كتاب عربي 21

تركيا ـ السعودية.. خارطة طريق لما بعد التطبيع

علي باكير
1300x600
1300x600

أنهت الزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية التركية إلى الرياض نهاية شهر أبريل/ نيسان الماضي، وذلك للمرة الأولى منذ حوالي خمس سنوات، القطيعة التي كانت قائمة بين البلدين في السنوات القليلة الماضية على خلفية اغتيال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018. وبالرغم من التطور الإيجابي الذي حصل، إلا أنّ هناك تساؤلات حول مدى جدّية هذه المصالحة، وعمّا إذا كانت ستفتح المجال بالفعل أمام عودة العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه سابقاً، أو ستفضي ربما إلى نقلها إلى مستوى جديد مستقبلاً. 

هذه التساؤلات تستند إلى عدّة مؤشرات سبق وأن أشرنا إلى بعضها في مقال بعنوان "تطبيع العلاقات التركية ـ السعودية.. ما لم يُقل"، لكن بغض النظر عنها، إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية لفتح صفحة جديدة سيكون هناك حاجة إلى إتخاذ إجراءات على ثلاثة مستويات سياسة وإقتصادية وأمنية ـ دفاعية. تحقيق التقدّم في هذه المستويات سيكون بدوره مؤشراً عكسياً على وجود مصداقية لعملية المصالحة التي جرت، وعلى وجود جدّية وإرادة سياسية للمضي قدماً. 

بمعنى آخر، الطرفان بحاجة إلى خارطة طريق للعمل على أجندة مشتركة تدشّن المصالحة بعد التطبيع، وتؤكّد على وجود رغبة وإرادة للإرتقاء بهذه العلاقة بما يحقق مصالح البلدين. ومن أبرز هذه الإجراءات:

أولا ـ على الصعيد الاقتصادي، يمتلك البدان إمكانيات ضخمة، فالاقتصاد التركي والاقتصاد السعودي يحتلان الصدارة دوماً في منطقة الشرق الأوسط. علاوةً على ذلك، فهما يمتلكان خصائص تتيح لهما تحقيق تكامل إقتصادي على أعلى مستوى. وبالرغم من هذه الميزات، فإنّ مؤشرات التبادل التجاري والاستثمار والسياحة بين البلدين ضعيفة للغاية ولا ترقى إلى ما يمتلكه البلدان من قدرات، ولا إلى ما تحققه تركيا في هذه المؤشرات مع دول أخرى. 

المؤشرات الاقتصادية والاستثمارية على سبيل المثال بين تركيا ودولة مثل الإمارات أكبر بكثير من تلك القائمة بين تركيا والسعودية حتى عندما كانت العلاقة مع أبو ظبي سيئة للغاية ومع الرياض جيّدة للغاية. لذلك، هناك حاجة للعمل على تشجيع التعاون الاقتصادي بشكل كبير وعميق. ويعتبر هذا الجانب المؤشّر الحقيقي الأوّل على مدى الجدّية في تطبيع العلاقات. علاوةً على ذلك، فان رفع مؤشرات التعاون الاقتصادي بشكل سريع وكبير من شأنه أن يساعد على استقرار العلاقة على أساس المصالح المشتركة وتسريع التعاون في المجالات الأخرى. كما من شأن العنصر الاقتصادي أن يخفف من تأثير العناصر الأخرى فيما اذا كان هذا العنصر فعّالاً ويؤخذ بعين الإعتبار في عملية صناعة القرار وتقييم العلاقات الثنائية بين البلدين.

ثانيا ـ على الصعيد الأمني، هناك العديد من الملفات ذات الطابع الثنائي والإقليمي التي يمكن للطرفين العمل معاً عليها. مكافحة الإرهاب والميليشيات المسلّحة على سبيل المثال هو واحد من هذه الملفات. تركيا من الدول القليلة حول العالم التي تمتلك قواتها المسلحة خبرة عميقة في مجال الحروب التقليدية وغير التقليدية. وبالنظر إلى ما حققته من إنجازات في هذين المجالين في عدد من المسارح الجيوبوليتيكية الإقليمية الصعبة، من الممكن العمل على نقل الخبرات العميقة إلى الجانب السعودي الذي لم يقدّم حتى الآن من خلال الحروب القليلة التي خاضها ما يتناسب مع إنفاقه العسكري أو مع قدراته. 

