كتاب عربي 21

فرصة سانحة لإنشاء منطقة آمنة تركية في سورية

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600

بدأت الثورة السورية في سياق انتفاضات "الربيع العربي" الشعبية 2011، التي أطاحت بأنظمة سلطوية، لكن الانتفاضة الشعبية في سوريا ضد الاستبداد والفساد، سرعان ما تحولت إلى حرب وكالة، وأصبحت أكبر منطقة جاذبة للمقاتلين الأجانب، وباتت قبلة للجهاديين المعولمين على اختلاف أصنافهم.

وبحلول عام 2013، هيمنت سردية حرب "الإرهاب" على منظورات المجتمع الدولي، وفي إطار لعبة "الإرهاب" سحب نظام بشار الأسد قواته من المنطقة الحدودية الشمالية لسوريا بهدف صرف انتباه تركيا عن محاولة الإطاحة بنظامه، حيث سارعت "وحدات حماية الشعب" الكردية إلى الاستيلاء على تلك المناطق ذات الغالبية الكردية، وباتت أولوية تركيا ومهمتها الرئيسية في سوريا منع تشكل كيان سياسي أو "ممر إرهابي" -كما تسميه أنقرة- في سوريا للقوى المرتبطة بحزب "العمال الكردستاني" المصنف على قوائم الإرهاب، وفي مقدمتها "وحدات حماية الشعب" الكردية.

وقد طرحت أنقرة فكرة إنشاء منطقة آمنة/ عازلة للمرة الأولى عام 2014، ولم تكف عن محاولة فرضها منذ ذلك الوقت، لكن الظروف المتغيرة والتحولات المتعاقبة لم تكن تسمح لتركيا بتحقيق هدفها، فقد كانت تدرك أن محاولتها ستواجه بتحديات سياسية واقتصادية وعسكرية خطيرة إذا أقدمت على تنفيذ أهدافها بصورة أحادية. فالأطراف الرئيسية الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وسوريا وإيران لم توافق على رغبة أنقرة، وحذرتها من مغبة الإقدام على تنفيذ خطتها بشكل أحادي.

تبدلت كل الظروف والأسباب التي منعت تركيا على مدى سنوات من تنفيذ خطتها، وتبدو الفرصة سانحة من أجل إنشاء منطقة آمنة/ عازلة في سوريا، فروسيا منشغلة بغزو أوكرانيا، وهي بأمس الحاجة إلى تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الدول الأوروبية بأمس الحاجة أيضا إلى تركيا

لقد تبدلت كل الظروف والأسباب التي منعت تركيا على مدى سنوات من تنفيذ خطتها، وتبدو الفرصة سانحة من أجل إنشاء منطقة آمنة/ عازلة في سوريا، فروسيا منشغلة بغزو أوكرانيا، وهي بأمس الحاجة إلى تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الدول الأوروبية بأمس الحاجة أيضا إلى تركيا، التي قد تستخدم الفيتو ضد طلب كل من فنلندا والسويد بالانضمام إلى حلف "الناتو ".

وفي هذا السياق قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع برلماني في أنقرة في 1 حزيران/ يونيو 2022 إن "تركيا سوف تبدأ مرحلة جديدة لتأمين عمق 30 كيلومتراً لحدودها مع سوريا"، وأكد على أن "تركيا سوف تطهر تل رفعت ومنبج من الإرهابيين"، وأضاف أننا: "ننتقل إلى مرحلة جديدة في عملية إقامة منطقة آمنة من 30 كيلومتراً عند حدودنا الجنوبية. سننظف منبج وتل رفعت"، ووعد بالعمل "خطوة خطوة في مناطق أخرى". وقال أردوغان: "سنرى من الذي سيدعم هذه العمليات الأمنية المشروعة بقيادة تركيا ومن سيحاول معارضتها". وفي تصريحات لاحقة أكد أردوغان أن أنقرة لا تنتظر "إذناً" من الولايات المتحدة لشن عملية عسكرية جديدة في سوريا، وشدد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على "ضرورة" إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود السوريّة- التركيّة، وفق ما أعلنت الرئاسة التركيّة. وقال أردوغان إنه "من الضروريّ جعل هذه المنطقة آمنة".

