هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
علق الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، على التعليقات الغربية حول محادثات السلام الأوكرانية الروسية في تركيا، معتبرا أن "الغرب ليس مؤهلا لإعطاء العبر والدروس لأنقرة" بشأن دورها الوسيط.
وقال في مقال له في موقع "ميدل إيست أي" البريطاني؛ إنه "لربما كان من الأفضل عدم اللمز بمساعي تركيا للتوسط؛ لأنه لا يوجد حاليا سواها".
وتاليا النص الكامل للمقال كما ترجمته "عربي21":
الحرب الروسية الأوكرانية: الغرب ليس مؤهلاً لأن يلقن تركيا درساً حول محادثات السلام
اقرأ أيضا: هكذا قرأت صحف غربية الوساطة التركية بين أوكرانيا وروسيا
بدلا من أن يكون رهن أي تحقيق، أدى أبراموفيتش – كما أخبرني المسؤولون الأتراك – دورا محوريا في إقناع الطرفين بالحضور إلى إسطنبول، ولا أدل على ذلك من أنه كان يجلس ضمن فريق المسؤولين الأتراك في جلسة المفاوضات.
قارن ذلك بموقف الولايات المتحدة، أو حتى بمواقف أي من القوى الغربية الرئيسة. بينما نظمت كل من برلين وباريس ولندن مؤتمرات لإنهاء الصراعات الممتدة من البلقان إلى أفغانستان، إلا أنها لم تعبأ بعمل شيء هذه المرة لحل صراع طالما قيل لنا، وباستمرار، إن رحاه تدور على عتبة أوروبا. فكيف لنا أن نفسر ذلك؟
أما من قبل الولايات المتحدة فلا تسمع سوى طبول الحرب تقرع. ومنها طالب السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مرارا وتكرارا بتغيير نظام الحكم في روسيا، بل اضطر البيت الأبيض مؤخرا إلى التنديد بدعوته لاغتيال الرئيس فلاديمير بوتين.
ثم ارتسمت على الوجوه في مؤتمر الدوحة علامات التعجب عندما صدرت عن الرئيس الأمريكي تصريحات مشابهة في بولندا نهاية هذا الأسبوع، وهي التصريحات التي سارع المنهكون من أعضاء طاقمه الرئاسي نحو التراجع عنها، بل وتراجع عنها هو شخصيا أيضا.
نيران يذكيها القوميون
لا يمكن لأوكراني واحد أن يتهم تركيا بالانحياز إلى جانب بوتين، بل لقد قبلت تركيا باستضافة 58 ألف لاجئ، وذلك عدد يفوق ضعف عدد اللاجئين الذين قبلتهم بريطانيا التي ملأت الدنيا عويلا وضجيجا.
من موقعها على السواحل الجنوبية للبحر الأسود، تبذل تركيا جهودا جبارة في سبيل الحفاظ على الوضع القائم كما هو على امتداد السواحل الشمالية. كما يُذكر لتركيا أنها وفرت من خلال طائراتها المسيرة لأوكرانيا أدوات ضرورية للتصدي للغزو الروسي، لا تقل أهمية عما وفرته لها بريطانيا من خلال تزويدها بالأسلحة المضادة للدروع. ومع ذلك، لم يتردد إبراهيم قالين، المستشار الرئاسي التركي، في الإشارة في الدوحة إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا، إنما جاء ردا على استفزاز.
أيا كان ذلك الذي سيحدث من بعد، يشير استعداد الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي لتقديم تنازلات – حول حيادية الدولة وحول وضع دونباس وحول التغيير المحتمل في حدود أوكرانيا –، إلى حقيقة أن بوتين لن يقبل العودة بخفي حنين من هذه المغامرة الكارثية.
لكم كان وضع أوكرانيا أفضل لو أن كييف احترمت بنود اتفاقية دولية، هي اتفاق مينسك، التي كان قد وقعها رئيس إوكراني سابق. كل ما كانت بحاجة لفعله حينذاك هو الاعتراف بأن دونباس منطقة تتمتع بحكم ذاتي. أما الآن فسيتوجب عليها الاعتراف بأنها منطقة مستقلة تماما.
لقد أذكى ألسنة هذه النيران قوميون في الجانبين الأوكراني والروسي، فكانت العواقب على أوكرانيا وعلى روسيا وخيمة للغاية وبالقدر نفسه. ولكن لا واشنطن، ولا أي عاصمة أوروبية، في موقع يؤهلها لأن تقنع القوميين الروس في الكرملين بالتراجع، وذلك لأن لندن وباريس وبرلين ووارسو أطراف في الصراع تماما، كما أن موسكو وكييف أطراف فيه.
