا يزالون يرون الإسلام هو العدو الرئيس للحضارة الغربية، وبمجرد وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 كانت خطط
الغزو جاهزة. والمفارقة العجيبة أنه لا يوجد أفغاني واحد ضمن المجموعة التي نفذت الهجوم على البرجين ومبنى البنتاجون، بل الجميع يعلم أن غالبية الفاعلين (15) كانوا من دولة حليفة لأمريكا هي السعودية، وأن الرأس المدبر كما قيل هو مصري، أي هو الآخر من دولة حليفة لأمريكا.
اختار العدو السهل الذي يمكن أن يطبق فيه نظريته أو طريقته في التغيير بالقوة، وإحداث انقلاب في المنظومة المجتمعية والثقافية في هذا البلد الفقير
هذه النقطة بالذات توضح سبب الغزو وهي نفسها ستوضح لنا سبب الانسحاب، فلقد اختار الغزاة دولة يعلمون أن نظام الحكم فيها لا سند له ولا داعم في العالم بأسره وحتى في الجوار أو المنطقة، وهو (أي بوش) بذلك اختار العدو السهل الذي يمكن أن يطبق فيه نظريته أو طريقته في التغيير بالقوة، وإحداث انقلاب في المنظومة المجتمعية والثقافية في هذا البلد الفقير ثروة والغني من حيث اعتزازه بعقيدته وتمسكه بتراثه وتقاليده.
كلنا يذكر أن الهدف المعلن كان نشر الديمقراطية في بلد عاش لعقود تحت حكم النظام الشيوعي ثم جاهد من أجل إخراج الروس، واتفقت قواعده على اختيار نظام حكم يراه الناس مناسبا لهم، وكان الأجدر أن يترك الشعب ليمارس حريته ويناضل من أجل تنمية بلاده. ولكن كانت كلمة الغرب هي لا وألف لا لأي نظام يقيم الشريعة، أو على الأقل يرفع شعار إقامة الشريعة الإسلامية وإن اختلفت أنا وأنت في بعض التفاصيل معهم.
كان هدف الحرب المعلن هو إقامة الديمقراطية في أفغانستان، ولا تسأل كيف يستقيم هذا الادعاء مع وجود قرابة 800 ألف مقاتل أجنبي هناك منذ الاحتلال وحتى الانسحاب!
إن حربا كلفت الخزانة الأمريكية قرابة تريليوني دولار أمريكي وبضعة آلاف من القتلى في صفوف الغزاة (3500 قتيل من الأمريكيين وحلفائهم) راح ضحيتها ربع مليون قتيل، وستة ملايين بين لاجئ ونازح، ناهيك عن كمية الدمار التي لحقت بكل شيء، ولمَ لا والجنود الغزاة أنفسهم كانوا يقاتلون السراب ويطاردون الأشباح، ولم ينج من قصفهم طفل ولا أمرأة ولا شيخ عجوز.
لماذا قبلت أمريكا إنفاق كل هذه الأموال، وهي تعلم علم اليقين أن بلدا مثل أفغانستان غير صالح لإقامة الديمقراطية على النمط الغربي؟ السبب أن الهدف المعلن كان غير صحيح وهو هدف مخادع
نشرت الأمم المتحدة
تقريرا رصدت فيه قتل المدنيين خلال عقد من الحرب على أفغانستان؛ جاء فيه أنه في الفترة من 2009 وحتى 2019 بلغ عدد القتلى من المدنيين 100 ألف قتيل. وللمفارقة، فالخبر نشر بهذا العنوان: "أفغانستان: عدد الضحايا المدنيين يتجاوز 10000 للسنة السادسة على التوالي"، والعنوان تم التلاعب به، إذ أن الدراسة التي تشير إلى 100 ألف قتيل خلال عقد من الزمن، ولكنه رقم كبير أرادت الأمم المتحدة إخفاءه من العنوان ربما بناء على رغبة أمريكية.
والسؤال: لماذا قبلت أمريكا إنفاق كل هذه الأموال، وهي تعلم علم اليقين أن بلدا مثل أفغانستان غير صالح لإقامة الديمقراطية على النمط الغربي؟ السبب أن الهدف المعلن كان غير صحيح وهو هدف مخادع، وأما الهدف الحقيقي فهو إذلال الشعب الأفغاني ومحاولة إبعاده عن دينه وعقيدته، وتقديم أفغانستان كنموذج أو درس عملي لأي دولة تريد أو تسعى أو تمضي قدما في طريق مخالف لما يراه الغرب. وقد تبين لنا جميعا أن ما جرى في أفغانستان قد جرى في المملكة العربية السعودية ولكن بطريقة أخرى أكثر نعومة وأقل كلفة، بل إن كلفة تغيير الهوية السعودية اليوم يدفعها المواطن السعودي من رصيد النفط الاحتياطي للأجيال القادمة.
إن خروج أمريكا المهين وعلى الهواء مباشرة وبطلب حماية ورعاية من دولة قطر الشقيقة؛ لهو درس تاريخي لكل القوة الغاشمة والظالمة التي سعت منذ عقود بل وقرون لتحويل الشرق المسلم إلى مسخ بلا هوية، أن الأمر جد صعب إن لم يكن مستحيلا، وأن الشعوب وإن تم احتلالها أو حكمها بالنار والبارود دائما ما تكون لها الكلمة الأخيرة وهي الكلمة العليا. فالشعب الأفغاني لم يمتلك السلاح الفتاك ولا الطائرات ولا الدبابات، ولكنه امتلك سلاح الرفض وعدم الاستسلام وعدم التخلي عن دينه، رغم ما أنفقته أمريكا والغرب من أجل تحويله عن دينه وعن قيمه وعن عاداته وتقاليده الراسخة، والتي ربما تختلف مع بعض هذه التقاليد، ولكن يبقى الأمر ويجب أن يبقى في يد الشعوب لا في يد المحتل وأعوانه.
الدرس الأهم هو تصريح الرئيس الأمريكي والذي أعتبره بمثابة قنبلة في وجه كل مؤيدي الغرب والتغريب والاحتلال، والذي تبرأ فيه بايدن من فكرة أن أمريكا تنشر الديمقراطية أو تساعد في بناء الدول وتنميتها
الدرس المهم هو أن الحكام الذين تم جلبهم ليحكموا شعب أفغانستان قد فروا هاربين إلى الإمارات، المكان المفضل لكل الطغاة والمستبدين وأعوان الاحتلال في عالمنا المنكوب.
أما الدرس الأهم فهو تصريح الرئيس الأمريكي والذي أعتبره بمثابة قنبلة في وجه كل مؤيدي الغرب والتغريب والاحتلال، والذي تبرأ فيه بايدن من فكرة أن أمريكا تنشر الديمقراطية أو تساعد في بناء الدول وتنميتها، والصواب أنها هي راعية القتل والدمار والإرهاب في العالم.
لقد كشف بايدن في خطابه المباشر يوم 16 آب/ أغسطس 2021 وبجملة قصيرة؛ الهدف من الغزو وهو الهدف الذي لم يتحقق: "المهمة لم تكن في أفغانستان يوما بناء دولة"..
هذه الأحداث الثلاثة هي الأخطر والأهم من وجهة نظري في عام 2021، وهي ذات تأثير على مستقبل العالم سيظهر تباعا بمرور الوقت: محاولة الانقلاب في أمريكا، والحرب على غزة، والانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان.