شعر قادة
روسيا في السنوات القليلة الماضية بتهديد متزايد وقلق مشروع من التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي (
الناتو) شرقاً، من جراء التطويق العسكري العدائي المتزايد حول حدودهم. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أخذ التوسع العسكري للقوى الرأسمالية الغربية يتقدم نحو روسيا بلا هوادة. وقام الغرب بتجنيد معظم دول أوروبا الشرقية الاشتراكية سابقاً في الاتحاد الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي (ألبانيا وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك والمجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا والجبل الأسود وسلوفينيا). وحتى الجمهوريات السوفييتية السابقة نفسها، لا سيما دول البلطيق الثلاث: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، التي كانت شوكة في خاصرة السوفييت والآن في جانب روسيا، تم تجنيدها أيضاً في حلف الناتو. وفي العقد الماضي جاء دور أوكرانيا ليتم تجنيدها أيضاً في التحالف المناهض لروسيا.
ولكي نفهم مخاوف روسيا الحالية وقلقها من العدوان العسكري الغربي، من الأهمية بمكان أن نتذكر المعاناة التي تحملتها روسيا نتيجة الغزوات الغربية العديدة لأراضيها منذ عام 1917.
في أعقاب الثورة الروسية، لم يكن أول قرار اتخذه البلاشفة هو الانسحاب من "
الحرب الإمبريالية الأولى" (التي أطلق عليها الغرب اسم "الحرب العالمية الأولى") فحسب، بل أيضاً منح الاستقلال للمناطق التي كانت جزءاً من روسيا القيصرية قبل الثورة: فنلندا وبولندا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، وجمهورية الشرق الأقصى والجمهوريات الشعبية في خوارزم وبخارى (ستنضم جمهوريات القوقاز وآسيا إلى الاتحاد السوفييتي فيما بعد).
ولكي نفهم مخاوف روسيا الحالية وقلقها من العدوان العسكري الغربي، من الأهمية بمكان أن نتذكر المعاناة التي تحملتها روسيا نتيجة الغزوات الغربية العديدة لأراضيها منذ عام 1917
قبل الشيوعيون الروس الشروط الإقليمية والمالية الصارمة التي فرضتها عليهم الإمبراطورية الألمانية وحلفاؤها من القوى المركزية، وتنازلوا عن الأراضي الروسية السابقة للإمبراطوريات الثلاث، بما في ذلك للعثمانيين. وقد تنازل البلاشفة في الواقع في معاهدة بريست- ليتوفسك، الموقعة في آذار/ مارس 1918، عن فنلندا ودول البلطيق وأوكرانيا، التي أصبحت على الفور دولاً عميلة لألمانيا، بالإضافة إلى أجزاء من بولندا وروسيا البيضاء وثلاث محافظات أرمنية كانت في السابق تابعة للعثمانيين، وهي مناطق في القوقاز غزاها الروس عام 1878، والتي تم التنازل عنها لتركيا. إجمالاً، تخلى السوفييت عن مليون ميل مربع من أراضي روسيا القيصرية و50 مليون شخص من سكان روسيا السابقين، وخسروا معظم الفحم والنفط والحديد الخام الروسي، ونصف الصناعات الروسية، وثلث خطوط السكك الحديدية والأراضي الزراعية التي كانت جزءا من روسيا.
في حالة بولندا، أيّد البلاشفة الاستقلال البولندي، وتنازلوا عن الأراضي الروسية القيصرية لبولندا، وأصدروا عدة بيانات سلام وأعلنوا عن هدفهم بإقامة علاقات جيدة مع جارهم الجديد. لكن الجنرال بيلسودسكي القومي البولندي والمناهض للشيوعية كان يسعى لضم المزيد من الأراضي، بما في ذلك أراضي ليتوانيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا، وسعى لاستغلال الحرب الأهلية الروسية التي اندلعت بعد الثورة وما رافقها من الاجتياحات الأجنبية، التي ابتليت بها الدولة السوفيتية الوليدة، للاستيلاء على هذه الأراضي.
