هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بداية من يوم أمس السبت دخلت أطول هدنة في تاريخ الحرب الدائرة في اليمن حيز التنفيذ، ولمدة شهرين، وسط توافق تام من جميع الأطراف، ورضوخاً مشتركاً للإرادة الأمريكية التي يبدو أنها ساومت جماعة الحوثي بشأن الهدنة مقابل وقف جهود حثيثة في واشنطن لإعادة تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية أجنبية.
تحت غطاء كثيف من المبادرات والمشاورات والحوارات التي جرت في العاصمة الأردنية، والمشاورات أحادية الجانب التي ترعاها السعودية حالياً، في الرياض تحت المظلة الإسمية لمجلس التعاون الخليجي، أنجز المفاوضون الأمريكيون هذه الهدنة في العاصمة العمانية مسقط بمساهمة كبيرة من الحكومة العمانية، دون أن يعني ذلك على الفور أن الأمور تتجه نحو السلام الذي ينبغي أن يتأسس على إرادة توافقية يمنية وعلى استعداد الأطراف للتنازل عن المكاسب غير المشروعة للحرب.
هذه الهدنة كانت بحكم المستحيل قبل أن يفشل الحوثيون في تحقيق هدف إسقاط مأرب والذي تحول إلى مهمة مستحيلة تقريباً، لأسباب عديدة أهمها الصمود الأسطوري للكتلة البشرية المناضلة في مدينة مأرب، واعتماد واشنطن والرياض، مبدأ المعادلة الاستراتيجية في جبهة مأرب، والدفع بالمدينة إلى صدارة الاهتمام الدولي كهدف غير قابل للاستباحة، على نحو ما كان عليه الحال مع غيره من الأهداف التي استباحها الحوثيون تحت أنظار الجميع وربما بمؤازرتهم إلى حد يمكن معه القول إن مناطق اليمن وضعت عملياً بين يدي الحوثيين طيلة السنوات الماضية من زمن الحرب.
ليس غريباً أن يحتفي الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً بهذا الإنجاز موجهاً الشكر لحكومات السعودية وعمان، والحكومة الشرعية اليمنية، مستعرضاً مخلصاً لبنود اتفاق الهدنة، التي تشمل تسهيلات بخصوص إطلاق أسرى، وفتح مطار صنعاء، وتسيير سفن مشتقات نفطية عبر ميناء الحديدة، وفتح المعابر بمدينة تعز، مع تأكيده أن الهدنة ليست كافية، ورغبته في أن يرى الحرب تضع أوزارها في اليمن.
الجديد في هذه الهدنة أنها أعادت الأمور إلى نصابها، فقد تولت الحكومة الشرعية وإن بصورة اسمية بالتأكيد، الموافقة على الهدنة، وبدا ما يسمى بـ: تحالف دعم الشرعية طرفاً مسانداً لما اتخذته الحكومة من موقف حيال هذا الاتفاق، في حين أن الرياض كانت قد تجاوزت الحكومة فيما يخص قرار الحرب والسلم، بإعلانها في العشرين من آذار/ مارس من العام الماضي مبادرتها لوقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من الدور المحوري للسعودية في التوصل إلى هذه الهدنة، إلا أنها اختارت أن تتموضع خلف السلطة الشرعية، مع استمرارها بالنظر إلى اتفاق الهدنة، على أنه إجراء في إطار الخطوات السعودية التي تمثلت في مبادرة وقف إطلاق النار وإعلان الهدنة من جانب واحد لمدة شهر استجابة لطلب مزعوم من أمين عام مجلس التعاون الخليجي وتزامناً مع انطلاق مشاورات الرياض بين الأطراف المتشاكسة في معسكر الشرعية والمنضوية تحت عباءة السعودية والإمارات.
أخطر ما يجري الترتيب له عبر هذه المشاورات مدفوعة القيمة، أن القائمين عليها ومن خلال إغراق المشاورات بشخصيات وكيانات إما معادية للمشروع الوطني اليمني أو لا قيمة لها، ستفضي إلى تحييد القوى السياسية الكبيرة المرتبطة بالمشروع الوطني، وستمضي باتجاه بناء موقف سياسي وعسكري وأمني، في مواجهة الحوثيين.
يتباهى الحوثيون ومن يقف معهم بالإنجاز الذي تحقق في مسقط، والذي سحب البساط تماماً من تحت أقدام مشاورات الرياض التي توصف من مقاطيعها بأنها حدث عديم الأهمية وعديم التأثير على مستقل الحرب والسلام.
لكن دعونا ننظر إلى مشاورات الرياض بشكل مختلف، فالسعودية، لا أعتقد أنها وجهت رجالها التابعين المخلصين إلى هذه المشاورات في معزل عن تنسيق من نوع ما مع الإدارة الأمريكية، بدليل أن المشاورات انطلقت فيما كانت السعودية تلقي بثقلها الكبير خلف السلطة الشرعية وربما أمامها في مشاورات الأبواب الخلفية التي استضافتها مسقط وأنجزت اتفاق الهدنة، الذي تأسس على توافق كامل بين طرفي الحرب الأساسيين.
في تقديري أن مشاورات الرياض، هي الإجراء الأخطر الذي أقدمت عليه السعودية بعيداً عن إشراف السلطة الشرعية التي يتواجد رأسها بصورة أبدية في الرياض، لأن هدفها هو طي صفحة ربيع اليمن وتقويض حمولاته السياسية، ومرجعيات ومخرجات العملية السياسية التي انقلب عليها الحوثيون بالتحالف مع الرئيس الصريع علي عبد الله صالح في خريف العام 2014، والأهم من ذلك التحلل الكامل من تبعات الحرب عبر تكريس دور المملكة كوسيط بين أطراف يمنية متحاربة.
لقد دفعت الرياض بهذا الخليط من الشخصيات والتوجهات والمشاريع السياسية المتناقضة، والمتصارعة، إلى مشاورات لا تعني سوى إعادة ترتيب بيت الشرعية، بما قد يقتضيه ذلك من هدم لبعض مكوناتها وتمكين مكونات جديدة، وصولاً إلى تأسيس مرجعيات على شاكلة اتفاق الرياض.
غير أن أهم ما ينبغي التنبيه إليه بخصوص هذه المشاورات، أن التحالف جرد السلطة الشرعية من سلطة الإشراف على مدخلاتها ومخرجاتها، ووضعها تحت الإشراف الإسمي لمجلس التعاون الذي لا تظهر دوله أي اهتمام بهذه المشاورات سوى ما يقوم به الأمين العام للمجلس بحكم وجوده في الرياض والعيش والملح الذي يجمعه بمسؤولي الدولة المستضيفة للأمانة العامة.
وأخطر ما يجري الترتيب له عبر هذه المشاورات مدفوعة القيمة، أن القائمين عليها ومن خلال إغراق المشاورات بشخصيات وكيانات إما معادية للمشروع الوطني اليمني أو لا قيمة لها، ستفضي إلى تحييد القوى السياسية الكبيرة المرتبطة بالمشروع الوطني، وستمضي باتجاه بناء موقف سياسي وعسكري وأمني، في مواجهة الحوثيين.
وهذا الموقف قد يعني في حده الأقصى مواجهة حاسمة معه تنتج سلطة جديدة في اليمن على أنقاض الانقلابات العديدة ويجري معها تغييب الأحزاب الكبيرة ومعسكر ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، وقد تأتي في حدودها في شكل مفاوضات مرفوعة السقف مع جماعة الحوثي وصولاً إلى تسوية، قد تنتج وضعاً جيوسياسي جديداً عنوانه التقسيم.