مع نهايات سنة 2022 تعيش
تونس على وقع اختتام الأجندة
السياسة التي
كانت انطلاقتها أواخر سنة 2021 والتي أكد تنزيلها والتفاعل الشعبي مع مراحلها
الفشل الذريع للتمشي السياسي الرسمي في معالجة الأزمة، خاصة بعد نسبة المشاركة
المعلنة التي لم تتجاوز 12% في
الانتخابات التشريعية الأخيرة حسب إعلان الهيئة بعد
أن كانت 08،8% والتي عبرت عن رفض شعبي مطلق لمسار 25 تموز (يوليو) ومآلاته
الكارثية.
وبعيدا عن التهويل والتهوين فإن ما حصل غير مسبوق لأنه تجاوز أدنى
نسبة مشاركة في العالم 17,82% في هايتي و19% في أفغانستان ولا يمكن مقارنته بنسب
المشاركة في كل العمليات الانتخابية طيلة العشرية الماضية التي لم تنزل تحت 40%، الشيء
الذي جعل المعارضة رغم اختلافها وتشتتها تعتبرها نهاية مسار وتلتقي في الدعوة
لانتخابات رئاسية سابقة لأوانها .
فهل ستستقبل تونس سنة 2023 بآفاق تمكن من تجاوز الأزمة المتعددة الأبعاد
والخروج من عنق الزجاجة؟ وهل ستدرك جميع الأطراف دلالات المقاطعة السلبية التي
مارسها أكثر من 90% من تسعة ملايين ناخب مسجلين؟
يؤكد تطور الأوضاع في الأشهر الأخيرة مزيد تعمق حالة الانسداد على كل
المستويات السياسي منها والاقتصادي والاجتماعي، إذ ليس من الراجح أن يؤدي التمشي
الحالي إلى الاستقرار، فالبرلمان الذي سيتشكل إضافة إلى ما حف بعملية انتخابه من إخلالات
فإن نسبة المشاركة الهزيلة قد أسقطت نهائيا مقولة المشروعية الشعبية وأن كل محاولة
لفلسفة ما حدث أو تبريره بإلقاء المسؤولية على المعارضة أو الادعاء أن العملية لم
تنته بسبب وجود دور ثانٍ إنما هو من قبيل دس الرأس في التراب والهروب إلى الأمام
ومحاولة التغطية على الحدث .
لقد بات من الواضح أن اختزال معالجة الأزمة السياسية في خطوات وإجراءات
ومحطات انتخابية أحادية الجانب لم تنتج عن حوار وطني بين مختلف مكونات الساحة السياسية
والاجتماعية لوضع أسس لعقد اجتماعي جديد وخارطة طريق توافقية قد زاد الأزمة تعقيدا
ولن يحقق استقرارا سياسا قد بات ضروريا وملحا لبناء الثقة مع الشركاء الاقتصاديين
الدوليين.. وخير دليل عن ذلك تأجيل صندوق النقد الدولي النظر في مطلب القرض الذي
تقدمت به تونس والذي تكمن أهمية المصادقة عليه في فتح الباب للاقتراض من المؤسسات
المالية الدولية الأخرى وللقروض الثنائية.
أما بخصوص المعالجة الاقتصادية والاجتماعية للأزمة فإنها لا تختلف عن
المعالجة السياسية من حيث الأحادية والفوقية وإغلاق باب الحوار والغموض والتكتم عن
قضايا أساسية وحيوية تمس كل التونسيين دون استثناء والتمادي في رفع قميص عثمان وإلقاء
المسؤولية على العشرية الماضية التي كانت بداية نهايتها سنة 2019 عندما فقدت
النخبة الديمقراطية في البلاد البوصلة ثم تم إنهاؤها فعليا منذ 25 تموز (يوليو) 2021
رغم أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سنة 2020 لم تصل إلى ما آلت إليه الآن ولم
تكن مرشحة لذلك سنة 2021 وخاصة في علاقة بدرجة ثقة الشركاء الدوليين في التجربة
ودعمهم لها.
لقد بات من الواضح أن اختزال معالجة الأزمة السياسية في خطوات وإجراءات ومحطات انتخابية أحادية الجانب لم تنتج عن حوار وطني بين مختلف مكونات الساحة السياسية والاجتماعية لوضع أسس لعقد اجتماعي جديد وخارطة طريق توافقية قد زاد الأزمة تعقيدا ولن يحقق استقرارا سياسا قد بات ضروريا وملحا لبناء الثقة مع الشركاء الاقتصاديين الدوليين..