في نيسان/ أبريل 1920، غزا بيلسودسكي أوكرانيا، وبحلول أيار/ مايو احتلت قواته كييف. كانت فرنسا القوة الغربية الوحيدة في ذلك الوقت التي دعمت العدوان البولندي، لكن بحلول حزيران/ يونيو 1920، قام الجيش الأحمر بطرد القوات البولندية من كييف وقام بشن هجوم مضاد. أثار التقدم السوفييتي قلق القوى الاستعمارية الغربية، فتحرك البريطانيون على الفور في تموز/ يوليو للدعوة إلى مفاوضات الهدنة على أساس ما يسمى "خط كرزون"، والذي تم ترسيمه في مؤتمر باريس للسلام في خريف عام 1919 بناءً على اعتبارات إثنية. استند البريطانيون أيضاً إلى ميثاق عصبة الأمم الذي كانوا ملزمين بموجبه بالدفاع عن استقلال بولندا. رغم ذلك، عبر الجيش الأحمر خط كرزون وكان يستعد لغزو وارسو.
هرعت القوى الغربية بتقديم المساعدات والذخيرة والبعثات العسكرية للقوات البولندية للدفاع عن وارسو. وبحلول آب/ أغسطس، كان الجيش الأحمر قد تقدم دون معارضة. كان من المقرر أن يجتمع المفاوضون السوفييت والبولنديون في 11 آب/ أغسطس في مينسك. في لندن، في مساء يوم 10 آب/ أغسطس، أبلغ عضو المكتب السياسي السوفييتي ليف كامينيف؛ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج الشروط السوفييتية لإنهاء العمليات العسكرية، والتي تضمنت شروطاً أفضل لحدود بولندا وشروطاً لوجستية أخرى. لم يطالب السوفييت بتعويضات من المعتدين البولنديين، رغم ذلك قام البولنديون بالمراوغة وسرعان ما تتالت الأحداث.
وفي 16 آب/ أغسطس، شن البولنديون هجوماً مضاداً ناجحاً بمساعدة الحكومة الفرنسية؛ أجبر الجيش الأحمر على التراجع بنفس السرعة التي كان قد تقدم بها. وقد تم التوصل إلى اتفاق هدنة في تشرين الأول/ أكتوبر، وتم توقيع اتفاقية سلام مذلة في آذار/ مارس 1921 في مدينة ريغا، تنازل بموجبها السوفييت عن جزء كبير من روسيا البيضاء وغرب أوكرانيا، بما في ذلك عن إسفين فَصَلَ روسيا السوفيتية عن ليتوانيا.
كانت قصة عدوان بولندا على روسيا السوفييتية أوضح دليل على أن الدول الرأسمالية الغربية كانت حازمة في تصميمها على تطويق الدولة السوفييتية الفتية من خلال تحويل جميع الأراضي التي تنازل عنها السوفييت بعد وصولهم إلى السلطة؛ إلى منصات عسكرية لاستخدامها في تهديد الاتحاد السوفييتي عسكرياً.
ولكن في حين هزم الجيش الأحمر جيوش القيصر البيضاء المدعومة من بريطانيا وثبّت استقرار البلاد في عشرينيات القرن الماضي، خلق صعود النازية في الثلاثينيات تهديداً جديداً للأمن السوفييتي. فعلى سبيل المثال، أصبحت فنلندا، التي أصبحت دولة تابعة لألمانيا بعد منحها الاستقلال من قبل السوفييت، دولة تابعة لبريطانيا وفرنسا في وقت لاحق، وأصبحت دولة تابعة لألمانيا النازية في عام 1941 واستخدمها النازيون في غزو الاتحاد السوفييتي. أما بالنسبة لدول البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) والتي منحت الاستقلال في عام 1920 من قبل لينين، فقد أصبحت جميعها نقاطاً عسكرية أمامية للغرب وجزءا من "الطوق الصحي" الذي صممه جورج كليمنصو وديفيد لويد جورج ضد الشيوعيين. ستتحالف الدول الأربع مع هتلر أثناء استعداده لغزو الاتحاد السوفييتي في عام 1941.
أما بالنسبة لبولندا، ففي كانون الأول/ يناير 1934، وقع الجنرال بيلسودسكي معاهدة عدم اعتداء لمدة عشر سنوات مع ألمانيا النازية. وأعلن وزير خارجيته جوزيف بيك، في أيلول/ سبتمبر في اجتماع لعصبة الأمم في جنيف، أن بولندا قد ألغت من جانب واحد معاهدة حماية الأقليات التي وقعها البولنديون في عام 1919.
