كتاب عربي 21

سيناريو وحيد للحرب في أوكرانيا

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
ثمة رأي مفاده أن الحرب آلية لتسوية النزاع؛ نزاع بين سلطتين لا يمكن حله إلا باستخدام القوة وينتهي بالنصر أو الهزيمة. من خلال هذا الرأي الذي يحدد النصر والهزيمة بموازين القوى، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا لا يحتمل سوى سيناريو وحيد، ويتمثل بنجاح غزو أوكرانيا وتحقيق نصر سهل نسبياً، وعدم مواجهة تمرد حقيقي، وتنصيب حكومة موالية لموسكو في كييف تقوم بإجراء تعديلات دستورية من شأنها أن تمنع أوكرانيا من مزيد من الاندماج مع الهياكل الأوروبية والأطلسية على المدى الطويل.

ولا يعدو الحديث عن وجود سيناريوهات أخرى عن كونه ألعاب رياضية عقلية مبنية على لغة الاحتمالات الأثيرة في الإبستمولوجيا الغربية، فكل السيناريوهات الممكنة لا بد أن تخدم السيناريو الوحيد الواقعي الذي تفرضه روسيا بالقوة، وبمجرد هزيمة أوكرانيا، يكون هذا الهدف قد تحقق من الناحية العملية، وسوف تقوم روسيا بسحب قواتها في مرحلة لاحقة، ومن ثم ستقدم جمهوريتا دونباس الشعبيتان "طلب الانضمام" إلى الاتحاد الروسي.

لقد حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الذي ألقاه فجر 24 شباط/ فبراير الماضي؛ بوضوح سيناريو الحرب ومستقبل أوكرانيا وأهداف الغزو الروسي، ويتمثل "بنزع السلاح وطرد النازيين من أوكرانيا، وتقديم من ارتكبوا جرائم عديدة ودموية ضد المدنيين، بمن فيهم مواطنو روسيا الاتحادية". فالهدف محدد بوضوح في قول بوتين: "نحن لا نخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية، ولا ننوي فرض أي شيء على أحد بالقوة، ولكن فقط نريد "نزع السلاح" من أوكرانيا "لحماية" الأراضي الموالية لروسيا من أي "هجوم عسكري".
كل السيناريوهات الممكنة لا بد أن تخدم السيناريو الوحيد الواقعي الذي تفرضه روسيا بالقوة، وبمجرد هزيمة أوكرانيا، يكون هذا الهدف قد تحقق من الناحية العملية، وسوف تقوم روسيا بسحب قواتها في مرحلة لاحقة، ومن ثم ستقدم جمهوريتا دونباس الشعبيتان "طلب الانضمام" إلى الاتحاد الروسي

ولا أحد يجادل في أن بوتين كان محقاً عندما انتقد حصار روسيا من قبل حلف الناتو، وأن توسع النفوذ الغربي شرق أوروبا يهدد العلاقة التاريخية بين أوكرانيا وروسيا، وهو ما اعتبره بوتين تهديداً وجودياً لروسيا. وإذا حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها الوقوف في طريق بوتين أو إذلاله بالطريقة التي اتبعها الغرب مع روسيا في نهاية الحرب الباردة، فإن الرئيس الروسي مستعد للرد بحزم ودون تردد، فمن يتدخل عليه أن يكون مستعدا لمواجهة "عواقب لم يرها من قبل" حسب بوتين. وليس هذا القول مجرد بلاغة خطابية، فقد أعلن بوتين فعلياً وضع قوته النووية في "حالة تأهب قصوى".

من الواضح أن بوتين يدرك تحولات البيئة الجيوسياسية الدولية، وهو يرى أن الفرصة سانحة لروسيا، في ظل الفوضى المترتبة على تفشي وباء كورونا، والتوسع الإمبراطوري لأمريكا والانقسام الداخلي الذي يعاني منه الغرب. فبعد مرور نحو عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وتحول البيئة الجيوسياسية بظهور الصين كمنافس استراتيجي، شرعت الولايات المتحدة بإعادة النظر في معنى الحروب بلا نهاية ضد الإرهاب.

وكما توضح "استراتيجية الدفاع الوطني" الأمريكي لعام 2018، فإن "التنافس الاستراتيجي بين الدول اليوم هو الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب". وقد كانت الصين وروسيا في صلب الاستراتيجية الأمريكية كأعداء وخصوم، هو ما أفضى بالولايات المتحدة الأمريكية إلى الانسحاب من أفغانستان وما سيفضي لاحقاً إلى الانسجاب من الشرق الأوسط.

