هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: وردة في صليب الحاضر ـ نحو عقد اجتماعي جديد وعروبة ديموقراطية
الكاتب: جاد الكريم الجباعي
الناشرون: دار الفرات للنشر والتوزيع ـ بيروت ـ ودار بترا للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى نهاية عام 2018
منذ فجر عصر النهضة العربية الأولى وحتى عصر النهضة العربية الثانية، انطوى مفهوم القومية العربية دوماً على معنيين مختلفين: فهو يحيل على أيديولوجية الوحدة العربية التي جسدتها كل من الناصرية والفكر البعثي من جهة، ويؤسس لمشروع النهوض القومي ذي المضمون التاريخي، والوحدة العربية كأحد ممكنات واقعنا العربي من جهة أخرى. والتاريخ هو توقيع الممكنات، أي تحويلها إلـى واقع .
فالمشروع القومي العربي الذي كان البعد الديمقراطي غائباً عنه خلال العقود الماضية، هو حركة جماع الأمة العربية في نزوعها إلـى التحرر والاستقلال والتقدم. وهو التاريخ الداخلي للأمة العربية، التاريخ المعوق بالاستعمار و الإمبريالية ولا سيما الأميركية منها، وبالاحتلال الاستيطاني الصهيوني. وهذا ما يجعل منه بؤرة أساسية من بؤر الصراع العالمي، ويجعل مستقبل النظام العالمي ونسق العلاقات الدولية مرتبطين بوتائر نموه واتجاهات تطوره، بقدر ارتباطه بهما.
ومنذ انهيار السلطنة العثمانية، وانهيار "الثورة العربية"، وقيام الحكم الاستعماري الشامل، في نهاية الحرب العالمية الأولى، شهد المغرب العربي عدة انفجارات استقلالية، وظلت قضية الوحدة العربية قضية خطابات وشعارات حتى أواخر الثلاثينات. ومنذ ذلك التاريخ نشأت حركات قومية عدة كان أهمها:
أ ـ حزب البعث العربي الاشتراكي ـ أوائل الأربعينيات وإن كان المؤتمر التأسيسي عقد سنة 1947 .
ب ـ حركة القوميين العرب ـ أوائل الخمسينيات .
ج ـ الحركة الناصرية ـ أواخر الخمسينيات .
وقد أسهمت هذه الحركات، حتى وهي تتصارع، في طرح قضية الوحدة، وفي نشر الوعي القومي، ولكنها عجزت أن تتحد على برنامج ثم عجزت عن تحقيق أية وحدة .
في عالم عربي يعاني التأخر التاريخي، ويعيش في ظل طلاق بين عالم السلطات الحاكمة وعالم المجتمعات العربية، من الصعب جدا على أي باحث أو كاتب أن يزحزح المقولات والمفاهيم التي ترسخت عبر عقود من الزمن، فضلا عن صعوبة تقبل نقدها وإعادة إنتاج مدلولاتها في نسق ديموقراطي جديد ورؤية ديموقراطية جديدة.
الصعوبة تكمن في غياب النقد/ ولا سيما النقد الراديكالي للمفاهيم والمقولات التي دأب الفكر السياسي العربي على اعتبارها من المسلمات إلى درجة أنها باتت من الصنم الذي يعبد. وآن الأوان لمراجعة كل أساسيات الفكر القومي العربي، ما يتعلق بالمفاهيم والمقولات الإيديولوجية:الايديولوجية: الأمة العربية، الوحدة العربية، الدولة القومية العربية، إذ أن حصاد أكثر من خمسين عاماً كاف لإصدار أحكام قطعية.
لماذا تراجعت الحركات القومية العربية؟
نقطة الانطلاق الرئيسة في هذا البحث النقدي من وجهة نظر الباحث السوري جاد الكريم الجباعي هي الإنسان المتعين، حسب استخدامه للمفهوم الهيغلي، الكائن العاقل والأخلاقي، الاجتماعي والسياسي، الذي ماهيته هي الحرية. "إذاً نقطة الانطلاق الرئيسة هي الحرية بخلاف جميع إيديولوجيات التحرر القومي والتحرر الاجتماعي وما إليها. الحرية في منظور البحث أهم من الأمة، وأهم من الوحدة العربية، وأهم من الدولة القومية، و أهم من الاشتراكية، وغيرها، لأنه ليس لهذه جميعاً ولغيرها أيضاً أي قيمة من دون الحرية ومن دون الكرامة الإنسانية" (ص 14 من المقدمة).
لماذا الحرية أهم من الدولة القومية، لأن الحركات القومية العربية التي عملت أو ادعت أنها بصدد بناء الدولة القومية، تراجعت في الميادين جميعها، ولاسيما في المواجهة مع الإمبريالية، والمشروع الصهيوني، وعلى الصعيد الدعوة والعمل للتغيير السياسي والاجتماعي لبناء الدولة الوطنية الديموقراطية، وعلى صعيد العمل الرسمي والسعي من أجل الوحدة العربية، حيث واكب ذلك انفصال وحدة 1958، وإخفاق المشاريع الوحدوية الأخرى، وحدوث انشقاقات وتصدعات في الحركات القومية.
فالدولة الوطنية الديمقراطية هي الشكل الجنيني للدولة القومية، وهي تجسيد للعقل والحرية، بل هي "ملكوت الحرية الموضوعية"، لأنها تستند إلى مفهوم سيادة الشعب، وسيادة القانون. لكن هل هذا هو واقع الحال في العالم العربي؟
عرب اليوم الذين يعيشون في ظل الدول التي قامت على أساس خريطة التقسيم الكولونيالي والولايات الموروثة من العهد العثماني، تختلف أشكال وجودهم عن أولئك العرب في الماضي. مع التأكيد أن هناك فرقا شاسعا بين مفهوم الماضي الذي هو عبارة عن تعاقب زمني، ومفهوم التاريخ بوصفه فعلاً بشرياً.
الوقائع تقول إن الحركات القومية التي وصلت إلى السلطة في البلدان العربية، تراجعت في المواجهة مع إسرائيل، بتبني شعارات التسوية، تحت أسماء مختلفة، وتراجعت عن شعار التحرير الذي كان شعارها بعد أن تغلبت دعوات التسوية و"التعقل" و"الواقعية" خلال العقود الأخيرة، وقادت المشروع القومي إلى الهزيمة تلو الهزيمة، بعد أن تغلبت الاتجاهات القطرية والطبقية الضيقة، وتحولها من تبني الأهداف القومية الأساسية إلى تبني أهداف قطرية محدودة، واحتدمت الصراعات داخل الحركات القومية احتداماً فرض معها معارك ضارية، ولا سيما بين سوريا والعراق، أضعف الحركة القومية والديموقراطية كلها، وخدمت أعدائها المختلفين. ولا غرابة في مثل هذه الظروف، أن هددت الحريات والكرامات في العالم العربي، واستشرى القمع، واتسع نطاق الاستغلال، وفقد أبناء الشعوب العربية حقوق المواطنة.
في بحثه النقدي الراديكالي، يقول الباحث الجباعي: "ما كان يسمى "حركة التحرر الوطني" العربية، وقد يطيب لبعضنا أن يسميها "حركة التحرر القومي" أو "حركة الثورة العربية"، أفصحت تباعاً في سياق التجربة العملية، عن جميع مكنوناتها وعن جميع خصائصها، وتبدو لنا اليوم جلية، لا في الأنظمة "القومية" الشمولية، وما جرته على بلدانها من خراب فحسب، بل في الأحزاب والتنظيمات الشمولية المعارضة و"المقاومة" أيضاً. فإن إمكانية احتلال العراق ودمار دولته كانت ثاوية في قاع "ثورة" الثامن من شباط 1963 وتحولاتها، وفي بنية حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي اغتصب السلطة واحتكر جميع مصادرها، منذ عام 1968، واحتكر جميع مصادر الثورة وجميع مصادر القوة، وأعاد تنسيق بنى المجتمع وفق نسقه الشمولي، ووفق المصالح الخاصة العمياء لطغم رعاعية سمسارة، ونهابة. وكانت ثاوية بالقدر نفسه، في بنى الأحزاب التي تحالفت معه، في "جبهة قومية"، ولم تكن هذه جميعا سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمع العراقي، الذي لا تزال جماعاته الإثنية والمذهبية والطائفية والعشائرية متحاجزة ومتفاصلة، كالزيت والماء" (ص22 ـ 23).
