هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتطلب مناقشة التيارات السلفية، فهم الأرضية المعرفية التي تنطلق منها، أو بالأحرى البناء المعرفي، الذي تستقي منه مفاهيمها، وتشحذ منه أسلحتها وأدواتها الإجرائية، ثم يتطلب ثانيا الاشتباك مع هذه المفاهيم، وبيان محدوديتها، أو نقد إطلاقيتها، حتى لا تصير شراكا منصوبا، للمناظر، يفقده القدرة على الحجاج، لو أنه سلم بها أو سلم بالفهم اللفظي لها.
في ثوابت البناء المعرفي السلفي
في هذا السياق يمكن أن نرصد ضمن هذا النظام المعرفي، هيمنة مفهومين مركزيين سنحاول في هذه المساهمة معها:
ـ اكتمال الشريعة: ينطلق هذا التيار من هذا المفهوم المعرفي ويوجه دلالته بنحو مختلف، ويؤسس على هذه الدلالة الجديدة ليجعل كل مخالف لمنهجه ولمنتوجه الاجتهادي ضالا مبدعا مستدركا على الله تعالى. فالشريعة غطت كل مجالات الحياة، ودور الفقيه أن يستنبط الحكم الشرعي، والحكم الفقهي هو مراد الله وقصده، لأن الحق واحد لا يتجزأ، فالحكم الشرعي هو ما يطابق مراد الشرع، وهو الحق، وغيره ما يخالف مقصد الشرع ومراده وهو الباطل..
ـ مفهوم الاتباع: وعناه أن الحقيقة تكمن في اتباع النص، وأن النص مستوعب لكل الأقضية والنوازل، وليس صحيحا أن النص متناه، وأن الحوادث لا متناهية، فالنص يقدم أفضل الإجابات، بل الإجابة الوحيدة الصائبة، وما على المجتهد إلا أن يبحث عن هذا النص، ويفجر دلالته اللغوية، أو يجمع النصوص بعضها إلى بعض، فيرتبها بحسب الاستدلال المنطقي إلى مقدمات صغرى ووسطى ليتحصل الدلي على نسق ما ذره ابن زم. ويدخل ضمن منظور الاتباع، التزام حجج العقول، والعقل هنا لا يعني الرأي والقياس والاستصلاح والاستحسان، فهذه أصول قد فارقت النص-حسب مؤسس التيار الفظي (ابن حزم) -وحاذت عن مقتضى "الاتباع". فالعقل عنده هو قدرة منهجية على استحضار النص المؤطر للحادثة والاستدلال به، أو هو ترتيب للنصوص بحسب الاستدلال المنطقي وقدرة على استنباط الحكم الشرعي، وأن عجز المجتهد عن استثمار النص وبالتالي توسعه في القياس والاستحسان وغيرها من أدلة الأصول هو استدراك على الله، ونفي لمقتضى اكتمال الشريعة وخاتميتها.
مناقشة مفهوم اكتمال الشريعة والرشد الإنساني
كيف نفهم اكتمال الشريعة؟ وكيف نفهم حدود تدخل العقل الاجتهادي؟ وهل كمال الشريعة معناه أن النصوص مستوعبة لكل تفاصيل الحياة؟ وبأي معنى يؤطر النص مجمل المناشط في هذه الحياة؟ وإذا كانت الشريعة قد أجابت وتجيب عن كل المعضلات، فما هو دور العقل والاجتهاد الإنساني؟ أسئلة طرحت أكثر من مرة، وخاض فيها العقل الأصولي، وكان له فيها آراء ومذاهب.
تيار الظاهر موقن بأن الوقائع كلها لا تعدم وجود نص تفصيلي يجيب عنها، ويحدد حكمها وأسلوب تدبيرها. وتيار المعنى والمقصد ينظر إلى الشريعة في مجموعها ككليات وقواعد عامة يستثمرها المجتهد، ويحقق مناط النازلة، ويهتدي إلى المعالجة والتدبير.