يشير موقف الولايات المتحدة إلى رفص أي عملية تركيا في سوريا، لكنها ليست في وضع يسمح لها بالتدخل عسكرياً. وقد أوضح وزير الخارجية الأمريكية بلينكن موقف الإدارة الأمريكية، قائلاً: إن الولايات المتحدة تعارض أي توغل تركي، وحذّر من أن ذلك قد يؤدي إلى تقويض الاستقرار الإقليمي ويمنح فرصة للجماعات الإرهابية. وأضاف: "نواصل بشكل فعال مع شركائنا القتال ضد داعش في سوريا ، ولا نريد أن نرى أي شيء يعرّض الجهود المبذولة لمواصلة إبقاء داعش في المربع الذي وضعناه فيه، للخطر". وهو موقف يتماهى مع حليفتها قوات سوريا الديمقراطية وجناحها السياسي، مجلس سوريا الديمقراطية، التي عبرت عن احتجاجها على الهجوم التركي المخطط له، وادّعت في بيان وجود "مؤامرة تركية لتأسيس حزام أسود للتنظيمات الإرهابية" والربط مع مناطق انتشار هيئة تحرير الشام القوية، التابعة لتنظيم القاعدة سابقاً، وحرّاس الدين، المرتبطة مع القاعدة، في الفترة التي سبقت عملية أنقرة، وهي ذات الحجج والذرائع التي تؤسس لشرعية وجود قوات سوريا الديمقراطية التي تستند إلى مقولة حرب الإرهاب.
لا يزال موعد تنفيذ العملية العسكرية التركية التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإنشاء منطقة آمنة مجهولاً، وهو مرتبط بسلسلة من التفاهمات وشبكة معقدة من المقايضات بين موسكو وأنقرة، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا ذللت العقبات بين البلدين

لا يزال موعد تنفيذ العملية العسكرية التركية التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإنشاء منطقة آمنة مجهولاً، وهو مرتبط بسلسلة من التفاهمات وشبكة معقدة من المقايضات بين موسكو وأنقرة، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا ذللت العقبات بين البلدين. فتعطيل تركيا لمسار توسيع حلف شمال الأطلسي يلعب دوراً في استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإضعاف التحالف العسكري الغربي؛ الذي يعمل على مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا.

وقد تحدث أردوغان مؤخراً مع بوتين هاتفياً، واقترح عليه لعب تركيا دوراً في "آلية المراقبة" لإنهاء الحرب مع أوكرانيا، ومع ذلك لا تزال روسيا تدعم الحكومة السورية، التي تعتبر تركيا قوة احتلال غير شرعية. لكن حسابات أنقرة تفيد بأن روسيا لن تعارض العملية التركية، لحاجتها إلى الاحتفاظ بتركيا كشريك دبلوماسي في أوكرانيا.

تبدو كافة الظروف مواتية لتركيا للتموضع داخل الخلاف والنزاع الروسي الأمريكي لإنشاء المنطقة الآمنة، فالسياسة الخارجية التركية في سوريا اعتمدت على رؤية استراتيجية بعيدة المدى تستند إلى تكتيكات الشرائح المتتابعة التي تستخدم فيها أنقرة مهارات التفاوض، وسياسة التأرجح، والضغط، والتهديدات بهدف الحصول على ضوء أخضر روسي أمريكي للقيام بعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا. وهي استراتيجية بات تحقيقها ممكناً في ظل غزو روسيا لأوكرانيا وموقف أمريكا تجاه روسيا.
تبدو كافة الظروف مواتية لتركيا للتموضع داخل الخلاف والنزاع الروسي الأمريكي لإنشاء المنطقة الآمنة، فالسياسة الخارجية التركية في سوريا اعتمدت على رؤية استراتيجية بعيدة المدى تستند إلى تكتيكات الشرائح المتتابعة التي تستخدم فيها أنقرة مهارات التفاوض، وسياسة التأرجح، والضغط، والتهديدات بهدف الحصول على ضوء أخضر روسي أمريكي

ففي الوقت الذي ترغب فيه أمريكا بتوسيع الناتو فإن روسيا تهدف إلى تفكيكه، وقد تموضعت تركيا بين الطرفين بانتظار صفقة مع أحدهما أو كليهما، إذ تؤكد تركيا أنها لن تسمح بانضمام دول تدعم الإرهاب إلى حلف الناتو، وكانت السويد وفنلندا قد حظرت عام 2019 مبيعات الأسلحة إلى تركيا نتيجة الحملة العسكرية التي نفذتها ضد "وحدات حماية الشعب" الكردية في سوريا.

باستطاعة تركيا العضو في الناتو أن تمنع طلب الدولتين الشماليتين للانضمام للحلف؛ الذي يشترط الإجماع التام لأعضائه الثلاثين لقبول انتساب أي عضو جديد. وبالإضافة إلى فنلندا والسويد أوقفت تركيا المحادثات مع اليونان، العضو في الناتو، بعد شكوى أنقرة مما وصفته بانتهاكات اليونان لمجالها الجوي، وهي إشكالية أخرى مع الناتو تعزز الصفقة بين تركيا وروسيا.

لطالما أكدت تركيا أنها لن تسمح بتأسيس كيان وممر إرهابي على حدودها الجنوبية، واعتبرت ذلك بمثابة تهديد وجودي لأمنها القومي. ومنذ استيلاء "وحدات حماية الشعب" الكردية على المنطقة ذات الغالبية الكردية بعد انسحاب قوات النظام السوري، شكل الكيان الجديد قلقاً لتركيا، وباتت أولوية تركيا منع قيام كيان سياسي كردي في المنطقة والتي سُمّيت في البداية "روج آفا" ثم أعيد تسميتها عام 2018 بـ"الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا".