 

العلاقات الشخصية مهمّة دوماً عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار في الدول الخليجية ولاسيما السعودية، إلاّ أنّ إهمال تعزيز الجانب المؤسساتي لهذه العلاقة يجعلها عرضة بشكل أكبر وأخطر للتقلّبات والأهواء الشخصية. بمعنى آخر، تعزيز الجانب المؤسساتي مطلوب لإعطاء العلاقة بعداً أعمق وأكثر استقراراً وإنتاجاً.

 



علاوةً على ذلك، تعتبر السعودية من أكبر دول العالم إنفاقاً على التسلّح، وهناك رغبة في تطوير قطاع محلي للصناعات الدفاعية. وبالرغم من أنّ هذا الهدف يبدو طموحاً للغاية، إلاّ أنّ الجانب التركي يمتلك الخبرات اللازمة لمساعدة الرياض على تحقيقه فضلاً عن التعاون طبعاً في مجال بيع وتصنيع الأسلحة. لكن على الرياض أن تبدي التزاماً جدّياً في التعاون إن كان لديها رغبة حقيقية، فالتجارب السابقة في هذا المجال كانت مخيّبة للآمال بسبب التردّد السعودي والانسحاب في كثير من الأحيان حتى بعد الاتفاق على بعض المشاريع الاستراتيجية.  

ثالثاً ـ على الصعيد السياسي، هناك أولويات فيما يتعلق بطبيعة العلاقات الثنائية يجب الاهتمام بها لأنّها ستعتبر الأساس الذي ستستند إليه هذه العلاقة على المدى المنظور، ومن دونها سيكون التصالح التركي ـ السعودي مجرّد شكليات ولا تأثير حقيقي له على العلاقات الثنائية. أولاً، هناك حاجة إلى تعزيز الطبيعة المؤسساتيّة للعلاقة.

 

صحيح أنّ العلاقات الشخصية مهمّة دوماً عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار في الدول الخليجية ولاسيما السعودية، إلاّ أنّ إهمال تعزيز الجانب المؤسساتي لهذه العلاقة يجعلها عرضة بشكل أكبر وأخطر للتقلّبات والأهواء الشخصية. بمعنى آخر، تعزيز الجانب المؤسساتي مطلوب لإعطاء العلاقة بعداً أعمق وأكثر استقراراً وإنتاجاً.

وفي الإطار السياسي، هناك حاجة إلى إنشاء آلية لاحتواء النزاعات التي قد تنشأ مستقبلاً بين الجانبين حول مواضيع ثنائية أو حول مواضيع لها علاقة بطرف ثالث. في منطقة الشرق الأوسط، يعتبر النزاع والتنافس هو الأساس وليس الاستثناء، لذلك من المنطقي توقّع بروز تحدّيات مستقبلية، ومن دون آلية لاحتواء و/ أو حل هذه النزاعات التي قد تنشأ، سيكون من الصعب الحفاظ على علاقة مستقرة ودائمة وقائمة على المصالح المشتركة. 

هناك ضرورة للفصل أيضاً بين الاقتصادي والسياسي والأمني وذلك للتخفيف من أثر التقلّبات الخارجية على العلاقات الثنائية، وهذا يعني أنّه إذا اختلف الطرفان على موضوع سياسي له علاقة بطرف ثالث، فإنّ الفصل بين الملفات سيساعد على استمرار العمل في المستويات الاقتصادية والأمنيّة الأخرى بشكل طبيعي. الوصول إلى هذا المستوى من النضج في العلاقة يحتاج إلى عمل كبير وطويل وإلى إرادة سياسية خاصة لدى الجانب السعودي.


التعليقات (0)