قضايا وآراء

موجة الانكسار الديمقراطي العربي

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

تشهد مرحلة الانتقال من نظام استبدادي إلى آخر ديمقراطي حالة من الاضطراب البنيوي تضرب كافة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتزداد هذه المرحلة اضطرابا مع طول أمدها، بحيث ينشأ نظام هجين، لا هو ديمقراطي ولا هو استبدادي، بل يجمع بينهما.

وقد يتحول هذا الوضع إلى حالة ثابتة قائمة بذاتها، كم هو حال لبنان، وقد يتحول إلى استعصاء أمام ترسيخ الديمقراطية وتطويرها كما هو حال العراق، وقد تكون حالة طارئة (كما يتوقع في تونس بسبب اختلاف تجربتها عن باقي الدول العربية، وبسبب تطور البنى السياسية والاجتماعية لديها).

يشهد العالم العربي خلال السنوات السابقة حالة الاستعصاء للانتقال الديمقراطي، الناجمة عن غياب النخب السياسية الوطنية ما فوق الطائفية والحزبية، وعن ترسخ الوعي الطائفي لدى الشعوب في حالات المشرق العربي.

العراق

ما يزال هذا البلد يعاني من الديمقراطية الطائفية، التي حولت العملية الانتخابية إلى مجرد واجهة ديمقراطية تتقاسمها الطوائف والإثنيات عبر أحزاب سياسية تتحالف فيما بينها على أساس براغماتي طائفي، لا وطني، حيث لا مشاريع وطنية في برامج الأحزاب. 

وحين حاول مقتدى الصدر تغيير المعادلة الحزبية السياسية القائمة منذ عام 2005، اصطدم بالمصالح المتشابكة للقوى السياسية التي ترغب في المحافظة على المحاصصة القائمة.

ويشير الاستعصاء السياسي في العراق إلى أن المشهد الحالي يتجه إلى خيارين: إما إجراء انتخابات مبكرة، أو حصول توافق سياسي كما حدث في انتخابات عام 2018، وفي الحالتين لا توجد مؤشرات على إمكانية حدوث تحول المشهد السياسي من شأنه أن يعيد ترتيب البنية السياسية على أساس وطني.

يتطلب الأمر أولا إعادة كتابة دستور العراق على أسس وطنية، فالدستور الحالي مليء بالإشكاليات، من حيث وجود عبارات ركيكة تُفسر بعدة أوجه، فضلا عن أن ديباجة الدستور ركزت على المكونات الفرعية للهوية العراقية على حساب المكونات الوطنية الرئيسية.

لبنان

تنتج الانتخابات اللبنانية منذ اتفاق الطائف، الطائفية السياسية، ولا يبدو في الأفق ثمة تغيير لهذه المعادلة، حتى الأصوات التي خرجت قبل سنوات للمطالبة بتغيير الواقع السياسي ـ الطائفي (انتفاضة 17 تشرين)، فشلت في إحداث زخم سياسي على المستوى المجتمعي، فضلا عن عدم توحدها في لوائح انتخابية واحدة وتحت شعارات موحدة، ما يجعل تأثيرها في الانتخابات المقبلة ضعيفا.

على مستوى أدنى، حاول سعد الحريري الضغط من أجل إعادة ترتيب العلاقة بين القوى السياسية، ولكن تحتب عباءة اتفاق الطائف، فالمسألة بالنسبة لديه، لا تتعلق ببنية النظام السياسية اللبناني، وإنما بالتفاهمات السياسية مع "حزب الله".

 

يشهد العالم العربي خلال السنوات السابقة حالة الاستعصاء للانتقال الديمقراطي، الناجمة عن غياب النخب السياسية الوطنية ما فوق الطائفية والحزبية، وعن ترسخ الوعي الطائفي لدى الشعوب في حالات المشرق العربي.

 



ومن هنا، جاء اعتزاله السياسي مع رؤساء حكومات سابقين، ليشكل أداة ضغط على الحزب الذي يهيمن على السلطة، وبهذا المعنى، قد تعتبر مقاطعة الانتخابات ذات جدوى أكبر من المشاركة بها، لأن "حزب الله" لا يفضل على الإطلاق الاستئثار بالحكم ظاهريا، ولا يستطيع العمل دون شركاء في الحكم، رغم الاختلافات الكبيرة فيما بينهم.

