قضايا وآراء

إفلاس النخبة وإدمان ألاعيب النظام المستبد

إبراهيم الديب
1300x600
1300x600
لي تسعة أصدقاء جمعتني بهم دروب الحياة وقهر الاستبداد، بعد خروجهم من معتقلات الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينيات والألفية الثانية وربما الألفية الثالثة، اعتادوا الاجتماع سويا كل فترة على مقهى الوهم بشارع السراب بمدينة الخيبة.

اجتمع المفلسون التسعة (إخواني وسلفي وجهادي وعلماني وليبرالي ويساري وإشتراكي وقومي) ومستقل لكل منهم عقل وطريقة تفكير وأحلام وأوهام متنوعة، ولكنهم متفقون ومشتركون في الإفلاس وذلك سر تماثلهم واجتماعهم. كلهم يجيدون الخطابة وإطلاق الشعارات وبطبيعة الحال، وفي وقت واحد يغمضون أعينهم ويتحدثون بصوت عال فلا تستطيع تبين وتمييز حديث أحدهم من الآخر، مغمضين أعينهم منطلقين بخيالهم كل منهم في فضائه.. منهم من انطلق في الصحراء وبنى فيها قصورا، ومنهم من انطلق في البحر وصنع أساطيل، ومن من انطلق في الفضاء وصنع مركبات فضاء تقوده إلى السماء التاسعة، ويوجهه أحد الجالسين بأن السموات سبع فقط، فيجيبه بكل ثقة أنت مش فاهم ولا متابع الآن.. بقوا تسعا، ألم تر صديقنا الذي بجواري الذي يحدثنا عن انطلاقه في أعماق المحيط حتى بلغ قاعه وخرج من الجانب الآخر للكرة الأرضية؟!

هكذا هم أصدقائي التسعة الذين قادهم الإفلاس إلى هذه الحالة:

1- إفلاس في المعرفة حين اكتفوا بتحصيل معارفهم من قصص وحكايات سابقيهم عن ظلم العسكر بهم وثباتهم على تكرار فشلهم، وقصاصات الصحف وبوستات السوشيال ميديا، مستغنين بذلك عن الدراسة ودوام المطالعة والتثقيف والتدريب وتعزيز القيمة العلمية والفكرية المضافة.

2- إفلاس في الأفكار المتجددة حين اكتفوا بأفكار ونماذج السابقين.

3- إفلاس في المشاريع البديلة حين اكتفوا بالشعارات.

4- إفلاس في الخطط حين اكتفوا بتسليم الأمر للأقدار.

5- إفلاس في الوسائل والأدوات حين اكتفوا بالكتابة على منصات السيوشال ميديا وصناعة الإثارة والبحث عن الإعجابات وأعداد المتابعين. بطبيعة الحال هم نماذج مثالية للنظام المستبد، حيث سيصنعون حالة معارض وهمية وسرابا كبيرا يملأ فراغ ساحة الصراع السياسي في مصر، بعيدا عن الغضب والحراك الثورى المهدد لنظام الحكم ويحتفظ بهدوئه المعزز لحكم العسكر والاستبداد في مصر.

ومن ثم وجب على نظام العسكر المحافظة على هذه الحالة والاستثمار فيها والنفخ فيها وتضخيم الزيادة للتضليل، وسحب الجماهير لمربع الترويض الحكومي الممتد منذ 1952م.

بطبيعة الحال سيصدق أصدقائي التسعة أنفسهم حين يتهمهم النظام العسكري -طبقا لسياسة النفخ والتضخيم وصناعة البالونات- بأنهم قوة تشكل خطرا عليه، خاصة عندما يتناول بعضا من أعمالهم وتصريحاتهم ويرد عليها، عندها يكون منتهى أمل أصدقائي التسعة أن يتناولهم إعلام العسكر بالنقد والاتهام والسب والشتم بما يمثل لهم وثيقة اعتراف بالبطولة الوطنية، والقدرات الخارقة في مجابهة النظام العسكري، في حين أنها خدعة من النظام لتعزيز الوهم والسراب للشعب، والاستقرار له.

في هذا السياق، ومع تراكم وتصاعد الغضب والغليان الشعبي الحالي نتيجة لممارسات النظام، تتزايد مخاطر الانفجار الشعبي الطبيعي كرد فعل لما وصلت إليه غالبية الشرائح المجتمعية المهنية والعمرية من ضرر مادي ومعنوي وبؤس نتيجة للممارسات التي أصابت الجميع، في مقدمتها إفلاس الدولة وتفريطها وبيعها لأصول وإرادة الأمة المصرية، والفقر والجوع، وتكرار وانتهاك الحريات والحرمات العامة وكرامة وحقوق المواطنين والإهانات المتكررة للسيادة المصرية، بالإضافة إلى الممارسات الحكومية للتضييق على الشعائر الدينية ومحاربة الإسلام بجرأة وبجاحة غير مسبوقة.. الخ، عندها تتحرك أجهزة النظام العسكري الاستبدادي في اتخاذ سسلة من الإجراءات الدفاعية المباشرة وغير المباشرة لتحقيق الأهداف التالية:

- تشتيت أفكار الشعب في اتجاهات متعددة ومتنوعة تمنع اتحاده واحتشاده على ملف وقضية معينة.