إن تبدل الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية هو خبر سعيد للشعوب العربية والإسلامية، التي وضعت تحت الحصار منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين 1989 عموماً، وعقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 خصوصاً، بحيث أصبح العرب والمسلمين العدو المفضل للغرب، وباتت الأراضي العربية والإسلامية ساحة مثالية للحرب والتدمير. وعقب نحو عشرين عاماً من الحرب على الإرهاب، وهي تسمية مضللة للحرب على الإسلام، اكتشف الغرب أن "الحرب على الإرهاب" لا تتوافر على المواصفات الملائمة للعدو، ولا تقوم مقام العدو النموذجي الذي شكله الاتحاد السوفييتي السابق.
الاستجابة الأمريكية والأوروبية للغزو الروسي لأوكرانيا، تكشف عن حالة من الخوف والرعب تذكّر الغرب بالحروب المدمرة في القارة الأوروبية، وتُعيد نظرية "صدام الحضارات" لصموئيل هانتنغتون إلى الحياة مرة أخرى. ويبدو أن بوتين خلص إلى أن قاطرة التحولات الجيوسياسية لن تتوقف، وأن عصر قيادة أمريكا للعالم قد اقترب من نهايته، وأن العالم يتجه نحو عالم مقسم

إن الاستجابة الأمريكية والأوروبية للغزو الروسي لأوكرانيا، تكشف عن حالة من الخوف والرعب تذكّر الغرب بالحروب المدمرة في القارة الأوروبية، وتُعيد نظرية "صدام الحضارات" لصموئيل هانتنغتون إلى الحياة مرة أخرى. ويبدو أن بوتين خلص إلى أن قاطرة التحولات الجيوسياسية لن تتوقف، وأن عصر قيادة أمريكا للعالم قد اقترب من نهايته، وأن العالم يتجه نحو عالم مقسم وإلى ضرب مما أطلق عليه برونو ماسيس، الباحث بمعهد هدسون الأمريكي، "حضارات دول"، وهي قوى عظمى متماسكة ثقافياً ولا تطمح للهيمنة على العالم، بل تطمح لأن تكوّن عالمها الخاص بها على حدة، وتحت مظلتها النووية الخاصة. إذ يبدو غزو أوكرانيا حسب المحلل السياسي روس دوثات ضرباً من التمسك المسعور بالحضارة، ومحاولة لتشكيل ما يطلق عليه الكاتب القومي الروسي أناتولي كارلين "العالم الروسي" باستخدام القوة، أي خلق "حضارة تكنولوجية قائمة بذاتها، مكتملة بنظامها البيئي الخاص وبتكنولوجيا المعلومات الخاصة بها، ومشروعها الفضائي، ورؤيتها التكنولوجية. وهي حضارة تمتد من بريست في بيلاروسيا إلى فلاديفوستوك أقصى شرق روسيا".

في هذا السياق فإن الرؤية الغربية للعالم بقيادة واشنطن لن تتغير، فمنذ القرن التاسع عشر على الأقل، اتجهت السياسات الإمبريالية الأورو- أمريكية إلى رؤية البشرية كمنطقتين حسب طلال أسد: "المنطقة الأولى تظلل مساحة "السلام"، والثانية تظلل مساحة "الحرب"، بصرف النظر عن حربين عالميتين مدمرتين، وإبادة حماعية وخضوع استعماري، إلا أنه ما زال هنالك تصور لتقسيم قديم بين منطقة غربية تخضع للقانون، ومنطقة أخرى بلا قانون في بقية العالم".

