نضال المسيحيين الفلسطينيين الأرثوذكس ضد استعمارَيْن

أصدرت إسرائيل أوامر في الأسابيع الأخيرة تقيد عدد المصلين الفلسطينيين المسيحيين المسموح لهم بالصلاة في كنيسة القيامة بالقدس للاحتفال بعيد الفصح الأرثوذكسي الشرقي. وأثارت هذه القرارات المعادية للمسيحيين الأرثوذكس حفيظة قادة الطائفة والكنيسة. ويأتي ذلك في أعقاب القيود الإسرائيلية المتزايدة على المصلين الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين في المدينة المحتلة. وفي الواقع، هاجمت القوات الإسرائيلية المصلين في العام الماضي أيضاً الذين كانوا متجهين للاحتفال بيوم "سبت النور" في القدس، كما حصل من جديد منذ يومين خلال احتفالات عيد الفصح الأرثوذكسية، منتهكة بذلك حقوقهم الدينية واتفاقيات جنيف. وقد أدانت السلطة الفلسطينية والأردن أيضاً الممارسات الإسرائيلية.

في العقد الماضي، تضاعفت هجمات اليهود المتعصبين على الكنائس المسيحية الفلسطينية داخل "دولة إسرائيل" وفي القدس الشرقية المحتلة، لدرجة أن قادة عدة طوائف، من الطائفة الأرثوذكسية، وهي أكبر طائفة مسيحية، إلى الطائفة الأنجليكانية، وهي أصغر الطوائف، اشتكوا من تعاظم الجهود لطرد المسيحيين الفلسطينيين، والوجود المسيحي بشكل عام، خارج البلد الذي تحتله إسرائيل بأكملها.

فإذا كانت محاولات إسرائيل للسيطرة على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس ذات شقين -من خلال استخدام إسرائيل للحفريات "الأثرية" تحت الأرض التي تقوض أسس المسجد الأقصى في انتهاك للقانون الدولي، ومحاولات المستوطنين اليهود للسيطرة على الحرم الشريف فوق الأرض- فإن حربها على المسيحيين الفلسطينيين، وخاصة الأرثوذكس منهم، يتم شنها بالتحالف مع البطريركية الأرثوذكسية التي يسيطر عليها رجال الدين اليونانيون، حيث تتمثل الاستراتيجية الرئيسة في الاستيلاء على أراضي الكنيسة وممتلكاتها، وتقييد وصول الفلسطينيين إلى كنيسة القيامة.

إذا كانت محاولات إسرائيل للسيطرة على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس ذات شقين -من خلال استخدام إسرائيل للحفريات "الأثرية" تحت الأرض التي تقوض أسس المسجد الأقصى في انتهاك للقانون الدولي، ومحاولات المستوطنين اليهود للسيطرة على الحرم الشريف فوق الأرض- فإن حربها على المسيحيين الفلسطينيين، وخاصة الأرثوذكس منهم، يتم شنها بالتحالف مع البطريركية الأرثوذكسية

ينتمي الفلسطينيون الأرثوذكس إلى كنيسة عربية أصلية، وهم يشكلون أكبر طائفة فلسطينية مسيحية. وقد ناضل الفلسطينيون الأرثوذوكس ضد الصهيونية منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن معاناتهم ومقاومتهم كانت قد توجهت أيضاً ضد المبشرين الكاثوليك والبروتستانت منذ القرن التاسع عشر، وكذلك ضد رجال الدين اليونانيين الذين سيطروا على كنيستهم -سواء كان البطريرك نفسه أم "أخوية القبر المقدس" ذات النفوذ القوي- ويمنعون رجال الدين العرب الفلسطينيين من عضويتها ويحرمون عليهم اعتلاء منصب البطريرك.