- تخويفه بشيء ما يصرفه عن الغضب الذي يعيشه، وينقله إلى مربع آخر يبحث فيه عن الأمان والبقاء.

- امتصاص الغضب وتقويضه.

- تنفيس الغضب والنزول به إلى الحد المقبول.

- خلق وهم وسراب جديد مثير لجذب قطاعات من الشعب نحوه، والبعد عن مراكز صناعة الغضب باستخدام منظومة من الدجالين والنخب المزيفة والنخب المتخفية، يقومون بسلسة من الإجراءات السريعة لتنفيس وامتصاص الضغط، وتشتيت وتفريق الشعب والعودة لحالة السكون وإنقاذ النظام، من أهمها:

1- خروج بعض المعتقلين.

2- استدعاء النخب السياسية المزيفة المهترئة منتهية الصلاحية من ثلاجة النظام ومنحها فرصة ظهور.

3- عمل فعاليات وطنية عامة مزيفة، مثل إفطار الأسرة.

4- الدعوة الوهمية للحوار الوطني.

5- خروج ثعالب ودجالي النظام المتخفين بالزي المزور لبطولة المعارضة الوطنية تارة، والمحلل الفني المبدع تارة، لتنفيذ تعليمات النظام بتمرير بعض الضلالات والمفاهيم والأوهام المركزة والموجهة لتشتيت أفكار الشعب، وإطفاء الغضب المشتعل داخل نفسه.

6- تقديم المبررات المختلفة للأزمات الحالية، على وزن هناك أزمة عالمية في أسعار الغذاء.. الخ.

7- تقديم سلسلة من الوعود والشعارات الجوفاء.

النخب البركة وإدمان الوهم

عندما يبلغ الرجل الشيخوخة ويفقد الكثير من قدراته الجنسية، ترقيه زوجته فتمنحه لقبا ووظيفة جديدة: "كلك بركة يا أبو العيال يا غالي"، في إشارة محترمة منها إلى أنه تحول إلى بركة على أريكة في إحدى زوايا المنزل، ليتفرغ للشعائر التعبدية والدعاء لافراد الأسرة، مع الحسبنة على الظالمين، والمزيد من توصيف الواقع ومطالبة الآخرين بحله ورفع الظلم عنه.

وعبر طول حالة الإفلاس التي يعيشها أصدقائي التسعة، وبلوغ المعاش ودخول مرحلة البركة، لم يعد لهم إلا إدمان العيش في الوهم، والاستمتاع به، والدفاع عنه، والدعوة إليه وتأسيس روابط متخصصة فيه، والتبرير والتأصيل الديني المزور، وإصدار نشرات وكتب فيه، لتأهيل أجيال جديدة من الشباب وتحويلهم مبكرا إلى المعاش والبركة.

وبذلك نستطيع أن نتفهم عدة ظواهر غريبة يتكرر حدوثها الآن:

1- إعلان البعض استعدادهم وقبوله للحوار الوطني، في حين أنهم لم يُدعوا إليه أصلا، بل تم وسمهم بالأشرار ومجرمي الأرض، وتحميلهم أسباب كل أزمات مصر، والواجب تطهير كوكب الأرض منهم.

فبدلا من أن يوجه هؤلاء بوصلته لتحمل مسئوليتهم التاريخية، وتقديم روايتهم وبيان الحقيقة، ينصرفون عن الواجب فعله في اللحظة التاريخية الحالية إلى مربع إدمان الوهم.

مشهد مؤلم وساخر لمطلقة رمى بها زوجها على قارعة الطريق واتهمها بأبشع الاتهامات وقذفها فى شرفها وعقلها وأهلها وتاريخها وكل شيء، ثم هو يعلن بحثه عن عروس جديدة، فإذا بها تعلن ترحيبها بقبول دعوته لردها ثانية لعصمته!!

2- التقاط طعم النظام العسكري وبلعه، واعتبار ذلك فرصة يمكن الاستفاة منها، فيتحول إلى التنقيب في تحليلات وتصريحات ثعالب النظام عن كلمة معارضة للنظام، ليفكر في تأسيس علاقة ما مع هذه الثعالب ودعوتها للانضمام إلى قطار المعارضة، الوهمي وغير الموجود من الأساس.

3- إطلاق شعارات وهمية جديدة بفتح وتوسعة دائرة التواصل مع المتضررين من النظام، والذين خرجوا من حصة الداعمين له، والعمل على جذب شرائح جديدة من الغاضبين منهم مما سيؤدي إلى تآكل مساحة شركاء وداعمي النظام.