فالحديث عن "الأمن" و"السلامة الإقليمية" و"القانون الدولي"، مجرد بلاغة وكلمات جوفاء، ولا فرق بين الغزو الروسي لأوكرانيا وخطاب بوتين، وبين الغزو الأمريكي للعراق 2003، وخطاب بوش آنذاك، وهما لا يختلفان عن خطاب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 24 فبراير / شباط 2022، الذي رد فيه على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عمليات عسكرية خاصة في أوكرانيا، حيث ردد ذات الرطانات البلاغية بقوله: "هذه لحظة خطيرة بالنسبة لأوروبا كلها، وبالنسبة للحرية في جميع أنحاء العالم. لقد شنّ بوتين اعتداءً على المبادئ ذاتها التي تدعم السلام العالمي". ولا جدال في أن مصطلج "السلام العالمي" يكافئ سلام الغرب وحده دون سواه.
الحروب هي الصانع الأكبر للتاريخ الوطني للدول حسب بيار كونيسا، كونها تشكل أحياناً قطيعة كبرى مع ما قبلها. وبصفتها هذه، هي حدث يدعو إلى الفخر، وتشتغل عاملاً يوحّد الجميع ضد الخطر الخارجي. وبذلك تكون الحرب بين الدول ترخيصاً ممنوحاً شرعاً لقتل أناسٍ لا نعرفهم حق المعرفة، بوصفنا أصحاب حق ووصفهم أصحاب باطل

إن ما يحدث في أوكرانيا يُعيد النقاش إلى مفهوم الدولة وارتكازها على العنف والتوسع الجيوسياسي، ويشير إلى بنية الدولة القومية العنيفة، بعيداً عن هرطقات حرب "الإرهاب" التي استهدفت المسلمين، ولا يمكن أن تسمى حرباً أصلاً، ذلك أن العنف والسعي لاحتكاره هو ما يفسر ظهور الدولة الحديثة في أوروبا، وليس المبادئ الفلسفية المثالية أو التعاقد الحر حسب تشارلز تيلي. فالحروب هي الصانع الأكبر للتاريخ الوطني للدول حسب بيار كونيسا، كونها تشكل أحياناً قطيعة كبرى مع ما قبلها. وبصفتها هذه، هي حدث يدعو إلى الفخر، وتشتغل عاملاً يوحّد الجميع ضد الخطر الخارجي. وبذلك تكون الحرب بين الدول ترخيصاً ممنوحاً شرعاً لقتل أناسٍ لا نعرفهم حق المعرفة، بوصفنا أصحاب حق ووصفهم أصحاب باطل. فالحرب تحتاج هذه الثنائية الحادّة في التناقض الذي يفتح باب القتل المتبادل، ولأن العدو يشكل الصمغ الذي يوحّد المجتمع في الداخل حسب كارل شميت.

يكشف مسار الحضارة الغربية عن تلازم الرأسمالية والحرب في إطار رأسمالية اقتصاد الكوارث وعقيدة الصدمة، كما شرحتها نعومي كلاين. وقد توصلت مجموعة "حداثة/ استعمار" إلى أن النظرة الديكارتية، أي المتمثلة في الكوجيتو "أنا افكر إذاً أنا موجود"، تقوم على قرنين من "أنا أحتل إذا أنا موجود"، حيث يقوم ديكارت بإخفاء الفرد المتحدث وذلك بنزع زمانيته ومكانيته، فيصبح فرداً مجرداً ليأخذ مكان الله في النظام السيكولائي القروسطي.

لكن الفرد المجرد هو كذبة لإخفاء الفرد الأوروبي المعين، خالق الحضارة والتحضر. فالكوجيتو الديكارتي من وجهة نظر عالم الاجتماع رامون غروسفوغيل، يقوم على أربع موجات من التطهير، أو ما يسميها "المجازر الإبستمولوجية": أولها ضد النساء في القارة الأوروبية نفسها، أو ما عرف بحرق المشعوذات والساحرات اللواتي كنّ يتناقلن معارف شفهية قديمة في الطب والعلوم والفلك؛ وثاني المجازر الإبستمولوجية هي ما ارتكبه الإسبان بحق المسلمين واليهود في الأندلس، وما عُرف عن محاكم التفتيش من حرق وتهجير وتنكيل بالأفراد ومعارفهم، كتدمير وحرق مكتبة قرطبة التي كانت أكبر مكتبة على الإطلاق في أوروبا آنذاك؛ وثالث المجازر الإبستمولوجية هي ما تم ارتكابه إبان "اكتشاف العالم الجديد"، حيث أزيلت عن الوجود تجمعات وثقافات إنسانية كاملة في القارة الأمريكية؛ ورابعها هو الاستعباد في القارة الأفريقية، حيث تم خطف وقتل وتهجير ملايين الزنوج والاتجار بهم وكأنهم ليسوا بشراً، وما نتج عن ذلك من تدمير تواريخهم ومعارفهم وأديانهم ولغاتهم تدميراً كاملاً.

