هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتسارع الأحداث هذه الأيام في تونس وتتطور بشكل ملحوظ في اتجاه مزيد التعقيد والغموض بسبب انعدام وضوح الرؤية السياسية وتفاقم حالة العجز الاقتصادي وتوتر الوضع الاجتماعي، حيث أصبحت البلاد على صفيح ساخن من الصراع العبثي الذي جعلها بكل مكوناتها السياسية والمجتمعية تدور في حلقة مفرغة لا يبدو ان لها مخرجا رغم ما حصل من تحول نسبي في ميزان القوى لصالح عودة الديمقراطية، من خلال عدة مؤشرات لعل أهمها حالة انسداد الأفق الرسمي في التعاطي مع الأوضاع.
فبدل البحث عن مخرج للأزمة المركبة التي كانت تعيشها البلاد وخاصة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي تم التوجه نحو معالجة سياسية انفرادية مجمعة للسلط ومدمرة لمؤسسات الدولة ومحدثة لفراغ سياسي رهيب في ظل أجندة يتراكم فشلها مع كل خطوة تخطوها من الاستشارة الإلكترونية إلى مسار الاستفتاء ومن هيئة الانتخابات إلى لجان الحوار وصياغة الدستور ثم إلى النص المنشور لدستور جاء مخالفا لكل ما استقرت عليه التجارب السياسية البشرية في كتابة مواثيقها الاجتماعية شكلا ومضمونا.. إضافة إلى العزلة التي أصبحت عليها الأطراف الداعمة للسلطة مقابل توسع الرفض والمعارضة في ظل حالة من القلق والغموض التي تعمق الخوف من المستقبل لدى الرأي العام وتؤكده نتائج استطلاعات الرأي ذات المصداقية.
والسؤال الأساسي الذي يمكن طرحه في هذه الفترة بعد مرور سنة تقريبا عما حدث في 25 تموز (يوليو) 2021 هو التالي: هل أوضاع البلاد الآن أسوأ مما كانت عليه السنة الماضية أم إنها أقل سوءا؟ أو بعبارة أخرى: هل تقدمت البلاد في اتجاه حل الأزمة أم في اتجاه مزيد تعقيدها؟
لقد بات من البديهي لدى كل متابع للشأن التونسي أن الأزمة الشاملة والمركبة التي تردت فيها البلاد إثر انتخابات 2019 وازدادت تفاقما سنة 2020 وفي النصف الأول من 2021 قد ازدادت تعقيدا وجعلت الأوضاع أكثر تدهورا وانفتاحا عن المجهول. هذه الخلاصة تطرح نقطة استفهام حول جدوى الاستمرار في مسار قد أثبتت كل الوقائع فشله وسيتأكد ذلك في 25 تموز (يوليو) الجاري.
إذن فلماذا المكابرة ومواصلة العبث والدوران في حلقة مفرغة دون تقدير للمخاطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
إن عودة قطار تونس إلى سكة الديمقراطية قد أصبح مصلحة وطنية وإقليمية ودولية وضرورة مجتمعية. والقول بعودة الديمقراطية لا يعني العودة إلى ما قبل 25 تموز (يوليو) 2021 ولا الاستمرار في مسار 25 تموز (يوليو) 2021، إنما هي العودة لأسس النظام الديمقراطي من احتكام للصندوق في ظل التقيد بالآليات والمعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة ومن فصل بين السلط في إطار وحدة الدولة ومن التزام بالمحافظة على الحقوق والحريات ضمن المواثيق والمعاهدات الدولية في إطار تعديلات ضرورية لدستور2014 .
إن الخروج من الأزمة مرهون بتوفر ثلاثة شروط متلازمة ومترابطة في شكل حزمة لا مفر منها ولا يصح اعتماد أحدها دون الآخر :
ـ أولها: الإصلاحات الاقتصادية لتجنب الإفلاس والانهيار وضمان تمويل المؤسسات المالية الدولية .
ـ ثانيها: الاستقرار السياسي لتجنب الفراغ وضمان الإيفاء بالإلتزامات تجاه كل الأطراف المعنية .
ـ ثالثها: هدنة اجتماعية توافقيةعلى قاعدة تقاسم الأعباء وضمان نجاح الإصلاحات لتجنب الفوضي والتوترات .
وعلى هذا الأساس فإن المصلحة الوطنية تقتضي المسارعة بدخول البلاد مرحلة جديدة للتأسيس لعودة الديمقراطية عبر حوار وطني فعلي وحقيقي لا يتجاوز نهاية السنة ولا يستثني أحدا وهذا يتطلب مغادرة نهائية لحالة التنافي والتشويه والهرسلة والإقصاء والتقسيم واستعداد كل الأطراف المعنية بالديمقراطية للتنازل وقطع خطوات نحو الالتقاء على برنامج حد أدني يؤسس لوئام وطني يتخلى فيه الجميع عن أوهامهم الإقصائية الاستئصالية أو رغباتهم في الهيمنة والاستفراد بالمشهد حتى وإن كان عبر الصندوق أو استعدادهم للتضحية بالديمقراطية وبالحرية مهما كانت المبررات.
إن عودة قطار تونس إلى سكة الديمقراطية قد أصبح مصلحة وطنية وإقليمية ودولية وضرورة مجتمعية. والقول بعودة الديمقراطية لا يعني العودة إلى ما قبل 25 تموز (يوليو) 2021 ولا الاستمرار في مسار 25 تموز (يوليو) 2021، إنما هي العودة لأسس النظام الديمقراطي من احتكام للصندوق في ظل التقيد بالآليات والمعايير الدولية..
لقد أصبحت المعارضة للانقلاب عن الديمقراطية أكثر اتساعا وتقاربا رغم اختلاف منطلقاتها وسقوفها ومواقعها السياسية والاجتماعية. والمسؤولية الوطنية تفرض عليها تحويل التقائها الموضوعي إلى التقاء فعلي سياسي وميداني مدني. يتطلب منها المبادرة بإعلان خطوات وإجراءات في علاقة أولا بالماضي المتعلق بما قبل 25 تموز (يوليو) والموقف منه والمسؤولية عنه بما يعني تقديم نقد ذاتي موضوعي ومنصف.
ثانيا بالحاضر المتعلق بما تعيشه البلاد والرؤية في كيفية تجاوزه بأقل ما يمكن من الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وثالثا بالمستقبل وكيفية بنائه دستوريا من خلال الصيغ الملائمة لتجنب البلاد كل المحاذير واقتصاديا واجتماعيا لوضع أسس الإنعاش الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
هذا في المستوى الوطني أما في المستويين الإقليمي والدولي فإن اسقرار تونس يهم جوارها المباشر أساسا وكذلك محيطها العربي كما يهم كل شركائها الدوليين على قاعدة احترام سيادتها الوطنية .
إن تونس اليوم أقرب ما تكون من تجاوز الأزمة والخروج من المأزق عبر الاستفادة من أخطاء الماضي والبناء عليها من أجل مستقبل يعود فيه قطارها إلى سكة ديمقراطية مستقرة تراكم على تجاربها الماضية وتحقق التنمية والازدهار وهي جديرة بذلك شعبا ودولة.. وكما يقال في الأمثال "اشتدي أزمة تنفرجي.. قد آذن ليلك بالبلجِ".. الأمل كل الأمل في انفراج قريب بوعي التونسيين وحكمتهم وخبرتهم التاريخية في القدرة على السير على حافة الهاية دون السقوط فيها!!!
*كاتب وناشط سياسي تونسي