هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
المشهد السياسي بدأ يتجه لخيارات محددة والكفة مالت لصالح القيادة العسكرية
تسليم السلطة للمتظاهرين قد يعني الفوضى أو التنازع على الحكم والحرب الأهلية
الانتخابات هي الاحتمال الأقرب للواقع لأن التوافق السياسي بعيد المنال
الانتخابات ستنهي مرحلة الاتكاء على شرعية ثورية مزعومة حتى لو قاطعها البعض
"الشيوعيون الثوريون" لن يقبلوا بأي انتخابات لأنهم يعرفون نتائجها مسبقا
شعور واسع بأن غياب الإسلاميين أدى لتدهور أعظم في الحياة السياسية والاقتصادية
قال الرئيس السابق لمَجْمع الفقه الإسلامي في السودان، البروفيسور عبد الرحيم علي؛ إن "تسليم السلطة للمتظاهرين يعني الفوضى أو التنازع على الحكم بين المدنيين أنفسهم، بما يفضي إلى حرب أهلية لوجود مسلحين خارج الأجهزة النظامية، وحركات مسلحة كانت في المعارضة، وهي الآن جزء من المشهد".
وأوضح، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "المشهد السياسي بدأ يتجه لخيارات محددة، ومالت الكفة فيه لصالح القيادة العسكرية، وذلك بعد اضطراب وصراع كان لرئيس الوزراء حمدوك فيه يد مطلقة تقريبا، وكان النفوذ الأجنبي قويا بل مطلقا، بدأ الآن اتجاه من القوى الأجنبية للاعتراف بالواقع والتعامل معه".
ورأى "علي" أن "الانتخابات هي الاحتمال الأقرب للواقع؛ لأن التوافق السياسي أمر بعيد المنال، وقيام الانتخابات في ظل مقاطعة بعض القوى السياسية (الثورية) والأيديولوجية هو حل جزئي؛ لأنه لا يقطع التنازع ومظاهر الاحتجاج، ولكنه سيجيب على سؤال الشرعية داخليا وخارجيا، وربما ينهي مرحلة الاتكاء على شرعية ثورية مزعومة".
وفيما يلي نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
كيف ترون تطورات المشهد السوداني اليوم؟
المشهد السياسي السوداني بدأ يتجه لخيارات محددة، ومالت الكفة فيه لصالح القيادة العسكرية، وذلك بعد اضطراب وصراع كان لرئيس الوزراء حمدوك فيه يد مطلقة تقريبا، وكان النفوذ الأجنبي قويا بل مطلقا، بدأ الآن اتجاه من القوى الأجنبية للاعتراف بالواقع والتعامل معه، وتراجعت حركة التظاهرات في الشارع ولم تنقطع تماما.
وما هي جذور الأزمة الراهنة؟
جذور المشكلة في الوثيقة التي وقعت عقب سقوط النظام وكانت معيبة ومتعجلة، ثم أُدخلت عليها تعديلات أثرت على تماسكها، وأصبحت الحكومة سجينة في وثيقة ضعيفة وغير عادلة، أما الجذور الأعمق والأسبق في تكوين المعارضة التي كانت تحالفا من التناقضات السياسية، لم يجمعها إلا مجرد مطلب إسقاط النظام.
ما الذي ستصل إليه المظاهرات المتواصلة منذ إجراءات 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؟
المظاهرات يدفع بها الحزب الشيوعي وحلفاؤه، ومطالبها غير واقعية في هذه المرحلة. والقيادة العسكرية التي أسقطت النظام تشعر بمسؤولية وتعلن استعدادها لتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة، أما تسليم السلطة للمتظاهرين فهو يعني الفوضى أو التنازع على الحكم بين المدنيين أنفسهم بما يفضي إلى حرب أهلية لوجود مسلحين خارج الأجهزة النظامية، وحركات مسلحة كانت في المعارضة وهي الآن جزء من المشهد.
البرهان قال إنه إذا جرت الانتخابات أو حدث توافق وطني، فإنه شخصيا والمؤسسة العسكرية سيتركون الساحة السياسية، وأنهم حريصون على تسليم السلطة لحكومة منتخبة.. كيف ترون ذلك؟ وهل تعتقدون أن الجيش سيترك السلطة بالفعل في مرحلة ما؟
التاريخ المعاصر يشهد منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1964 أن المؤسسة العسكرية سلّمت السلطة لحكومات مدنية بعد انتخابات أو بتوافق، وأظن أن ذلك ما تريده الآن المؤسسة العسكرية؛ ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1964 سلّم الجنرال إبراهيم عبود الحكم لجبهة الهيئات، وهي هيئة من النقابات واتحادات المهنيين، ولم تستمر تلك الحكومة سوى عام واحد، وحينما تبيّن أنها باسم المهنيين (أطباء- نقابات عمال- مهندسين.. إلخ)، تسلل إليها 9 من الشيوعيين من مجموع 11 وزيرا، وفي ظل حكومة أقليّة، وحينها استمرت التظاهرات والاضرابات حتى استقال رئيس الوزراء سرّ الختم الخليفة، وبعد ذلك أجريت انتخابات عامة، وقامت حكومة ديمقراطية مدنية استمرت حتى عام 1969 إلى أن وقع انقلاب النميري.