يراهن الغرب على جملة من الرهانات الفاشلة لدفع روسيا إلى الانسحاب من أوكرانيا، ومنها فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا، قد تفضي إلى تذمر شعبي روسي يدفع إلى إسقاط بوتين، وودعم المقاومة الأوكرانية لإقناع روسيا بأن السيطرة على البلاد ستكون مكلفة للغاية على المدى القريب والمتوسط، وأن التوصل إلى اتفاق سلام مع حكومة غير شرعية وغير شعبية فرضتها روسيا لن يحقق أهداف موسكو، وهو ما يمهد لعقد صفقة مع الغرب بانسحاب روسيا من أوكرانيا مقابل تعهد رسمي صريح من كييف بعدم الانضمام إلى الناتو، ورفع جميع العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب مؤخراً على روسيا. لكن الحقيقة أن أوكرانيا أمام سيناريو وحيد، وهو الخضوع لمطالب روسيا ومحاولة تحسين بعض الشروط.
السيناريو الغربي انتهازي بالكامل، حيث سيظل حلف الناتو محاصراً لغرب روسيا تقريباً، وقد يضم المزيد من الدول إلى الحلف، كما سيزيد من الإنفاق العسكري الأوروبي، وسنشهد الدفع بمزيد من القوات والآليات العسكرية نحو أوروبا الشرقية، فضلاً عن الضغط من أجل استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وهو ما سيجعل الإمبراطورية الروسية التي يُعيد بوتين تشكيلها أكثر فقراً وأشد عزلة عن الاقتصاد العالمي

لا يزال الغرب بقيادة واشنطن يحاول الحفاظ على صورة العالم كما يراهاهو نفسه، ويخشى من انفراط عقد تحالفاته التاريخية، ولذلك لا يرغب بأن يظهر ضعيفاً، ولذلك أشادت الحكومات الغربية بتمسك بايدن "بالباب المفتوح" لحلف شمال الأطلسي أمام الطامحين في عضويته، رغم بعض الانتقادات التي طالبت بايدن بأن يكون أكثر وضوحاً بشأن ضعف احتمالات انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، نظراً لأن أحد مطالب بوتين الرئيسية كان امتناع الحلف عن المزيد من التوسع نحو الشرق، لكن رد بايدن كان مهجوساً بتداعيات العلاقات الأمريكية الصينية، فهناك قلق من أنه إذا بدا بايدن متساهلا للغاية مع موسكو، فقد تعتبره الصين إذعاناً تتحرك بموجبه ضد تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي، والتي تعتبرها بكين إقليما منشقاً عنها.

خلاصة القول أن أوكرانيا سوف ترضخ لغزو روسيا، وتقبل بشروطها، وكلما قصر أمد الحرب أمكن تحسين بعض الشروط غير الجوهرية. وهذا هو السيناريو الوحيد المحتمل، بعيداً عن سيناريوهات الأمل الغربي الخيالية التي تستند إلى تراث إمبريالي يحافظ على مركزية أوروبية أمريكية عفى عليها الزمن، ويحاول التضحية بالأوكران من خلال دعم ما تطلق عليه المقاومة الأوكرانية بالمال والسلاح، دون أن تنخرط بنفسها في المعارك.

ويبدو أن السيناريو الغربي انتهازي بالكامل، حيث سيظل حلف الناتو محاصراً لغرب روسيا تقريباً، وقد يضم المزيد من الدول إلى الحلف، كما سيزيد من الإنفاق العسكري الأوروبي، وسنشهد الدفع بمزيد من القوات والآليات العسكرية نحو أوروبا الشرقية، فضلاً عن الضغط من أجل استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وهو ما سيجعل الإمبراطورية الروسية التي يُعيد بوتين تشكيلها أكثر فقراً وأشد عزلة عن الاقتصاد العالمي، لكن ذلك لن بغير من الواقع الجديد الذي بدأ بالتشكل في عصر الهويات والتنافس الجيوسياسي.

twitter.com/hasanabuhanya
التعليقات (1)
أَهْلَ الطُّمُوحِ
الأحد، 06-03-2022 08:01 م
صحيح الحرب على الإرهاب هي تسمية مضللة للحرب على الإسلام ،يجب محاكمة حكام الغرب أمام العدالة الدولية يجب المطالبة بتعويضات و إذا كان هذا من المستحيلات، يجب علينا إسقاط الحضارة الغربية من أي معادلة في المستقبل.