إن نقد الحركات القومية العربية ليس مجرد نقد أفكار وآراء يتفق المرء مع بعضها ويختلف مع بعضها الآخر، بل صار يفترض أن يكون نقدا للتجربة السياسية والأيديولوجية لهذه الحركات القومية العربية، التي أخفقت في حل مجموعة من المعضلات التي تواجهها حركة التحرر العربية، وهي:
ـ الإخفاق في إقامة علاقة صحيحة مع الشعب، وانتهاج سياسات غير ديموقراطية بمجملها، حيث طغت مظاهر التسلط والاستبداد والطغيان واحتقار الشعب.
ـ ازدراء كل ما هو عام ومشترك بين جميع مواطني الدولة المعنية، حيث أنتجت الحركات القومية العربية نوعاً من ثقافة جماهيرية هي ثقافة الاستبداد، وثقافة الخوف.
ـ لقد حلت الثورة محل الدولة، وحلت إرادة القيادة الثورية الخاصة، ثم إرادة القائد الفرد، "القائد الملهم" محل الإرادة العامة.
ـ وعجزت عن انتهاج سياسة تنموية سليمة، تقود إلى تنمية الموارد، وبناء زراعة وصناعة تحققان المزيد من الاكتفاء، ووقف نزف المواد الخام، واستيراد السلع المصنعة والمواد الغذائية. لقد أخرجت المجتمع الأساسية من عالم السياسة ومن عالم الثقافة وتعطلت عملية الإنتاج الاجتماعي تحت عنوانات: التأميم الاشتراكي ومجابهة الامبريالية والصهيونية والرجعية. ولهذا المسار مغزى آخر هو تذرير المجتمع وتفكيك عرى التضامن والتكافل بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية. وقاد كل ذلك إلى انحلال الروابط الوطنية، التي كانت آخذة بالتشكل في العهد الليبرالي القصير، بعيد الاستقلال، وتعمق الظاهرة الجماهيرية، ونموها طرداً مع تغول السلطة وتوحشها.
احتكار تمثيل الأمة وتحول الحركات القومية إلى مذاهب مغلقة
يتخذ الناقد جاد مصطلح "النزعة الكلبية" للتعبير عن الطغيان الذي أزهق روح الشعب وجفف منابع الإبداع، على كل صعيد. ويعتبر أنَّ النزعة الكلبية ونزعة التقوية تلبستا الأحزاب الشمولية، على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية: القومية والماركسية، والإسلامية، وصارت من أبرز خصائصها.
يقول: "جذر النزعة الكلبية والنزعة يكمن في عقيدة القوميين والإسلاميين والاشتراكيين أو في اقتناعهم الذاتي، أنهم مناضلون في سبيل "الأمة العربية" وفي سبيل "القومية العربية" و"الوحدة العربية" أو في سبيل "الأمة الإسلامية" و"الدولة الإسلامية" أو في سبيل دكتاتورية البروليتاريا وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان وأنهم قد نذروا أنفسهم لهذه القضية، وإن هذا النضال يمنحهم حقا مطلقا في تحديد مبادئ الحق والأخلاق وفق اقتناعهم الذاتي، لتغدو هذه المبادئ مبادئ قومية أو ثوابت قومية خاصة وحصرية لا تمت بصلة إلى المبادئ الاجتماعية والإنسانية شأنها في ذلك شأن المبادئ والثوابت "الإسلامية" لدى الجماعات الإسلامية والمبادئ الاشتراكية لدى الأحزاب الشيوعية" (ص 26).
ويضيف الناقد جاد قائلا: "الحزب القومي يتماهى مع "الأمة العربية" في هوية واحدة، حتى لا يعود من وجود خارج حدوده، والجماعة الإسلامية تتماهى مع "الإسلام" في هوية واحدة، فتصير "عقيدتها"هي حدود الدين القويم، وتصير هي وحدها "الفرقة الناجية"، والحزب الشيوعي يتماهى مع "الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين" في هوية واحدة فيصير هو الحزب "الثوري" الوحيد وحامي حمى العقيدة الماركسية اللينينية" (ص 27).
في عالم عربي يعاني التأخر التاريخي، ويعيش في ظل طلاق بين عالم السلطات الحاكمة وعالم المجتمعات العربية، من الصعب جدا على أي باحث أو كاتب أن يزحزح المقولات والمفاهيم التي ترسخت عبر عقود من الزمن، فضلا عن صعوبة تقبل نقدها وإعادة إنتاج مدلولاتها في نسق ديموقراطي جديد ورؤية ديمقراطية جديدة.