وفي 1985 قامت انتفاضة شعبية، وساندها الجيش، وقامت حكومة مدنية برئاسة د. الجزولي دفع الله ومجلس أعلى عسكري برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب، الذي التزم بإجراء انتخابات في غضون عام واحد والتزم بذلك.
وهذا هو الممكن الآن، وهو الذي عبّرت قيادات العسكريين عن التزامها بفعله، وهو الأرشد وفقا للواقع الراهن. بينما البديل لذلك يتمثل في استمرار العسكريين في الحكم، أو أن يسلموا الحكم لفئة من المدنيين، ويكون السؤال مَن هم المدنيون الذين يريدهم الشعب، وكل يدعي وصلا بليلى، وليلى لا تقر له بذاك.
وبقاء العسكريين في الحكم دون تفويض أمر غير رشيد، وتسليم السلطة لفئة من المدنيين دون غيرها هو الأبعد عن الرشد والأقرب إلى الفوضى والاضطراب.
كيف ترى دور الجيش في الدولة المدنية المرتقبة؟
دور الجيش يحدده مدى التوافق بين المدنيين، والأحزاب أو القوى السياسية هي التي تستدعي العسكريين للتدخل عند عجزها عن إدارة الخلاف السياسي بينها. ربما لو قامت الانتخابات ستكون في السودان سلطة مدنية كاملة التكوين والتفويض ولو إلى حين، وإذا وفقت القوى السياسية المدنية لقبول ديمقراطية توافقية، فقد تبقى في الحكم المدني مدة توافقها واحترامها نتيجة الانتخاب.
أيهما أقرب برأيك للواقع: إجراء الانتخابات أم حدوث توافق وطني واسع؟
الانتخابات هي الاحتمال الأقرب للواقع؛ لأن التوافق بعيد المنال، وقيام الانتخابات في ظل مقاطعة بعض القوى السياسية (الثورية) والأيديولوجية هو حل جزئي؛ لأنه لا يقطع التنازع ومظاهر الاحتجاج، ولكنه سيجيب على سؤال الشرعية داخليا وخارجيا، وربما ينهي مرحلة الاتكاء على شرعية ثورية مزعومة.
هل اشتراط توافق القوى السياسية يُعدّ محاولة لكسب الوقت لصالح الجيش وتعجيز للقوى السياسية أم لا؟
لا، البدائل المنطقية محدودة وهي: توافق أو انتخابات أو استمرار بعض الأحزاب مجهولة الوزن في الحكم وإقصاء ما سواها.
ومن ثم فلا يوجد خيار أو احتمال آخر إلا حكومة كفاءات غير حزبية إلى حين ظهور الانتخابات، أو توافق القوى السياسية فيما بينها قبل الانتخابات. واستمرار الأقلية التي حكمت مع السيد حمدوك هي وصفة مؤدية إلى ثورات، وربما إلى حرب أهلية.
هل الوثيقة الدستورية الانتقالية كانت سببا رئيسيا في تأزم الأوضاع، خاصة أنها استبعدت بعض القوى السياسية؟
نعم، الوثيقة الدستورية وافقت عليها القيادة العسكرية ووقعتها، مع أنها أقصت قوى سياسية مُعتبرة، وأعطت حق تكوين الحكومة المدنية لمجموعة أيديولوجية محدودة التأييد وقليلة الخبرة، ولم يسعد بها أحد، ثم ظهر لاحقا عوار هذه الوثيقة وجرى تعديلها سرا أكثر من مرة.
الوزير السوداني السابق ورئيس حزب حركة الإصلاح الآن، الدكتور غازي صلاح الدين، توقع، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، حصول التيارات الإسلامية السودانية على 15- 20% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وذلك في حال تنظيم صفوفها جيدا وتحالفها مع تيارات أخرى.. فهل تتفق معه في هذا التوقع؟
ربما كان ذلك في المرحلة الأولى في عنفوان الإعلام "المشيطن" للإسلاميين، ولكن على كل حال أرى من الصعب استشراف النتائج دون استطلاعات واسعة للرأي العام، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التغيرات الهائلة في الديموغرافيا السياسية ومدى مشاركة الشباب -وهم ثقل السكان الآن- في الانتخابات، كما أن ثمة استياء واسعا وفقدان الثقة في الأحزاب عامة.