حرض الانفصاليون الأوكرانيون على الانفصال عن بولندا، وهاجموا واغتالوا السياسيين البولنديين. وبحلول أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، كان الجيش البولندي يقوم بتدمير قرى أوكرانية بأكملها بتهمة إيواء الانفصاليين المتمردين، وقام باعتقال العشرات في معسكرات الاعتقال. كما تم إغلاق المدارس الأوكرانية، وتبع ذلك فرض اللغة والثقافة البولندية في المدارس ككل. واتبع البولنديون أيضاً سياسة مشابهة عندما توقفوا عن الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية للأقلية البيلاروسية القوية البالغ عددها حينها مليوني شخص، ما أدى إلى التمييز لصالح الكاثوليك البيلاروسيين على حساب الأرثوذكس. وعندما توفي بيلسودسكي في عام 1935، حل محله نظام يميني أكثر تطرفاً ومعاد للسامية؛ تحالف مع النازيين وبدأ أيضاً في استهداف اليهود البولنديين.
في نيسان/ أبريل 1939، ألغى هتلر معاهدة عدم الاعتداء لعام 1934 مع بولندا وقام بغزوها في 1 أيلول/ سبتمبر 1939. رد ستالين على الغزو النازي بغزو بولندا من الشرق في 17 أيلول/ سبتمبر، وفي تشرين الأول/ أكتوبر قام السوفييت بضم الأراضي البولندية التي كانوا قد تنازلوا عنها لبولندا في عام 1921، حيث أضيفت مناطق غرب أوكرانيا التي تم الاستيلاء عليها من بولندا إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتية. وشأنها شأن كل القوميات السوفييتية، كان للأوكرانيين دائماً كل الحقوق اللغوية والثقافية، بخلاف ما حل بهم تحت الحكم البولندي.
قام ستالين أيضاً بتحييد دول البلطيق الموالية للنازية (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) التي كانت جزءاً من روسيا قبل الثورة، وأعاد دمجها في الاتحاد السوفييتي كجمهوريات سوفييتية مستقلة. أما خلال الغزو النازي للاتحاد السوفييتي، فلم يتعاون القوميون الأوكرانيون (من الجزء الغربي الذي تم ضمه للتو من بولندا) مع الغزاة النازيين فحسب، بل ساعدوا النازيين أيضاً في ارتكاب واحدة من أفظع مذابح الحرب العالمية الثانية، في أيلول/ سبتمبر 1941 في كييف، تحديداً في منطقة بابي يار، حيث قتلوا أكثر من مائة ألف من اليهود الأوكرانيين والشيوعيين والغجر وأسرى الحرب من الجنود السوفييت.
في العقد الماضي، جاء الدور على أوكرانيا للدخول في فلك حلف الناتو لتطويق روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي بالكامل، والتي كانت قيادتها، بما في ذلك بوتين نفسه، قد عرضت أن تصبح جزءاً من الحلف، بدلاً من كونها هدفاً محتملاً لعدوان حلف الناتو، لكن طلبها قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحدة
لم يغير الغرب أساليبه العدوانية بعد الحرب العالمية الثانية. فقد رفضت الولايات المتحدة طلب ستالين بأن تكون ألمانيا محايدة كما تم الاتفاق عليه في حالة النمسا، وهو الرفض الذي أدى إلى تقسيم ألمانيا إلى دولتين منفصلتين. وكانت الخطط الغربية لتطويق السوفييت من الجنوب أكثر نجاحاً أيضاً، لا سيما عبر استخدام تركيا وإيران وباكستان، وبدرجة أقل أفغانستان، التي قدم قادتها خدماتهم لأسيادهم الغربيين. كان من الصعب استقطاب الهند المحايدة آنذاك، وسرعان ما نشب الخلاف بين الصينيين والسوفييت ليزيد من الخطر الأمني على الأخيرين.