والمشكلة التي تواجه الحالة اللبنانية، هي أنه حتى لو اندلعت ثورة، أو حرب أهلية، فإن الخروج منهما يتطلب توافق القوى السياسية، وهي قوى طائفية، ما يعيد اتفاق الطائف بأشكال مختلفة.. هذا هو مصير الديمقراطية اللبنانية التي تبدأ بلحظة الانتخابات وتنتهي بانتهائها.

تونس

يختلف واقع الحال في تونس عن باقي الدولة، فتجربتها الديمقراطية الوليدة بدت مبشرة في مناخ إقليمي غير موات للديمقراطية.

لكن هذه التجربة انتهت بشخصية مغمورة على رأس الحكم، تريد تدمير المنظومة السياسية والحزبية والدستورية القائمة منذ عام 2011.

نحن هنا أما حالة حدية، لا تجري بناء على التراكمات السابقة، وفق ديالكتيك التاريخ، الذي يبعد النقاط السلبية ويعزز الإيجابية في مسار طويل، يصل إلى عتبة الاستقرار السياسي.

لقد كشفت التجربة التونسية عن مأزق الأحزاب، لجهة تعنتها الأيديولوجي، ولجهة رغبتها في الحكم مهما كلف الأمر، فنشأت صفقات وصفقات حزبية مضادة، لا تأخذ في الاعتبار المشروع الديمقراطي في عمقه.

ستكون تونس في هذا العام والعام المقبل على موعد مع اختبار حقيقي لتجربتها الديمقراطية، فإما أن ينتهي الأمر بحالة مشابهة لمصر، وهو أمر مستبعد، وإما أن تدفع تجربة سعيد (بما تشكله من انتكاسة مباشرة للديمقراطية) إلى حصول هزة كبرى تعيد ترسيم التجربة التونسية وفق أسس مغايرة عن السابق.

ليبيا

ساهم التباعد الجغرافي في ليبيا بحصول تباعد سياسي وعسكري، وجعل كل طرف متحصنا في قلاعه وتحالفاته.

تختلف الأزمة الليبية عن مثيلاتها في العالم العربي في أن الأطراف الداخلية المتنازعة محصورة بين طرفين، شرق وغرب، لكن عدد الفرقاء الإقليميين والدوليين كبير جدا.

وفي بلد لا يشكل هاجسا استراتيجيا للغرب، ترك الملف الليبي لسنوات دون اهتمام دولي جدا، حتى بدأ حفتر عملية عسكرية للسيطرة على طرابلس انتهت بالفشل عسكريا.

حرك العملية العسكرية المياه السياسية الراكدة، منعا لولوج روسيا وتركيا إلى الساحة الليبية.

يكمن الاستعصاء الليبي في أن الطرف الشرقي يريد الهيمنة المطلقة على البلاد، ولا توجد لديه أجندة وطنية ديمقراطية.

ولا توجد إلى الآن رغم الجهود الإقليمية المبذولة، أية معطيات لحدوث انفراجة سياسية، بل على العكس، حيث أدى انتقال باشاغا من الغرب إلى الشرق في زيادة الاستعصاء الدستوري والسياسي، في وقت لا يوجد توافق على مضمون الدستور المراد تعديله.

وكما حال باقي الدول العربية التي شهدت ربيعا عربيا، تعاني ليبيا من النخبة الفاعلة سياسيا وعسكريا، ومن دون نخبة جادة ومؤمنة بالديمقراطية، فستكون سببا في الانشقاق والفوضى.

سوريا

كانت سوريا أكثر بلدان الربيع العربي التي وصل فيها الصراع المسلح إلى مستويات عالية لم تبلغها أية دولة عربية أخرى، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل المجتمع الدولي يتخذ قرارا بترك الملف السوري في حالة ستاتيكو عسكري وسياسي.

ويكمن السبب الثاني في خصوصية الموقع الجغرافي، وثالثا في طبيعة المعارضة السياسية والعسكرية، ورابعا في تحول البلاد إلى قاعدة للحركات الراديكالية الإسلامية من جهة والإرهابية من جهة ثانية (داعش).

هكذا، تحول البلد الأكثر أهمية في خارطة بلدان الربيع العربي إلى أكثر بلد غير مهتم به عربيا ودوليا، وتحولت الثورة ومطالبها في الحرية وإنهاء الاستبداد إلى مجرد أزمة سياسية يتساوى فيها الطرفان، النظام والمعارضة.

*كاتب ومحلل سياسي


التعليقات (0)