مع كل زيارة للشمال السوري المحرر يجد الزائر فرْقاً وتطوراً ملحوظاً عن زياراته السابقة، وبخلاف ما يواجهه الزائر في مخيمات الشتات من خيام بالية وأوضاع مزرية للذين هجّرهم الاحتلالان الروسي والإيراني ومعهما النظام الطائفي، فإن الصورة قد تكون مختلفة تماماً عند المدن والمناطق المحررة، من حيث
الخدمات البسيطة ولكن الأساسية التي توافرت لها، بخلاف مناطق النظام التي عجزت عن تقديمها، وعلى رأسها الكهرباء على مدار 24 ساعة، وكذلك المياه، وحتى خدمة نظافة الشوارع والأسواق.
زيارة المحرر في هذا الأيام أول ما تطالعك فيها خلايا النحل الذي تعيشه المنطقة نتيجة امتحانات الطلبة للشهادتين الإعدادية والثانوية، إن كان على مستوى العائلات التي لديها طلبة يقدمون امتحاناتهم لنيل الشهادتين، أو على مستوى الجهاز التعليمي المشغول على مدار الساعة بتوفير أجواء مريحة للممتحنين، حيث لم يسجل بفضل الله أي اختراق على مستوى الامتحانات، بخلاف الصور التي تم تداولها عن حالات الغش الجماعي في مناطق النظام، بل وظهرت صورة لشبيح وهو يقدم امتحان الثانوية وقد وضع مسدسه على الطاولة. وكانت قد انتشرت في السنوات الماضية حالات تسريب لأسئلة الامتحانات في مناطق النظام.
أكثر من 44 ألف طالب وطالبة يقدمون امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، ويبلغ عدد ممتحني الشهادة الأولى حوالي 26365 ألف طالب وطالبة، بينما عدد طلبة الشهادة الثانوية فيصلون إلى 17542 ألف طالب وطالبة بفروع العلمي والأدبي والشرعي، وهو ما سيضع تحدّيات كبيرة أمام توفير مقاعد دراسية جامعية لطلبة الثانوية، فضلاً عن فرص عمل للخريجين من جامعات المحرر في هذا العام وغيره، ولكن ظلت أجواء التوتر مع السعادة تخيم على الشمال السوري المحرر بسبب أجواء الانسيابية والسلاسة التي تمرّ بها عملية الامتحانات.
في مقابل ذلك ظلت الفعاليات الرياضية مستمرة في الشمال السوري المحرر من خلال عقد البطولات، والتي كانت آخرها بطولة الشهيد هاني العمر في بلدة تفتناز، حيث استقبل ملعبها الفرق الرياضية لمعظم الشمال المحرر، وسط حضور شعبي مميز، وحماس منقطع النظير. وفّر ذلك كله حالة من الفرح والسعادة وتفريج الكرب على المحرر، وعبر الجميع عن سعادتهم إزاء هذه الألعاب التي تخفف من التوتر والقلق، وتوفر أبواباً وسبلاً للتسلية والترفيه، اختصرها أحدهم لي بأن هذا الشعب يحب الحياة، وليس الموت فقط بعد أن ضحى بمليون شهيد، ويريد أن يثبت للعالم كله أن يريد الحياة ويريد أن يستمتع بمباهجها، ولعل حرصه على حضور ومشاهدة هذه البطولات أكبر دليل على ذلك.
ما شدّني هذه المرة في مدنية
إدلب الخضراء التي تعيش وسط كروم من الزيتون يقدرها البعض شجرها بأكثر من خمسة ملايين شجرة زيتون، هو التحسن في تنظيم المدينة، إذ تمكنت إدارة البلدية من تنظيف الأرصفة من كل الباعة المتجولين والبرّاكات التي شوّهت منظر المدينة لسنوات، وفتحت لهم بالمقابل أسواقا يومية في المدينة ليبيعوا فيها بحيث يستفيدوا مالياً، ولا يزعجوا المارّة ويشوهوا جمالية المدينة بنشرهم براكاتهم على الأرصفة التي يستعملها المارّة، فيرغمون على النزول إلى الشوارع فيضيّقون الطريق على السيارات والعربات، ويضيقون على أنفسهم.
حالة الحصاد مميزة هذه الأيام في الشمال المحرر، فالكل مهموم ومشغول بجني أرزاقه من القمح والشعير والفول والعدس، والحبة السوداء، وغيرها من المحاصيل، بالإضافة إلى جني محاصيل العُصفر وغيره، فتلمس الفرحة والبسمة على وجوه الجميع لاسيما وأن موسم هذا العام أفضل. فقد نجحت حكومة الإنقاذ في الشمال المحرر من تقديم قرض حسن للمزارعين للفلاحين وتضمن شراءهم لحبوب القمح والأسمدة، وحتى المحروقات لأصحاب مشروعات المياه، مما أراح المزارع بشكل كبير، وساهم في التخفيف عنه، وتشجيعه على الزراعة. ويتوقع الشمال المحرر أن تُسدّ حاجته هذا العام من القمح، إذ إن الحكومة عرضت شراء القمح بـ450 دولارا للطن الواحد، ومنعت خروجه من المحرر من أجل تأمين الحاجة قبل تهريبه إلى الخارج.
على صعيد الندوات والمحاضرات تتواصل فعاليات الندوات والمحاضرات والمؤتمرات بشكل شبه يومي، إن كان في جامعة إدلب، أو في جامعة الشمال، وكذلك كتاب كافيه الذي انطلق بفعاليات مميزة خلال الأشهر الماضية تتضمن قراءة كتاب شهري لمرتاديه، وهناك نشاطات مستمرة ومتواصلة في المركز الثقافي ومركز الخطابي، فضلاً عن النشاطات المتواصلة في مساجد المحرر بشكل عام.
المحرر الذي ينتظر استغلالاً للفرص من أجل توسيع هامشه، لإعادة ملايين اللاجئين إلى مناطقهم، هو المحرر الذي ينتظر اليوم فرصة الحرب في أوكرانيا وانشغال الروسي هناك عن الشمال السوري، وينتظر حتى معركة تركيا مع مليشيات قسد، لعلها تكون فرصة لتحرير أراض جديدة تمكن اللاجئين من العودة.