أدرك المسيحيون الأرثوذكس الفلسطينيون في وقت مبكر طبيعة الاضطهاد المتعدد الذي يواجهونه. وقد لخصت مقالة افتتاحية نُشرت في تشرين الأول/ أكتوبر 1931 في صحيفة "فلسطين" المناهضة للاستعمار -والتي كان رئيس تحريرها فلسطينياً مسيحياً أرثوذكسياً- الوضع: "إذا كان لفلسطين الحق أن تقول إنها تحت انتدابين أحدهما بريطاني والآخر صهيوني، حق للملة الأرثوذكسية فيها أن تقول إنها تحت ثلاثة انتدابات: انتداب بريطاني وانتداب صهيوني وانتداب ثالث يوناني". وأضافت الافتتاحية: "وقد تضافرت هذه الانتدابات الثلاثة على حرمان أهل فلسطين العربية من حقوقهم"، حيث أنه نتيجة دعم البطريركية اليونانية للصهاينة "كان من واجب كل عربي في فلسطين، مسلماً كان أو مسيحياً، أن يقف أمام هذه الانتدابات الثلاثة الغريبة التي تألبت عليه وقفة الرجل الواحد".

أدرك المسيحيون الأرثوذكس الفلسطينيون في وقت مبكر طبيعة الاضطهاد المتعدد الذي يواجهونه. وقد لخصت مقالة افتتاحية نُشرت في تشرين الأول/ أكتوبر 1931 في صحيفة "فلسطين" المناهضة للاستعمار -والتي كان رئيس تحريرها فلسطينياً مسيحياً أرثوذكسياً- الوضع

وكانت هذه السيطرة اليونانية قد استهلت بعد الغزو العثماني في عام 1517، فبينما عانى المسيحيون الأرثوذكس الفلسطينيون، أحفاد المسيحيين الأوائل، على أيدي الصليبيين الكاثوليك اللاتينيين، بحلول القرن الثالث عشر كانت المملكة الصليبية الأخيرة المتبقية في فلسطين قد هزمت، ورحل معها رجال الدين المسيحيون اللاتين. ولكن عاد الرهبان الدومينيكان والفرنسيسكان التابعون لطائفة اللاتين الغربية، وكان معظمهم من الإسبان والإيطاليين، في القرن الرابع عشر بإذن من السلطات المملوكية "كأوصياء" على الأماكن المقدسة، وهو المنصب الذي احتفظوا به حتى الغزو العثماني.

وبعد وصول العثمانيين، تم انتزاع الكنيسة العربية المَلَكِية (وهو الاسم التي كانت تُعرف به الكنيسة العربية الأرثوذكسية الأصلية) من المسيحيين العرب الفلسطينيين بعد وفاة آخر بطريرك عربي فلسطيني، ووضعت الكنيسة والطائفة تحت سيطرة البطريركية اليونانية في إسطنبول. وقد انقسمت الكنيسة والطائفة فيما بعد بين الشق الأكبر الذي أصبح يُطلق عليه اسم الكنيسة الأرثوذكسية "اليونانية" والبطريركية التابعة لها في إسطنبول، وتلك الأصغر التي ظل يطلق عليها اسم الكنيسة الملكية، والتي قبلت في عام 1724 السلطة البابوية الكاثوليكية في روما مع احتفاظها بطقوسها وشعائرها الشرقية واختلافاتها اللاهوتية.

وهكذا أطلق العثمانيون على الملكيين العرب والفلسطينيين اسم "الروم الأرثوذكس". و"الروم" هو الاسم الذي اعتمده العثمانيون لتسمية مسيحيي السلطنة، وأطلقوا على أتباع بابا روما من الملكيين اسم "الروم الكاثوليك".

بعد وفاة البطريرك عطا الله، آخر بطريرك عربي فلسطيني، في عام 1543، جاء العثمانيون بجيرمانوس الناطق بالعربية، وهو يوناني من منطقة الموريا، تظاهر بأنه عربي. ومنذ عهد جرمانوس، أصبحت البطريركية مقتصرة على اليونانيين. كما أسس جرمانوس "أخوية القبر المقدس" التي استبعدت من عضويتها رجال الدين الفلسطينيين من أهل البلاد، وقصرت عضويتها على اليونانيين حصرياً، كما هو الحال اليوم.