على أن نظرة الاتجاه القومي إلى غير القوميين لا تختلف عن نظرتهم إليه. فالقوميون كانوا وربما لا يزالون يرون أن كل من ليس منهم ليس من الأمة التي يحتكرون حق تمثيلها والتحدث باسمها كما يحتكر الإسلاميون مثلاً حق تمثيل الإسلام والتحدث باسمه.
وبذلك تحولت الاتجاهات الإيديولوجية والأحزاب السياسية إلى مذاهب مغلقة أسهم انغلاقها في إضعاف قوى الأمة وتفتيتها، وحال دون وعي حقيقة أن كل حزب أو تيار هو جزء من الكل الاجتماعي، جزء من الأمة، محكوم به أو بها أي بالأمة حكم الجزء بالكل. وإنه ليس لأي حزب أو اتجاه أو تيار حق تمثيل الشعب كله أو الأمة كلها. لأنه لا يمكن أن يكون كذلك في الواقع، وإلا كنا خارج المنطق والمعقولية.
فالرؤية التي تنصب نفسها كلاً أو تحل نفسها محل الكل هي رؤية استبدادية لا ينجم عنها في المحصلة سوى تدمير الكل وتدمير نفسها أيضاً. هذه الرؤية الحصرية، الواحدية السائدة في صفوف الحركة السياسية العربية على اختلاف مشاربها ومناهجها وبرامجها، حالت دون تحقيق توافق أولي ومبدئي على القضايا الأساسية للأمة. وحالت بالتالي دون تحقيق إجماع وطن/ قومي على أي أمر من الأمور، وذلك لغياب مرجعية وطنية/ قومية تنجدل التعارضات الاجتماعية على محورها. وتنضبط المرجعيات الإيديولوجية على إيقاعها. التيارات السياسية الأساسية في العالم العربي اليوم تتبنى رؤية حصرية وإيديولوجيا حصرية، تطرد الآخر من عالمها ولا تنظر إلى الاختلاف إلا على أنه مروق وكفر وإضعاف لوحدة الجماعة في أحسن الفروض.
في ثنايا هذا البحث المعمق الذي يتسم بالنقد الراديكالي للمقولات الأيديولوجية القومية، يركز الباحث جاد على المسألة الديموقراطية، لكنه لا يعير اهتماماً كافيا للمسألة القومية والمسألة الوطنية، بل إنه يصل إلى خلاصات تناقض قناعات الباحث جاد نفسه الذي ظل يدافع عنها لعقود، ولا سيما المشروع القومي الديموقراطي، الذي يعتبر أهم خاصية فكرية وسياسية في مدرسة المفكرين الراحلين ياسين الحافظ وإلياس مرقص اللذين أسهما في إنشاء حزب العمال الثوري، الذي انتمى إليه الأستاذ جاد سابقا.
فالأمة العربية التي حولها الفكر القومي إلى صنم يعبد، ليس لها من وجود عياني بالنسبة للباحث جاد، لأن وجودها العياني يفترض أن يتجسد ماديا في إطار دولة قومية مركزية، هي الدولة ـ الأمة بالمعنى البرجوازي الحديث، وهذا ما عجزت عن تحقيقه الحركات القومية العربية التي وصلت إلى السلطة. بينما العرب يعيشون منذ أكثر من ألف سنة، أي من عصر المماليك إلى العصر العثماني، رعايا، ولاسيما في ظل الامبراطورية العثمانية. وعرب اليوم الذين يعيشون في ظل الدول التي قامت على أساس خريطة التقسيم الكولونيالي والولايات الموروثة من العهد العثماني، تختلف أشكال وجودهم عن أولئك العرب في الماضي. مع التأكيد أن هناك فرقا شاسعا بين مفهوم الماضي الذي هو عبارة عن تعاقب زمني، ومفهوم التاريخ بوصفه فعلاً بشرياً.
لقد سقط الباحث جاد في موقف اللحظة التاريخية، حين وضع مقولة العروبة الحضارية التي تشمل استمرار اللغة العربية، والثقافة العربية، في معارضة مفهوم "الأمة العربية" و"القومية العربية" الذي تحول إلى ماهية خالصة. فالأمة العربية موجودة منذ آلاف السنين، وهي الأمة الوحيدة في العالم التي كان العنصر الثقافي هو المساهم الرئيس في خلقها واستمرار وجودها، على نقيض الأمة البرجوازية الحديثة التي كان العنصر الاقتصادي هو العامل الرئيس في اكتمال وجودها.