يختلف الحال هنا عما كان عليه الوضع في الحروب التي اندلعت بعد تفكك يوغسلافيا، فعندها كانوا لازالوا قادرين على التوسط. أما الآن، فقد تخلت العواصم الغربية عن أدوارها كقوى تحافظ على السلام في الساحات، التي هي في أمس الحاجة داخلها لممارسة ذلك الدور.
الصالحون والطالحون
بدلا من ذلك يجري رسم هذا الصراع باعتباره مواجهة بين نقيضين صارخين. إنها الديمقراطية والسيادة في مواجهة الاستبداد والامبراطورية، وبلغة غراهام، إنها مواجهة بين الصالحين والطالحين. بل تلك هي أحلام وأوهام الإمبراطورية الغربية المتداعية، ومثل هذا المقاربة لن تتمكن من إنهاء هذا الصراع.
بحثا عن ذلك النص، عليك أن تعود ثلاثين سنة إلى الوراء، عندما كانت مثل هذه الصراعات تندلع في كل أرجاء ما كان سابقا مناطق تابعة للاتحاد السوفياتي. تأمل اليوم في ساحات المعارك التي دارت رحاها في تسعينيات القرن الماضي: ناغورنو كاراباخ وجورجيا وترانس نيستريا – وكلها "صراعات مجمدة"، وهي إنما توصف بذلك لأن المزاعم المتعارضة للمتنازعين حول اللغة والأرض والهوية ظلت جميعها بلا حسم.
كان الاستثناء الوحيد هو الشيشان – وكلنا نعلم ما الذي حصل هناك، بعد أن تمكن بوتين من سحق المقاومة الشيشانية بما ترتب على ذلك من إزهاق عشرات الآلاف من الأرواح، وفعل بغروزني ما فعله اليوم بماريوبل، أعد له في لندن استقبال ملكي، وكافأه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير حينذاك بتوقيع عقد بين بريتش بتروليوم وشركة النفط الروسية تايومين (تي إن كيه)، وهي الصفقة نفسها التي تخلت عنها الآن بريتش بتروليوم بسبب الحرب في أوكرانيا.
اقرأ أيضا: لماذا يصر أردوغان على عقد لقاء قمة يجمع بوتين وزيلينسكي؟
لو اتبع غزو بوتين النمط نفسه الذي شهده العالم في الصراعات التي اندلعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فمن المتوقع أن يتوقف القتال عند نقطة معينة حول حدود لن تكون ذاتها تلك التي عبرت منها الدبابات الروسية يوم الرابع والعشرين من فبراير / شباط.
حينها تكون أوكرانيا قد ضمنت لنفسها دخول الاتحاد الأوروبي، ولكن بثمن باهظ، وستكون حينها قضية الديمقراطية في روسيا نفسها قد تلقت ضربة قاصمة. لا يوجد طريقة أفضل للقضاء على الديمقراطيين في روسيا من الدعوة إلى تغيير النظام الحاكم داخل الكرملين.
سوابق كئيبة
أضمن طريقة لتعسير الحياة على روسيا التي تم إقصاؤها من المنظومة البنكية الغربية، هي قيام الخزانة الأمريكية برفع العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني؛ لأن ذلك سيعني أن الكيانات التجارية الأكبر في إيران، ولتي يكون قد رفع عنها الحصار، لن تتمكن من التعامل مع الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات.
فحتى لو رفع بايدن تصنيف الإرهاب الأجنبي عن الحرس الثوري، علما بوجود ما يشير إلى أن ذلك يوشك أن يحصل مقابل عودة إيران إلى صفقة النووي الإيراني، فلن ترفع الخزانة الأمريكية عقوباتها عن المنظمة.
تجسد هذه المسألة الورطة التي أدخلت السياسة الخارجية الغربية نفسها فيها، إذ لم يعد بإمكانها إجبار الآخرين على الالتزام، ومع ذلك تستمر في استخدام لغة القوة نفسها: الحرب والعقوبات، فهي كمن يشتهي القيادة، ولكن ما عاد قادرا على الوفاء بمتطلباتها.
ومن أجل أن تفرض العقوبات على خصم لا بد أن ترفعها عن خصم آخر، ثم ما يلبث الحد الأعلى من الضغط أن يرتد عليها. تصرخ وتولول إزاء قصف الروس للأبراج السكنية في خاركيف وكييف، ولكنها تلتزم الصمت إزاء قيام الطائرات الإسرائيلية بالمهام نفسها في غزة ملحقة الدمار بأبراجها السكنية.