في العقد الماضي، جاء الدور على أوكرانيا للدخول في فلك حلف الناتو لتطويق روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي بالكامل، والتي كانت قيادتها، بما في ذلك
بوتين نفسه، قد عرضت أن تصبح جزءاً من الحلف، بدلاً من كونها هدفاً محتملاً لعدوان حلف الناتو، لكن طلبها قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحدة. بالفعل في عام 2003، شاركت أوكرانيا في الغزو غير الشرعي للعراق بقيادة الولايات المتحدة وأرسلت 5000 جندي (ثالث أكبر فرقة من الائتلاف الأمريكي الذي غزا العراق) لتدمير ذلك البلد واحتلاله لغاية عام 2008، حين انسحبت القوات الأوكرانية (يبدو أن أعداء روسيا من العرب والمسلمين الذين يناصرون أوكرانيا في الوقت الحالي متسامحون مع الغزو الغربي والأوكراني غير الشرعي للعراق لكنهم غير متسامحين مع التدخل الروسي في سوريا!). لكن لم يرق رفض رئيس أوكرانيا المنتخب في عام 2014 الانضمام إلى حلف الناتو للغرب، وتم ترتيب تغيير سريع للنظام في البلاد عبر انقلاب يميني.
قام الغرب في عام 2014 بإحياء ورثة القوميين الأوكرانيين المعادين للسامية الذين ساعدوا النازيين في الأربعينيات من القرن الماضي أثناء الغزو النازي للاتحاد السوفييتي، لمناصرة الأمة الأوكرانية اليوم ضد روسيا بقيادة حزب سفوبودا اليميني المتطرف المعادي للسامية والمعجب بالنازية والمدعوم من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى جماعة "القطاع الأيمن" الأكثر يمينية ونازية، الذين قاموا بأعمال شغب واستولوا على المباني الحكومية في بروفة مبكرة لما قام به أنصار ترامب عندما استولوا على مبنى الكونغرس بعدها بـسبع سنوات، ما عدا أنه في الحالة الأوكرانية نجحت العصابات القومية اليمينية، ومعظم المنضمين فيها يتحدرون من غرب أوكرانيا، في الإطاحة بالحكومة المنتخبة وإن كانت فاسدة. ومنذ ذلك الحين، دأبت الولايات المتحدة، وتحديداً وكالة المخابرات المركزية، على تدريب المليشيات الأوكرانية للحفاظ على المصالح الغربية ضد روسيا.
يبدو أن بوتين، للأسف، قد خلص إلى أن التدخل العسكري الروسي لـ"تطهير" أوكرانيا "من النازية" وإرغام حلف الناتو على الانسحاب كان خياره الوحيد المتبقي. وكما هو الحال في جميع الحروب، سيكون معظم الضحايا من المدنيين العالقين بين البينين
يجدر التذكير هنا بأن القدر الأكبر من الأراضي التي تم تضمينها في أوكرانيا بعد الثورة الروسية كان القياصرة الروس هم من استولى عليها، سواء الجزء الجنوبي الذي تم الاستيلاء عليه من أراضي العثمانيين، أو الجزء الغربي الذي كان تابعاً لبولندا قبل استيلاء القياصرة عليه، أو الجزء الجنوبي الشرقي، أو منطقة الدونباس، التي تضم أعداداً كبيرة من السكان الروس. لذلك ليست القيادة الروسية من المعجبين بخزعبلات القومية الأوكرانية الأسطورية الحالية، لا سيما وأن ما يقرب من ربع سكان أوكرانيا ليسوا من أصل أوكراني قومي.
لقد قام أربعة عشر جيشا غربيا باجتياح روسيا السوفييتية بعد ثورة 1917 ودمروا اقتصادها بهدف القضاء عليها. وقد حاول الغزو النازي عام 1941 مرة أخرى تدمير الثورة لكنه هُزم في نهاية الحرب، لكن بعد أن قام بقتل 25 مليون سوفييتي. نتيجة هذا التاريخ المأساوي، يبدو أن فلاديمير بوتين، على الرغم من تهجمه في خطابه القوموي قبل أيام على تاريخ حق تقرير المصير الذي دافع عنه الاتحاد السوفييتي منذ نشأته، لن يتراجع ويترك الغرب يهدد بلاده مرة أخرى. ومن الواضح أن محاولاته على مدار السنين لتغيير السياسة العدوانية الغربية الجارية تجاه روسيا قد فشلت. ففي ضوء هذا التعنت والعدوانية الغربية، يبدو أن بوتين، للأسف، قد خلص إلى أن التدخل العسكري الروسي لـ"تطهير" أوكرانيا "من النازية" وإرغام حلف الناتو على الانسحاب كان خياره الوحيد المتبقي. وكما هو الحال في جميع الحروب، سيكون معظم الضحايا من المدنيين العالقين بين البينين.