كيف انعكست الأحداث الأخيرة في السودان على التيارات الإسلامية؟
أعتقد أن ثمة شعورا واسعا بأن غياب الإسلاميين من ساحة الحكم أدى إلى تدهور أعظم في الحياة السياسية والاقتصادية، وفي صورة السودان الخارجية؛ لقد كان السودان لاعبا في الساحة الدولية وله وزن إقليمي ودولي، بينما هو الآن ملعب للدول المجاورة، والقوى الدولية، وليس لأهله صوت يُذكر، وقد باع صوته ليكسب بعض الراحة الاقتصادية، لكنه فقد الاثنين معا: صوته واقتصاده.
ما التنازلات المطلوبة من الأطراف المختلفة لإنهاء الأزمة الراهنة؟
الاتفاق على إجراء انتخابات حرة وقبول نتائجها هو الحد الأدنى المطلوب لمنع الفوضى واستمرار التنازع المفضي لفقدان الأرواح.
لكن هل تتوقعون أن تتخلى قوى الحرية والتغيير عن مطالبها وتقبل بحلول وسطى، وعلى رأسها التفاهم مع العسكر؟
قوى الحرية والتغيير معظمها مستعد للقبول بهذا، ولكن الذين لهم رؤية أيديولوجية (الشيوعيون الثوريون) يرون ضرورة استمرار الثورة، وهدم القديم، وتلاشي الأحزاب، ليعلو صوت القوى الثورية.. إلخ، وهؤلاء لن يقبلوا بأي انتخابات؛ لأنهم يعرفون نتائجها مسبقا.
هناك مَن يرى أن العسكريين يمتلكون 82% من الاقتصاد السوداني ويشاركون في 18% المتبقية.. ما مدى دقة تلك الأرقام برأيكم؟
لا توجد أي دراسات علمية لذلك، وأكثر المتحدثين يتخبطون برأي انطباعي في غياب المعلومات والإحصاءات، وهنالك شكوى متداولة منذ فترة طويلة تصل إلى عشر سنوات تقريبا بين كبار الاقتصاديين، تفيد بأن النقود المُتداولة في الاقتصاد السوداني نصيب المصارف منها لا يتجاوز 15%، أي إن كتلة النقد يتم تداولها خارج المصارف ولا سيطرة للدولة عليها.
هذه الحقيقة إذا قورنت بدعوى أن الجيش يستحوذ على 80% من الاقتصاد، يصعب التوفيق بين القولين، لماذا؟ لأن الاقتصاد السوداني بيد القطاع الخاص وخارج المصارف، وكل أموال مؤسسات الجيش يتم تداولها ورقابتها في المصارف، بل في واحد من عشرات المصارف، ثم يجب النظر إلى حجم الجيش السوداني الضخم، وقد تضخم بسبب الحرب الطويلة في الجنوب قبل انفصاله، ثم في دارفور بسبب الحركات المسلحة، والجميع يعلمون أن مرتب الجنود، وكذلك الضباط، يدلّ على حاجة القوات المسلحة إلى موارد مالية لمواجهة الصرف الحتمي، خاصة أن المؤسسة العسكرية تشكو مر الشكوى من ضعف مرتبات الجنود، وضعف الإقبال على التجنيد، ولو كانت غنية لظهر ذلك على استقطابها للتجنيد.
وحقيقة ما أشرت له في سؤالك يحتاج لدراسة علمية ودقيقة لم تتوفر بعد.
هل كان البرهان محقّا حينما قال إنه "ليس من حق أحد بحث إصلاح الجيش إذا لم تكن لديه حكومة منتخبة"؟
ليس إصلاح الجيش وحده، بل كل الأمور الاستراتيجية والتشريعية ليس مقبولا ولا مشروعا أن تكون خاضعة لأقلية تدّعي تمثيل الثوار.
البرهان قال أيضا؛ إن "جميع الزيارات السودانية إلى إسرائيل قامت بها أجهزة الاستخبارات والأمن، والمعلومات المُتبادلة مكّنتنا من ضبط الكثير من الخلايا الإرهابية داخل السودان، وكان يمكن أن تتسبّب في زعزعة الأمن في السودان والإقليم، لا أعرف لماذا الجميع يركز مع هذه الزيارات فهي مشروعة"، مؤكدا أن تلك الزيارات لم تكن لأسباب سياسية.. كيف استقبلتم هذا التصريح؟
العلاقات مع إسرائيل محاطة بسرية وفيها غموض، والأمر كله مؤسف جدا، وهو جزء من فقدان القيادة الموحدة في غياب شرعية دستورية حقيقية.
إلى أين تتجه الأزمة السودانية؟
ليست الأزمة قاصرة على السودان، بل هو جزء من أزمة المنطقة، وصلاح الحال في السودان متوقف على صلاح الإقليم واسترداد الأمل فيه، وليس ببعيد إن شاء الله أن نرى تغييرات واسعة وجذرية في الأفق؛ لأن العسر يجلب اليسر.