بلغ الاستعمار المسيحي لأوروبا الغربية لفلسطين، أو ما عُرف باسم "الحملة الصليبية السلمية"، ذروته منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعداً، من خلال المبشرين الأوروبيين والقوى الأوروبية بدعوى حماية السكان المحليين من غير المسلمين. وكان قد أعيد تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس التي أسسها الصليبيون عام 1099، والتي انتهى وجودها مع هزيمة الصليبيين، في عام 1847. ومثلما ادعى الصليبيون القدامى بأن غزواتهم كانت تهدف إلى إنقاذ المسيحيين الشرقيين -الذين قام الصليبيون فيما بعد بقتلهم وإخضاعهم- من اضطهاد المسلمين "الكفار"، فمن المفارقة أن حرب القرم التي قامت بين عامي 1853 و1856 قد تم الترويج لها بناء على ذرائع صليبية أوروبية مماثلة لحماية الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين والسكان المسيحيين.

مثلما ادعى الصليبيون القدامى بأن غزواتهم كانت تهدف إلى إنقاذ المسيحيين الشرقيين -الذين قام الصليبيون فيما بعد بقتلهم وإخضاعهم- من اضطهاد المسلمين "الكفار"، فمن المفارقة أن حرب القرم التي قامت بين عامي 1853 و1856 قد تم الترويج لها بناء على ذرائع صليبية أوروبية مماثلة لحماية الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين والسكان المسيحيين

كانت الحرب بطبيعة الحال مدفوعة بمخاوف إمبريالية فرنسية وبريطانية من نوايا روسيا للاستيلاء على فلسطين، لا سيما في سياق حجم الحج المسيحي الروسي السنوي الكبير إلى القدس لعيد الفصح، والذي لم يتوقف منذ القرن الثاني عشر. وكانت الحملات التبشيرية الغربية الكاثوليكية- اللاتينية (والبروتستانتية) قد بدأت تهدد المصالح الروسية في فلسطين، حيث بدأ تنظيم رحلات الحج إلى فلسطين في فرنسا وإيطاليا وقيام الآلاف من اللاتين بالحج إلى فلسطين.

كان رد الفعل الفلسطيني الأرثوذكسي سريعاً ضد هذه "البدع" الطارئة و"طقوس الفرنجة" و"دين الفرنجة". لكن نظراً لأن اللاتين الأوروبيين كانوا قد فقدوا امتيازاتهم الحصرية في الكنائس الفلسطينية منذ الغزو العثماني، فقد أصر الفرنسيون وغيرهم من الكاثوليك في عام 1852 على استعادة الامتيازات اللاتينية إلى وضعها التي كانت عليه قبل وصول العثمانيين. وقد أعاد العثمانيون، تحت الضغوطات، بعض الامتيازات الصليبية للاتين على حساب الطائفة الأرثوذكسية من أهل البلاد، لا سيما في كنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وحديقة الجثمانية. فانتفض الفلسطينيون الأرثوذكس، وكذلك القيصر نيكولاس الأول، على هذه التنازلات. وقد كانت هذه هي القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير وأصبحت سبب قيام حرب القرم.

ونتيجة التعديات الإمبريالية البريطانية والفرنسية والمسيحية الغربية والنشاط التبشيري في فلسطين، طالبت روسيا بأن تصبح حامي جميع المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية، وخاصة الفلسطينيين. كان هذا المطلب، الذي رفضته القوى الإمبريالية الأوروبية والعثمانيون، هو الذي عجّل بقيام حرب القرم. وبعد هزيمة روسيا، ضغط الفرنسيون والبريطانيون على العثمانيين لتقديم المزيد من التنازلات للمسيحيين العثمانيين والأجانب، فمنحت السلطنة المساواة الكاملة للرعايا المسيحيين وحرية المعتقد عام 1856.

تركزت مصالح روسيا في فلسطين على الطائفة الأرثوذكسية الفلسطينية من أهل البلاد، وعلى الحجاج الأرثوذكس الروس الذين يحجون إلى البلاد في عيد الفصح. وقد كانت الكنيسة الروسية قد أبدت قلقاً بالفعل، حيث تم استهداف المسيحيين العرب الأرثوذكس من قبل المبشرين الكاثوليك منذ القرن السابع عشر على الأقل، ومن قبل البروتستانت في القرن التاسع عشر. وقد كانت الطائفة الأرثوذكسية الفلسطينية فقيرة وعانت من الإهمال بسبب سيطرة رجال الدين اليونانيين المناهضين للعرب على كنيستها منذ الغزو العثماني.

