أخرج المِعلم منديله الأبيض وراح يمسح عرقه الذي انساب حتى تسربل تحت ملابسهـ وكاد أن يُغرق قدميه ويملأ بنصه البلاستيكي الذي اشتراه له نجله الأوسط من مدينة الإسماعيلية حيث يعمل بنّاء كما علمه والده المِعلم الكبير.
فاحت رائحة الورد من المنديل الذي تقوم الزوجة الثانية للمعلم على غسله يوميا بصابون جيم 11، ورشه بماء الورد، ثم تطبيقه ووضعه في جيب صديري زوجها، الذي تذكرها مع نسيم عطر منديله الذي سرى بالمكان.
ورغم أنه يعمل تحت أشعة شمس قررت أن تطرد كل ما تطاله ومن تلفحه نحو الظل والماء، ومع أنه يقف فوق سقالة خشبية بارتفاع ثلاثة أمتار من جذع نخلة نخرها السوس، ووسط عمال لا يكاد هزارهم يبدأ حتى يشتعل سبابهم، إلا أنه تذكر محبوبته، وراح في عالم من خيال أنساه نفسه والدنيا، والعمل وحتى الرجل البخيل صاحب الفدادين التي تصل بين ترعتي السهيلية والجلهومية والذي يبنون له بيتا كقصر منيف.
"يا مِعلم، يا مِعلم، يا مِعلم"، هكذا أفاق المِعلم على صوت أبوحسن، أكبر عماله سنا، يناديه ويُخرجه من حُلمه الجميل مع الست نجية، ويذّكره بنداء زوجته الأولى كل صباح: قوم يا معلم كفاية نوم، قوم ما انت سهران عندها لنص الليل، قوم يابتاع نجية.
التقط المعلم حجرا من فوق الحائط وقذف به أبو حسن، قائلا: يا ابن فردة الوطى، يا ابن أعمى العين وأطرش الودان وعديم الإحساس، صحيتني من أجمل حلم.
تلقف أبو حسن الحجر بمهارة واقتدار وأعاده إلى مِعلمه ثانية، وفي مكر وخبث قال له: يا مِعلم الراجل البخيل النتن لم يقدم لنا كوبا واحدا من الشاي منذ الصباح، ما رأيك أروح للست نجية تعمل لينا دور شاي، بيتها قريب من هنا، ولا أروح للست الحاجة؟
ابتسم المعلم واحمر وجهه الذي نضج من حرارة الشمس وصار كالكبدة الجملي، وقال له: ست الحاجة مين يا بهيم، بسرعة على نجية، وقول لها تذبح جوز حمام، وبعد العصر تسخن حلة مياه على الكانون، وتجهز لي جلابيتي البيضاء التي اشتريتها من الحجاز.
طار أبو حسن إلى بيت نجية وعاد بالشاي ومعه طبق من الكحك المعمول بالسمن البلدي والسمسم الذي تصنعه خصيصا للمعلم بفن ومهارة وشطارة.
- اتمسي بالخير يا ست الحاجة، أنا جاي أسمع تمثيلية "سبع الليل" عندكم في الراديو.
- اتفضل يا بو حسن، وهو فين المِعلم، بقينا بعد العشاء ولم يأت حتى الآن.
راح أبو حسن، منفلت اللسان في حكاياته وتقمص دور الراوي صاحب الربابة يروي من
القصص الشعبية حكايات ماهر ومهران، وشفيقة ومتولي، ورؤوف ورئيفة، ونسي التمثيلية وحكايات "سبع الليل" التي لا تخلو من المغامرة والتشويق والتي كان يحيكها ليلة بليلة لأم حسن حتى يُخيفها وتظل طوال الليل ممسكة بعنقه حتى الصباح.
انساب أبو حسن معترفا بكل ما حدث طوال اليوم لمِعلمه، بداية من المنديل ورائحة الورد وحتى الشاي والكحك، وزوجي الحمام وحلة المياه الساخنة على الكانون.
استمعت الحاجة لحكاياته التي أطال فيها أملا في أن يحصل على كوب شاي أو طبق أرز باللبن أو ما تبقى من صينية الكسكاس المروي بمرق اللحم الجملي أو حتى قعر حلة محشي كرنب.
طال صبر الحاجة على سماجة أبو حسن مع
ابتسامة غيظ مرسومة تبديها تارة وتحجبها أخرى لتُخفي مشاعر غيظ وغضب انفجر بمجرد أن انتهى أبو حسن، كالسيل الجاري يطيح بكل ما يقابله من شجر وحجر، قائلة: ليلتك وليلته سوداء بتاع نجية.
جلست على مصطبة طينية أمام بيتها تنفخ وتسب بصوت خفيض مع مرور المارة وبصوت عال مع اختفائهم من الشارع، لم تطق نفسها، انطلقت نحو بيت نجية القريب، وتراب المصطبة مرسوم على ثوبها دون أن تعيره اهتماما، طرقت الباب بكل ما أوتيت من قوة.
إنه يعرف تلك الطرقة جيدا، وذلك الصوت وتلك الكلمات، لملمت نجية أشياءه وبقايا جوز الحمام وأطفأت الكانون، بينما طار هو كفريسة فرت من قسورة، ممتطيا درج السلم الخشبي ومنه إلى سطح الجيران ثم إلى أسطح آخرين حتى سطح بيته.
نزل المِعلم فوق درج سلم بيته الإسمنتي وتسلل نحو وسط الدار ومنها إلى الدهليز، ليجد أبو حسن جالسا يستمع إلى نهاية حلقات سبع الليل، فخلع بلغته الصفراء وراح يجري خلفه قائلا له: خربت بيتي يا بهيم.
عاد الصمت سريعا إلى الدار بعد صخب وضجيج وتوسلات أبوحسن وطرقعة البلغة على رأسه، إنها الحاجة عادت من مهمة البحث عن المِعلم لتجده جالسا على شريط الخوص الجديد الخاص به والذي لا يستطيع أحد غيره وغيرها أن يجلس عليه.
بادرها بذكائه المعهود قائلا: كنتي فين يا حاجة، جئت ولم أجدك، مع أني قلت لأبي حسن روح للحاجة وقول لها إعملي لي شاي وابقي اذبحي زوجين حمام وسخني مياه على الكانون بعد العصر لحد ما أرجع من اتفاق على شغل جديد.
عادت للحاجة ابتسامتها وقالت: حمدا لله على سلامتك يا جوزي، ثم كشرت عن أنيابها وخلعت نعلها العالي وراحت تضرب به أبو حسن، علقة أشد من الأولى، قائلة له: يا كذاب يا خباص يا خراب البيوت.
جرى أبو حسن نحو بيته، قائلا يخرب بيت المناديل أم ريحة على الكحك والشاي على جوزين الحمام على اللي يتجوز اتنين من النسوان.