كانت الولايات المتحدة الأمريكية وراء إنشاء الكيان الكردي الجديد تحت مسمى "قوات سوريا الديمقراطية- قسد"، وحسب سونر چاغاپتاي، ساعدت "وحدات حماية الشعب" في إنشاء "قوات سوريا الديمقراطية"، وهو تحالف يقوده الأكراد واعتمدت عليه الولايات المتحدة بشكل كبير لمحاربة تنظيم الدولة منذ عام 2014.

وفي البداية، تساهلت أنقرة مع هذه السياسة الأمريكية، وحتى شاركت أيضاً في محادثات السلام مع "حزب العمال الكردستاني"، ولكن بحلول عام 2015، انهارت المحادثات واستأنف "حزب العمال الكردستاني" هجماته داخل تركيا. ونظراً إلى تنامي "وحدات حماية الشعب" في الوقت نفسه على مقربة من تركيا، أصبحت أنقرة ترى في تلك الجماعة السورية امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني"، واعتبرتها بالتالي تهديداً وجودياً. وعلى هذا الأساس، شنّ الجيش التركي منذ عام 2016 سلسلةً من العمليات داخل سوريا هدفت جميعها، بصورة كلية أو جزئية، إلى منع وصول "وحدات حماية الشعب" إلى الحدود.

ومن المعروف أن "وحدات حماية الشعب" هي الفرع المسلح السوري لـ"حزب العمال الكردستاني"، وهذا الأخير هو تنظيم كردي تركي مصنّف رسمياً على قائمة التنظيمات الإرهابية من قبل واشنطن وأنقرة وغيرهما من أعضاء حلف "الناتو".

شملت سلسلة العمليات التي نفذها الجيش التركي في سوريا لمنع قيام كيان كردي قوامه الاساس "حزب العمال الكردستاني"، المصنف على لوائح الإرهاب، الأولى "درع الفرات" في آب/ أغسطس 2016، وهي عملية هدفت إلى انتزاع جيب جرابلس من تنظيم الدولة ومنع "وحدات حماية الشعب" من إحكام قبضتها على طول الحدود. وانطلقت بعد أسبوعين من اجتماع أردوغان مع بوتين في سانت بطرسبرغ، ضمن صفقة بين روسيا وتركيا، سمحت لنظام الأسد بالسيطرة على مدينة حلب.

أما العملية الثانية "غصن الزيتون"، فقد أطلقتها تركيا في كانون الثاني/ يناير 2018، بعد صفقة مع بوتين، استهدفت جيب عفرين الخاضع لسيطرة "وحدات حماية الشعب"، مقابل السماح لنظام الأسد بالهجوم على الغوطة الشرقية والاستيلاء عليها.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2019 نفذت أنقرة عملية "نبع السلام"، واستهدفت هذه العملية مناطق "وحدات حماية الشعب" الواقعة في شمال شرق سوريا بين تل أبيض ورأس العين، وحصلت أنقرة على موافقة الرئيس ترامب.
الفرصة سانحة أمام تركيا لتنفيذ عملية إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، فقد وفرت الحرب الروسية الأوكرانية الظروف المثالية للشروع بتحقيق أهدافها في سوريا بمنع قيام كيان كردي تعتبره بمثابة ممر إرهابي يشكل تهديداً وجودياً لأمنها القومي

وأما العملية الأخيرة "درع الربيع" في شباط/ فبراير 2022، فقد جاءت بسبب قرار نظام الأسد باستهداف القوات التركية في محافظة إدلب، ودون صفقات.

خلاصة القول أن الفرصة سانحة أمام تركيا لتنفيذ عملية إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، فقد وفرت الحرب الروسية الأوكرانية الظروف المثالية للشروع بتحقيق أهدافها في سوريا بمنع قيام كيان كردي تعتبره بمثابة ممر إرهابي يشكل تهديداً وجودياً لأمنها القومي بقيادة حزب العمال الكردستاني وسلالاته السورية.

فعلى مدى سنوات لم تتمكن تركيا من التوصل إلى صفقة مع القوى الفاعلة الأمريكية والروسية، وكانت تقوم بعمليات محدودة بتفاهمات محددة، لكن كافة الظروف أصبحت مواتية لنقل الاستراتيجية التركية في سوريا إلى حيز التنفيذ، وذلك بالتموضع داخل الخلاف والنزاع الروسي الأمريكي. ولا يبدو أن أحدهما يستطيع التضحية بتركيا، بل إنهما يتنافسان على خطب ودها، ولذلك فالفرصة سانحة أمام تركيا لتحقيق أهدافها في سوريا، وهي سانحة أما أردوغان لتعزيز شعبيته وشعبية العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة، والتي تعاني بسبب الضغوطات الاقتصادية. فهل ينفذ أردوغان تهديده ويحسم أمره، أم أن سمة التردد التي حكمت السياسة الخارجية التركية ستبقى مهيمنة بانتظار عقد صفقات والحصول على تفاهمات، الفرصة مواتية الآن وقد لا تتكرر مستقبلاً؟

 

twitter.com/hasanabuhanya



التعليقات (0)