كثف رجال الدين الفلسطينيون وأبناء الطائفة مقاومتهم ضد الحكم الفاسد لرجال الدين اليونانيين، لا سيما بعد انفصال اليونان واستقلالها عن العثمانيين في عشرينيات القرن التاسع عشر. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي سياق تنامي القومية العربية، تصاعدت الثورات الأرثوذكسية العربية ضد رجال الدين اليونانيين في جميع أنحاء سوريا وفلسطين

كثف رجال الدين الفلسطينيون وأبناء الطائفة مقاومتهم ضد الحكم الفاسد لرجال الدين اليونانيين، لا سيما بعد انفصال اليونان واستقلالها عن العثمانيين في عشرينيات القرن التاسع عشر. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي سياق تنامي القومية العربية، تصاعدت الثورات الأرثوذكسية العربية ضد رجال الدين اليونانيين في جميع أنحاء سوريا وفلسطين. وقد نجحت هذه الثورات، التي حظيت بدعم روسي، في الإطاحة أخيراً ببطريرك أنطاكية اليوناني واستبداله ببطريرك عربي. أما في فلسطين، فقد فشلت الثورة ضد اليونانيين.

سيكون للأرشمندريت الروسي أنطونين كابوستين، الذي وصل إلى فلسطين عام 1865 ومكث هناك لمدة ثلاثة عقود (أصبح مديراً للبعثة الروسية هناك عام 1869)، الأثر الأكبر على حياة المسيحيين الفلسطينيين والكنيسة الأرثوذكسية، لا سيما بعد شرائه أراض بين عامي 1866 و1870 لصالح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وقد بنى كابوستين الكنائس والنزل للحجاج والمدارس لأبناء الطائفة في جميع أنحاء فلسطين، من يافا إلى القدس إلى عين كارم.

وقد عارضه رجال الدين اليونانيون الفاسدون كما عارضوا أيضاً بناء المدارس والأنشطة الأخرى التي قامت بها جمعية فلسطين الإمبراطورية الأرثوذكسية (التي ضمت 40 فرعاً في جميع أنحاء روسيا)، والتي أنشأها القيصر ألكسندر الثالث في عام 1882، لكن الجمعية استمرت في بناء المدارس والكنائس المحلية حتى تاريخ حلها في عام 1917. وقد واظب المسؤولون الروس، بمن فيهم غريغوري راسبوتين في عام 1911، على زيارة فلسطين بشكل دوري لحل الخلافات بين رجال الدين الروس والدبلوماسيين الروس من جهة، والسلطات العثمانية ورجال الدين اليونانيين من جهة أخرى.

أما بعد توطيد الحكم الاستعماري البريطاني في فلسطين ورعاية لندن المباشرة للاستعمار اليهودي لفلسطين، فقد واصل المسيحيون الأرثوذكس الفلسطينيون نضالهم ضد المستعمرين الثلاثة: الإمبراطورية البريطانية والصهاينة ورجال الدين اليونانيين. وقد كان المفكر الفلسطيني المسيحي الأرثوذكسي البارز خليل السكاكيني قد كتب بالفعل هجوماً لاذعاً على البطريركية اليونانية في عام 1913 أدى إلى حرمانه وطرده من الطائفة.

أسفرت الحرب العالمية الأولى والغزو البريطاني عن تدمير ممتلكات الكنائس وتدمير الريف، وهو وضع أصبح أكثر خطورة مع توقف الأموال التي كانت تأتي من البلقان وروسيا ومن الحجاج الروس، وهذا ما اضطر البطريرك داميانوس لأخذ قروض بنكية كبيرة. وقد ناشدت "أخوية القبر المقدس،" اليونانية العضوية والمناهضة للعرب، الحكومة اليونانية لإنقاذ الوضع، وحصلت على قرض جديد من بنك اليونان، كما دعت الدولة اليونانية للسيطرة على الكنيسة الفلسطينية. أصدر رجال الدين اليونانيون عدة قرارات صدرت في أثينا أكدت على "الطابع الهيليني للبطريركية"، التي لم تعد مسؤولة فقط أمام الكنيسة الأرثوذكسية "ولكن أضحت أيضاً مسؤولة أمام الحكومة اليونانية".