مكان العقل في المذهبين حاضر، غير أن هذا الحضور يختلف ويتباين، فتيار اللفظ ينصرف همه إلى البحث عن النص، فهو لا يغادر ظاهر اللفظ، ومجمل نظره محصور في الدلالات اللغوية، وفي بعض الأحيان في ترتيب الأدلة على النسق المنطقي لتحصيل الحكم. وتيار المقصد يولي اهتمامه بالواقعة والمقاصد العامة، ويسكنه بنيتها والعوامل المتحكمة فيها، ويلتمس من القواعد والمقاصد العامة ما يصلح لمعالجتها. فالعقل عند هذا التيار يتوزع ما بين النظر في الواقع من أجل فهمه وإدراك سننه وتفاصيله، وبين الاختيار الرشيد للمقاصد الشرعية الكفيلة بالمعالجة.
الفرق بين المسلكين، أن العقل حين يحصر نفسه في الدلالات اللغوية يكون همه الأول هو إخضاع الواقع للنص، وهو إخضاع قد يتوفق فيه المجتهد، فتقع المناسبة بين النص والواقع، وقد لا يتوفق فيضطر لإعمال التكلف، وأحيانا يضطر للتنطع لحل المشكلة.
مثال ذلك واضح من خلال جزئية فقهية أنتجها الواقع. فلو أن امرأة طلبت الطلاق من زوجها لضرر، ورفض زوجها أن يطلقها، فقه الظاهر هنا يمنع أن يكون التطليق بيد القاضي، بحجة أن الطلاق يكون بيد الزوج، إذ أن جميع نصوص الشرع حسب منظوره تسند الطلاق للأزواج، فلا يحق للقاضي ولا لغيره أن يوقع الطلاق بهذا الاعتبار إلا أن يوقعه الزوج. فقه الظاهر هنا لا يقدم حلا للمشكلة لو امتنع الزوج عن التطليق، وأصر على موقفه، إلا أن يتكلف المجتهد، وينزع إلى تخريجة فقهية متنطعة، يعطي فيها الصلاحية للقاضي لا أن يوقع الطلاق، ولكن ليسجن الزوج ويعزره حتى يطلق!!
تمسك بظاهر اللفظ يقود إلى استعمال العنف، ويقود أيضا إلى الإكراه، هذا دون أن يكون لنا ضمانة أن الرجل بعد ذلك سيتنازل عن عناده، ويوقع الطلاق تحت وقع السياط!!
تيار المعنى تهمه النازلة بشكل أكبر، يحقق مناطها، فينظر إلى الضرر، ويستثمر قواعد الشريعة وأصولها، فيعلم أن من مقاصد هذه الشريعة رفع الضرر، فيمضي الطلاق بأي طريق كانت، سواء أوقعه الزوج أو القاضي أو بالتراضي والاتفاق أو الخلع.
تيار المعنى والمقصد معني بدرجة كبيرة برفع الضرر، وحل مشكلة واقعية يتأذى منها الإنسان، أما تيار الظاهر فمعني بأن لا يتجاوز سقف النص، حتى ولو كان مستمسكه ظني الدلالة (مثل آيات آيات إسناد الطلاق إلى الأزواج).
اكتمال الشريعة عند التيار اللفظي معناه أن الاجتهاد الفقهي والفكري ينبغي أن يبحر في حقل الدلالات اللغوية، وألا يفارق ظاهر النص، ففيه الغنية والكفاية، إذ نستطيع به أن نحل كل الإشكالات والمعضلات ما دام النص يؤطر كل واقعة، أو ليس القرآن هو الذي يقول: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" وقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"؟
تيار المقصد لا يماحك في دلالات مثل هذه الآيات، غير أنه يقرأها بنحو مختلف. فالآيات في مجموعها، وعند ضم بعضها لبعض، وعند استقرائها في تفاصيلها، تسمح لنا بتحصيل المقاصد الكلية التي نستطيع أن نوظفها لمعالجة كل المعضلات. فقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" المقاصدية مستقرأة من نصوص الشرع في مجموعها، وهي صالحة لتأطير جملة من الوقائع خاصة في مجال البيوع والمعاملات المالية. صحيح أن بعض النصوص التفصيلية التي عللت فيها الأحكام بعللها ومصالحها لا يمكن تجاوزها إلى فضاء المقاصد العامة، لأنها تجيب على الحالة العينية، غير أنها -وبالنظر والتأمل -مندرجة ضمن أطرها الكلية.