لحظات قليلة في التاريخ الحديث هي التي كانت الهوة بين الحقيقة والكلام فيها بهذا الاتساع – ربما في 1914 أو في 1939، ولكن هذه ليست سوابق سعيدة.
لنأخذ نظرية غامبل التي تزعم بأنك لا يمكنك ممارسة سياسة خارجية قوية إذا كانت لديك حالة من الغليان داخل البلد. لكن في هذه المرة، دعونا لا نطبق هذا الكلام على تركيا بل على بلادنا نحن.
في الولايات المتحدة، تنظم محطة فوكس نيوز بكل جد حملة لإقناع الجمهور بأن الولايات المتحدة توشك مستودعاتها أن تخلو من المواد الغذائية. لم تعد الولايات المتحدة متحدة، بل تعاني من حالة خطيرة من الاستقطاب، تتجاوز الحدود المعهودة للخطاب السياسي.
وفي أوروبا، يستمر صعود اليمين الشعبوي حتى بات قوة مجتمعية. ومن الممكن أن يحقق حزب "إخوان إيطاليا" اليميني الشعبوي المتطرف والمشكك في الوحدة الأوروبية، مكاسب مهمة في الانتخابات القادمة. وفي فرنسا، رغم أنه من المتوقع أن يبقى الرئيس إيمانويل ماكرون في السلطة، إلا أن حملات انتخابات الرئاسة لم تزل سباقا نحو القعر من السياسات اليمينية المتطرفة، حيث تجد أن أكثر ما يتنافس عليه المرشحون هو إثبات العداء للمسلمين. وفي بريطانيا، مازال رئيس الوزراء بوريس جونسون، رغم ما جرب عليه من كذب، متمسكا بمنصبه ولا يكاد يبقيه فيه سوى وجود حرب مندلعة في أوكرانيا.
أزمة تلوح في الأفق
هل كل هذا من باب المصادفة؟ في كل واحد من هذه البلدان، تم سحق اليسار الذي لم يعد راغبا أو لم يعد قادرا على الدفاع عن حقوق العمال، بما في ذلك المطالبة برواتب عادلة وبضمانات اجتماعية كافية. في الوقت نفسه يشهد كل واحد من هذه البلدان تقدما مستمرا لليمين الشعبوي، الذي بات قادرا على إقامة علاقات دولية على درجة عالية من المصداقية.
في اللحظة نفسها التي يصر الغرب على اعتبار نفسه الوحيد الذي يرفع راية الديمقراطية والليبرالية، تعيث التيارات المعادية لليبرالية فسادا في عقر داره. وكل هذا قبل أن تشعر أوروبا بالانعكاسات الناجمة عن العقوبات "الشالة" التي تم فرضها على روسيا.
لو قرر بوتين غدا قطع إمدادات الغاز التي مازال يزود أوروبا بها عبر أوكرانيا، وذلك بذريعة عدم تلبية طلبه بدفع ثمن الغاز بالروبيل، فسوف تنشأ أزمة لا محالة.
قالت الولايات المتحدة إنها ستبذل قصارى جهدها لإضافة 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي هذه السنة، الأمر الذي يمكن أن يتم من خلال إعادة توجيه شحنات الغاز الطبيعي المسال الوارد من بلدان أخرى. ما قالته الولايات المتحدة ببساطة، هو أنها ستعمل مع "الشركاء الدوليين"، دون أن تحدد من أين ستأتي الكميات الإضافية من الغاز الطبيعي المسال. ولكن حتى لو تحقق ذلك، فإنه لا يزيد عن عشر كمية الغاز التي تصدرها روسيا سنويا إلى الاتحاد الأوروبي، وتصل إلى 155 مليار متر مكعب.
هل لدى بوتين، الذي وُصف بأنه شيطان وأطلق عليه لقب هتلر الثاني، رغبة في تيسير الحياة على الأوروبيين بانتظار أن يفطموا أنفسهم عن الاعتماد على الصادرات الروسية؟
ما ستتعرض له أوروبا والولايات المتحدة من تضخم وركود، لا يعادل شيئا بما ستتعرض له مصر أو حتى تركيا. ولذا؛ فحالة الذعر التي لمسناها في منتدى الدوحة إزاء الحرب في أوكرانيا وما يمكن أن تغرقنا جميعا فيه، أمر حقيقي.
ما بات واضحا حتى اللحظة، هو أن الولايات المتحدة وأوروبا تنازلتا عن حقهما في التفاوض على صفقة تنهي الصراع في أوكرانيا. وفي هذه الظروف، لربما كان من الأفضل تجنب اللمز بجهود الوساطة التركية؛ لأنه لا يوجد حاليا سواها.