وفي سياق الاحتجاجات الفلسطينية ودعوات التعريب من قبل أبناء الطائفة، عارض البريطانيون هذه القرارات واستبدلوا القرض اليوناني بقرض بريطاني. وفي عام 1921، أنشأ البريطانيون لجنة تحقيق حاولت معالجة المشكلات المالية فقط -ولكن ليس السيطرة الأجنبية على الكنيسة- وأنشأت لجنة بريطانية/ يونانية للسيطرة عليها. لم يثق البريطانيون بالمسيحيين الفلسطينيين من أهل البلاد خشية أن يقوم الأخيرون بدعم روسيا أو إيطاليا أو فرنسا (اعتماداً على ما إذا كانوا أرثوذكس أو كاثوليك)، وصدوهم باعتبارهم أقلية "ضئيلة". وكان المسيحيون الفلسطينيون يشكلون في تلك الفترة أكثر من عشرة في المائة من سكان فلسطين، أغلبهم من الأرثوذوكس.

اشتدت المعارضة الفلسطينية للسيطرة اليونانية مرة أخرى عندما أصدرت البطريركية بيانات دعم للصهيونية ولوعد بلفور في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وبدأت في بيع مساحات كبيرة من أراضي الكنائس في القدس للصهاينة. وقد طالب الفلسطينيون الأرثوذوكس بحق تقرير المصير

اشتدت المعارضة الفلسطينية للسيطرة اليونانية مرة أخرى عندما أصدرت البطريركية بيانات دعم للصهيونية ولوعد بلفور في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وبدأت في بيع مساحات كبيرة من أراضي الكنائس في القدس للصهاينة. وقد طالب الفلسطينيون الأرثوذوكس بحق تقرير المصير، الذي كان قد نادى به الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى، للسيطرة على كنيستهم ولكن دون جدوى.

ونظموا في تموز/ يوليو 1923 المؤتمر الأرثوذكسي العربي الأول للرد على الممارسات الفظيعة للبطريركية والبريطانيين والصهاينة، مطالبين بتعريب الكنيسة. وقد سعوا لإعادة تسمية البطريركية بـ"بطريركية القدس الأرثوذكسية"، وطالبوا بالعضوية العربية في "أخوية القبر المقدس" المحصورة باليونانيين وفي المناصب الكنسية العليا، وبالسيطرة الكاملة على أموال الكنيسة والمدارس والأوقاف، وتعريب الطقوس الكنسية، والمحاكم الدينية، واشتراط معرفة اللغة العربية كشرط مسبق للأساقفة والكهنة. ووجهت قرارات المؤتمر انتقادات لرجال الدين اليونانيين واصفة إياهم بأنهم "أجانب لغةً وبلداً"، واتهمتهم بأنهم "انتزعوا منذ أربعة قرون السلطة الروحية من الأرثوذكس العرب".

وبعد وفاة البطريرك اليوناني داميانوس، الموالي للصهيونية والبريطانيين، في آب/ أغسطس 1931، عقد أبناء الطائفة مؤتمراً آخر على أمل إجبار القيادة الدينية اليونانية على استبداله بفلسطيني. أيد المؤتمر الأهداف الفلسطينية المناهضة للاستعمار، بما في ذلك الاستقلال ومعارضة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وقد رفض رجال الدين اليونانيون المطالب الفلسطينية واختاروا تيموثاوس اليوناني بطريركاً في عام 1935، مما أدى إلى تأجيج المشاعر المعادية لليونانيين، فقام شبان فلسطينيون أرثوذكس بالهجوم على الرهبان اليونانيين في الشوارع وأبرحوهم ضرباً. أما تيموثاوس، الذي كان معادياً لأبناء الطائفة الفلسطينيين، فقد رفض التنازل عن أي شيء للطائفة الأرثوذكسية الفلسطينية، ولم يتم تنصيبه حتى عام 1939، لكن الفلسطينيين رفضوا الاعتراف به. ولم يتغير الوضع بعد تقسيم القدس بين إسرائيل والأردن بعد الغزو الصهيوني عام 1948.