اكتمال الشريعة بالمعنى العقلاني، الذي يعطي للعقل الاجتهادي في الإسلام موقعه الاعتباري، هو الاعتقاد أن الشريعة لم تفصل لكل الوقائع حكمها الخاص بها، وإنما وضعت القواعد العامة التي تندرج فيها، وتحت حكمها كل الوقائع والنوازل المستجدة.
ملاحظة بصيرة تلك التي تأملها مفكر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال، حين ربط ختم الرسالة واكتمالها برشد البشرية، ورشد آلة نظرها. فاكتمال الرسالة واكتمال الشريعة لا يعني أن العقل البشري قد تحدد مساره مطلقا في التفكير من داخل بنية النص وفضائه اللغوي، بل إن هذا الاكتمال يحمل دلالات أخرى أكثر عمقا. فلم تعد البشرية -كما كانت من قبل -تحتاج إلى رسول يمشي بين الناس ويبين لهم في كل قضية ونازلة سبيل الهدى والحكم الشرعي فيها. رشد البشرية يعني أنها صارت قادرة اليوم، من منطلق النظر في مصادرها الشرعية وفي التجربة النبوية، على حل مشاكلها ومعضلاتها بنفسها. بلغة مالك بن نبي: رشد البشرية معناه أن الإنسان تجاوز مرحلة الطفولة، وصار قادرا على التعامل مع عالم الأفكار مباشرة باستقلال عن وجود الشخص المجسد للفكرة (النبي).
إن النصوص لو كانت محيطة بالوقائع على سبيل التفصيل، لكان من المطلوب من العقل البشري أن يحصل المطلوب الخبري ومضمون النص وأن يسحبه على الواقعة. إن العقل البشري حينها لن يستطيع أن يقدم أكثر من خدمة النص وتثوير بعض معانيه، لكن من خلال ظاهر اللفظ دون أن يتجاوز هذا السقف. وهي لا شك مهمة مستحيلة، وكثيرا ما تؤول إلى التكلف والتعسف. ولنا أن نتساءل لماذا لم يستطع التيار الظاهري أن يصمد طويلا من الإمام داود رحمه الله إلى أن جاء ابن حزم فأسس قواعده وأصوله.
اكتمال الشريعة بالمعنى العقلاني، الذي يعطي للعقل الاجتهادي في الإسلام موقعه الاعتباري، هو الاعتقاد أن الشريعة لم تفصل لكل الوقائع حكمها الخاص بها، وإنما وضعت القواعد العامة التي تندرج فيها، وتحت حكمها كل الوقائع والنوازل المستجدة. وبهذا المعنى يصير للعقل الاجتهادي مجال أرحب، ويصير لمعنى الرشد الإنساني مدلوله الحقيقي، إذ حينها لن يكون دور المجتهد هو إبصار النص فقط من داخل فضائه اللغوي، وإنما تزدان مهمته بوظائف أخرى، تشمل فقه الواقع، واستقراء كل نصوص الشرع لتحصيل مقاصده وقواعده، ثم التفكير في طرق التنزيل.
العقل الاجتهادي حينها سينفتح على كل المفاهيم المعينة له في طريقه، سيجد نفسه يتقاطع مع علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والأنثروبولوجيا وغيرها من المناهج التي تشتغل على فهم الظاهرة الإنسانية والاجتماعية.
لكنه في الحالة الأولى ـ أي عند التيار اللفظي ـ سيجد نفسه خصيما لكل هذه العلوم والمناهج، إذ سيرى أنها تنازعه المشروعية، وكأنها تطعن في مفهوم اكتمال الشريعة، وتستدرك على الله عز وجل.
إن تحليل هذه المفاهيم وتفكيكها يسهم لا محالة في كشف تناقضات هذا الخطاب، خاصة في الحقل السياسي، حينما تستعار مثل هذه المفاهيم كقوة قهرية تحكمية تصادر آراء الناس واجتهاداتهم.