كتاب عربي 21

ريان الذي انتقل وأحيانَا

شريف أيمن
1300x600
1300x600
عندما تابع العالم العربي بترقب كل لحظات حادثة الطفل المغربي ريان، تنبّهنا فجأة إلى أننا ما زلنا لُحْمَةً واحدة، نفجع لمصاب واحد منا في أقصى المغرب، وإن كان بعضنا في جهة نقيضة له. وكانت وفاته فاجعة حقيقية للملايين، وخرجت كلمة متكررة مفادها أن الطفل ريان "جاء ليذكركم أنكم أمة واحدة، ورحل".

هذه الكلمة دقيقة في توصيفها، لكنها لا تجمع كل المتعاطفين في ضمنها، وهي بحسب اصطلاح المناطقة كلمة "غير جامعة وغير مانعة"؛ فالمتحدث أراد وصف "الأمة المسلمة" التي تتراحم وتتعاطف مع بعضها، وهذا حقيقي، لكننا كنا أمام حالة أوسع من التعاطف تتجاوز الانتماء الديني الذي هو أوسع من الانتماء العرقي أو الثقافي أو القومي؛ فكنا أمام حالة إنسانية شملت من هو خارج حدود ووصف الأمة المسلمة، فتعاطف غير المسلم العربي، وتعاطف من هو خارج حدود الدول الإسلامية، وهذا المعنى هو ما أحيانا به الجميل الراحل ريان، بأننا "جماعة واحدة" كما أننا "أمة واحدة".

تتقاطع العلاقات الإنسانية في مستويات متعددة، كما أن كل علاقة تمتاز بخصوصيات قد لا تكون في غيرها من دوائر العلاقات، وتفصيل ذلك له قِصَّة.
تتقاطع العلاقات الإنسانية في مستويات متعددة، كما أن كل علاقة تمتاز بخصوصيات قد لا تكون في غيرها من دوائر العلاقات، وتفصيل ذلك له قِصَّة

منذ أكثر من عشر سنوات، قام الطبيب والسياسي محمد أبو الغار بإثارة قضية المواطنة والانتماء الديني، فذكر أنه سأل أحد شباب الإسلاميين عمن يكون أقرب إليه، المصري المسيحي أم المسلم الباكستاني؟ وأجاب الشاب الطيب المتحمس لدائرة الانتماء الديني، بأن المسلم الباكستاني أقرب إليه من المسيحي المصري، وفقا لنص الآية الكريمة "إنما المؤمنون إخوة".

وقد أثار مقال السيد أبو الغار ارتباكا طالني في تلك المرحلة العمرية، وقطعا طال آخرين، ذهبت بعدها إلى د. عبد المنعم أبو الفتوح، فرّج الله عنه ما هو فيه، وسألته عن هذا، فوجدته يستحمِقُ السؤال الذي تجاوز طبيعة المنطق في الإدراك، وقال لي ما معناه، أن هذه علاقات متداخلة ولكل منها خصوصيتها، فلا يمكنك أن تصف بأنك تحب أمك وتكره أختك أو تحب أختك وتكره زوجتك، وما إلى ذلك من دوائر العلاقات، فحبك لأمك وقربك منها له شكل يختلف عن حبك لأختك أو زوجتك وقربك من أيِّهما. وقد انطبعت إجابته في عقلي منذ ذلك الزمن، لارتباطها بمنطق طبيعة العلاقات وتعقّدها، لا بمنطق الإثارة وتصيد الأخطاء، كما لا تخفى إشارة السيد أبو الغار إلى المسلم الباكستاني تحديدا، بما تحمله رمزية ذلك البلد من العنف، وليس هذا محل مناقشة ما طرحه السيد أبو الغار، فما حُكِي هو المراد.

هذا الفهم الذي تعلمتُه من الدكتور أبو الفتوح يتناسب مع ما أحدثته أصداء واقعة الراحل ريان، فصحيح أن هناك تعاطفا مغربيا خاصا بالواقعة، وهذه دائرة التعاطف "القومي"، ثم هناك دائرة أوسع وهي دائرة التعاطف "الثقافي" التي تشمل جميع العرب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ثم تأتي دائرة أوسع من الدائرة العربية، وهي دائرة التعاطف "الديني"، فتعاطَفَ هنا من لم يكن مغربيا أو عربيا وكان مسلما، ثم تأتي دائرة "الإنسانية" لتشمل كل البشر بتنوعاتهم الواسعة إلى أبعد مدى.

كل دائرة من هذه الدوائر تتقاطع مع غيرها في جزء ما، ولا تُقصي واحدة منها أختها، بل تتكامل العلاقات مع بعضها في المشترك، وتنفرد كل واحدة بخصائصها، ولا ينبغي أن يلتزم الجميع بدائرة واحدة يجبره عليه غيرها، كما أنه ليس من كمال العقل أن يكتفي شخص بدائرة أو أكثر دون بقيتها. وإشارات القرآن الكريم تشير إلى أهمية العلاقة القائمة على أساس أخوة الدين، كما تشير إلى العلاقة العامة القائمة على أساس البشرية؛ فيتكرر الخطاب القرآني بقول الله "يا أيها الناس"، هكذا عامة لتشمل جميع البشر.
رغم كل ما صنعه المستبدون وأصحاب المصالح، جاء هذا الطفل الرقيق ليكسر ما بُني على سنوات، ونرجو أن يكون هناك عقلاء يقومون بالبناء على أنقاض الظلام والاستبداد، لا أن يُترك المجال أمامهم ليعيدوا بناءهم، فيرحل ريان وترحل معه عملية إحيائه لنا

ويقول العليّ في التنزيل: "ولقد كرمنا بني آدم"، كما أنه يؤثر عن سيدنا علي قوله: "الناس صِنْفان؛ أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق". وسيدنا علي قد أوتي حكمة واسعة من قبس النبوة، ويؤثر عن النبي قوله: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابُها"، وقال عنه الفاروق: "لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن". والفاروق المُحَدَّث يقول هذا عن سيدنا عليّ، فنحن أمام فهم مُستقى من قبس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومَن ذا يقدر على تجاوزه؟

جرت واقعة الحبيب الصغير، لتُذكِّرنا بأن هموم البشر واحدة، وأصحاب المصالح هم المستفيدون من عزل كل طائفة عن أختها، وإحداث التوجّس من المختلِف، وتزداد العُزلة في بلاد الاستبداد، فتُبنى الحصون والقلاع النفسيّة، وتكون لغة الخطاب بالمصطلحات الحربية، ويعلو شعور رفض الآخر على قبوله. ورغم كل ما صنعه المستبدون وأصحاب المصالح، جاء هذا الطفل الرقيق ليكسر ما بُني على سنوات، ونرجو أن يكون هناك عقلاء يقومون بالبناء على أنقاض الظلام والاستبداد، لا أن يُترك المجال أمامهم ليعيدوا بناءهم، فيرحل ريان وترحل معه عملية إحيائه لنا.

رحم الله هذا الطفل الجميل، وجعله في أعلى منزلة، وصَيَّرَهُ شفيعا لوالديه، ورزقهم ورزقنا الصبر على هذا المُصاب.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)