استمر المغتصبون من رجال الدين اليونانيين في البطريركية باستخدام هذه الأراضي لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسياسية. ومع استمرار بيع الأراضي، هاجم المسيحيون الفلسطينيون الأرثوذوكس في عام 2018 البطريرك اليوناني أثناء زيارته لكنيسة المهد في بيت لحم احتجاجاً على ذلك

وفي سياق استمرار رجال الدين اليونانيين في الشطر الإسرائيلي في بيع وتأجير أراضي البطريركية للإسرائيليين، اقترحت الحكومة الأردنية قانوناً للبطريركية في عام 1957 استجاب إلى حد ما لمطالب أبناء الطائفة، على الرغم من أنه استثنى أي حقوق للطائفة في إدارة ممتلكات البطريركية. وبسبب اعتراضات البطريرك بنديكتوس (1957-1981)، تم وضع تشريع حل وسط في عام 1958. لكن القانون الجديد، شأنه شأن اقتراح عام 1957، لم يمنح الطائفة دوراً رسمياً في إدارة أراضي الكنيسة.

أما على الجانب الإسرائيلي، وفي أعقاب مؤتمر عقدته ثماني منظمات أرثوذكسية فلسطينية مختلفة في حيفا في حزيران/ يونيو 1963، فقد طالبت المجالس الأرثوذكسية المتحدة بمنع البطريركية من بيع أراضيها وعدم السماح للأموال بمغادرة البلاد، ولكن دون جدوى.

واستمرت المقاومة دون هوادة. وفي نهاية التسعينيات، نظم المسيحيون الأرثوذكس الفلسطينيون في القدس والناصرة ويافا وبيت لحم تظاهرات للمطالبة بدور في إدارة ممتلكات الكنيسة. وعلى مدى العقد التالي، أثارت المؤتمرات الأرثوذوكسية في القدس وعمان والناصرة مسألة بيع الأراضي لإسرائيل وللمستوطنين اليهود. وفي مؤتمر القدس عام 1992، طالبت لجنة المبادرة العربية الأرثوذكسية مرة أخرى بمزيد من السيطرة على ممتلكات الكنائس وأصرت على أن هذه أراضي فلسطينية يعتبر بيعها خيانة وطنية. وفي عام 2001، قدم المجلس الوطني الأرثوذكسي التماساً إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لإلزام البطريركية بإعادة تشكيل المجلس المختلط الذي دعت إليه الإصلاحات العثمانية عام 1856، وكذلك الأوامر العثمانية لعامي 1910 و1912 التي نقلت السلطة إلى أبناء الطائفة، ولكن دون جدوى.

يواصل المجتمع الفلسطيني المسيحي الأرثوذكسي النضال ضد الاستعمار المزدوج، الصهيوني منه واليوناني، واستيلاء رجال الدين اليونانيين على أراضيهم وكنائسهم. أما القمع الذي يتعرضون له فهو قمع يتشاركون فيه مع إخوتهم الفلسطينيين المسلمين الذين يخوضون مثلهم النضال ضد استيلاء إسرائيل على أراضيهم وأماكنهم المقدسة

في غضون ذلك، استمر المغتصبون من رجال الدين اليونانيين في البطريركية باستخدام هذه الأراضي لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسياسية. ومع استمرار بيع الأراضي، هاجم المسيحيون الفلسطينيون الأرثوذوكس في عام 2018 البطريرك اليوناني أثناء زيارته لكنيسة المهد في بيت لحم احتجاجاً على ذلك. وقد أدت صفقات مماثلة إلى استيلاء مستوطنين يهود متعصبين الشهر الماضي على جزء من فندق تملكه البطريركية في القدس.

يواصل المجتمع الفلسطيني المسيحي الأرثوذكسي النضال ضد الاستعمار المزدوج، الصهيوني منه واليوناني، واستيلاء رجال الدين اليونانيين على أراضيهم وكنائسهم. أما القمع الذي يتعرضون له فهو قمع يتشاركون فيه مع إخوتهم الفلسطينيين المسلمين الذين يخوضون مثلهم النضال ضد استيلاء إسرائيل على أراضيهم وأماكنهم المقدسة. وبينما أظهرت أحداث الأسبوعين الماضيين مساعي إسرائيل الحثيثة للسيطرة على الأماكن المقدسة للفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، فقد أظهرت أيضاً أن المقاومة الفلسطينية لا تزال صامدة وبلا هوادة في مواجهة عنف الدولة الإسرائيلية المستمر وعنف مستوطنيها الغاصبين.