4- تخيل وهم جديد بتوسيع دوائر الخصومة بين معسكر 30 يونيو والسيسي، ولو في حده الادنى.

متى يكون ذلك جيد؟ ومفيدا وفاعلا؟

وتفنيدا لأوهام أصدقائي التسعة، نبين متى يكون ذلك جيدا ومفيدا وفاعلا، عندما تكون هناك أربعة أشياء أساسية:

1- وجود مشروع وإطار فكري ونظرية عمل حقيقية لمواجهة نظام العسكر، علما بأن هذه النظرية تأخر إعدادها منذ عام 1952.

2- وجود مشروع وطنى بديل يجيب على ثلاثة أسئلة أولية وأساسية، ثم يأتى بعدها بقية المشروع.

أولا: سؤال هوية الأمة والدولة المصرية؟

ثانيا: سؤال المشروع الاقتصادي لإنقاذ مصر؟

ثالثا: المشروع السياسي الواقعي لمصر في هذه المحطة التاريخية.

3- وجود كيان وطني موحد وحاشد لغالبية القوى الوطنية المصرية.

4- وجود قيادة ثورية ملهمة للشعب إما في شكل زعيم وطني كبير، أو حلم ومشروع وطني كبير.

الواجب فعله في هذه اللحظة التاريخية 2022م

أولا هام وعاجل:

1- لجنة وطنية لكتابة الرواية التاريخية المقابلة لرواية النظام المنقلب، والتي يحاول الانفراد بتوثيقها وفرضها على الشعب والتاريخ والهوية المصرية والأجيال التالية. سأشرح تفصيلا في مقال خاص المعايير والمكونات العلمية لهذه اللجنة اللازمة لكتابة تاريخ مصر من 2011م الى الآن.

ثانيا هام:

إعداد وتأهيل البدائل اللازمة لحاضر ومستقبل مصر، بديلا عن:

1- النظام العسكري المنقلب بأفكاره وشخوصه ومؤسساته.

2- بديلا عن التنظيمات الدينية والأحزاب الكرتونية.

3- بديلا عن النخب المزيفة التي تحولت إلى عبء حقيقي ثم إلى عميل مجاني لنظام الانقلاب.

4- بديلا عن أصدقائي التسعة، مع كامل الاحترام الإنساني لهم والشفقة عليهم.
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 03-05-2022 09:12 ص
*** إن تماشينا مع الكاتب في مناقشة تصوراته التي قدمها في قصته عن الشخصيات التمثيلية لأصدقائه التسعة، الممثلين والمعبرين عن مختلف التيارات السياسية والفكرية في مصر عبر تاريخها الحديث، فهو رغم اعترافه بما حصلوه من خبرة عبر مسيرتهم الطويلة في "دروب الحياة"، وإقراره بثباتهم واستمرارهم في مواجهة"قهر الاستبداد"، رغم ما نالهم من اعتقال ومصاعب في رحلة حياة استمرت للسبعين سنة الأخيرة من تاريخ مصر حتى وقتنا الحالي، فهو يصفهم كلهم "بالوهم والسراب والخيبة والإفلاس"، كما يعمم وصف كل أفكارهم بأنها شعارات فارغة، كما ينعتهم "بالشيخوخة وفقدان القدرات الجنسية"، وهو موقف عدائي مغرض من الكاتب ضد كل التيارات والشخصيات الفكرية والسياسية في مصر، ودعوة للتفرقة والاستئصال، بما يدل على جهل ونزق وغرور، لعجز الكاتب عن التعاون والاستفادة من خبراتهم العملية الطويلة، والبعد عن ما وقعوا فيه من أخطاء وكبوات، والبناء على إيجابياتهم وتجنب سلبياتهم، والأدهى أنه يعتبر نفسه هو وحده ذو الرؤية الصائبة والرأي السديد والكلمة الماضية، والقادر الوحيد على تعريفنا "الواجب فعله في هذه اللحظة التاريخية"، وعلينا أن نستمع إليه وحده، وهي نفس قولة الجنرال المنقلب المسخ الدجال، ويطالب غيره بالاعتزال ومغادرة الساحة بل والدنيا كلها، ليخلوا له الطريق إلى "قيادة ثورية ملهمة للشعب إما في شكل زعيم وطني كبير، أو مشروع وطني كبير"، وأوهام الزعيم الوطني الكبير الواحد الواجب الاصطفاف وراءه وطاعته المطلقة، لو كان قد تعلم من تاريخنا، لعلم ما عانينا منه كثيراُ من أيام المقبور ناصر، ومن قبله ومن بعده، من الزعامة الواحدة الملهمة التي تحتكر الحديث والتخطيط والقرار، كما أن المشروع الوطني الكبير المدعى ثبت فشله على مر تاريخنا، لان الساحة تتسع والحاجة ملحة لنشطاء كثر ومشروعات صغيرة مختلفة، يخدم بعضها بعضاُ، ولا تتعارض ولا تتضاد فيها جهود الأفراد والجماعات المتعددة.