فهل منعت العشرية الماضية سلطة مطلقة الصلاحيات من النجاح في إقناع
الشركاء الدوليين بجدوى المسار الحالي؟ وهل منعتها أيضا من الحوار مع مسانديها قبل
معارضيها؟ ومن التصرف بتشاركية مع الهياكل المهنية والأطراف الاجتماعية في إعداد
مشروع قانون المالية؟ ومن مصارحة الشعب بما ينتظره من انعكاسات سلبية للإصلاحات
الاقتصادية المنتظرة في علاقة بالمؤسسات العمومية وبمنظومة الدعم والمقدرة
الشرائية؟ وهل أن العشرية قد حالت دون إعداد رؤية اقتصادية شاملة تندرج ضمنها الإصلاحات
الاقتصادية المتعلقة بالمؤسسات العمومية وبالدعم وغيرها من القضايا ذات العلاقة؟
منذ 2019 وبعد سنتين تقريبا من الترذيل والتعطيل وسنة ونصف من السلطة
المطلقة لا يزال فشل العشرية هو الشماعة التي يعلق عليها عجز اليوم.. وشتان بين
الفشل والعجر فالفشل يمكن أن يكون في لحظة ما حافزا للنجاح أما العجز فهو فقدان
القدرة على الحركة والمبادرة، وهو ما تعيشه تونس اليوم في ظل حالة من الغموض
المشوب بالخوف والترقب لانعكاسات قانون المالية، الذي يبدو أنه قائم على إثقال كاهل
المواطن بالجباية وأصداؤه السلبية تسبق صدوره وتلاقي رفضا واسعا من القطاعات
المهنية وهيئاتها مثل المحامين والعدول المنفذين والخبراء المحاسبين، ومن المنظمات
الاجتماعية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أصبح ظهره للحائط كما يقال، حيث
لم تعد تسعه سياسة المراوحة بين الموافقة الضمنية والرفض الحذر لإصلاح المؤسسات
العمومية ومنظومة الدعم التي حال دون المساس بها طيلة العشرية الماضية حتى وفق
المنهجية التي طرحها اي الدراسة حالة بحالة بالنسبة للمؤسسات والتناسب بين رفع
الدعم والمقدرة الشرائية.
وكذلك الأمر بالنسبة لمنظمة الأعراف بخصوص الإجراءات الجبائية
المنتظرة في قانون المالية وما يسمي بالصلج الجزائي والأوضاع المالية للمؤسسات في
ظل حالة من الركود الاقتصادي الدولي بسبب مخلفات جائحة الكوفيد وانعكاسات الحرب
الروسية الأوكرانية.
إلا أن العجز الذي تعيشه البلاد في هذه المرحلة ليست حالة رسمية فقط إنما
هو حالة عامة تعيشها المعارضة بكل مكوناتها التي تشكو ضعفا وتفككا وتشتتا غير
مسبوق ناتج عما أصابها من إنهاك بسبب الصراعات والتآكل الداخلي، فبدل أن تجتمع في إطار
واحد على برنامج حد أدنى ديمقراطي اجتماعي عساها تتحول إلى بديل سياسي يمكن أن
يكون مخاطبا للداخل وللشركاء في الخارج نجد طرفا منها مستمرا في تعامله الفوقي وأوهامه
الإقصائية الاستئصالية والطرف المقابل مستمر في نرجسيته ومكابرته التي أودت
بالتجربة.
وإلا مامعني أن يتحول النقد ذاتي والمراجعات التي تعتبر من أهم آليات
الديمقراطية إلى إملاءات وكأن الذي يملي غير معني قبل غيره بذلك يقابله رفض
بمبررات واهية من قبيل تحول النقد الذاتي إلى حجة للإدانة لدى الخصوم دون إدراك أن
المعني بنتائج المراجعات والتجديد هو المواطن قبل غيره، وأن المراجعة والاعتراف
بالخطأ من جوهر ثقافتنا الدينية قبل السياسية.
لهذه الأسباب وغيرها تحنطت "جبهة الخلاص" بتحنط عمودها الفقري "النهضة"
التي تمنعها توازناتها الداخلية من تجاوز مأزقها التاريخي الذي تعيشه ويعيشه أمثالها
من حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية في المنطقة بعد نهاية الربيع العربي .
أما منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها المنظمات الاجتماعية فقد
انحصرت فاعليتها في الشجب والتنديد وأحيانا التهديد المحتشم أو بعض التحركات
الجزئية التي لا تأثير لها في المعادلة السياسية والاجتماعية.. ويبقي الرأي العام
الشعبي الذي تخلت عنه نخبه في حالة بهتة ولامبالاة ترجمها بالعزوف عن المشاركة في
الانتخابات والتطبيع الاضطراري مع نقص المواد الأساسية والبطالة وتدهور المقدرة
الشرائية .
إن توازن العجز الذي يحكم الساحة الوطنية التونسية في هذه المرحلة مع
اللامبالاة الشعبية مع ضبابية المواقف الدولية وترددها ونفاقها أحيانا من شأنه أن يعمق
الفراغ السياسي الذي تردت فيه البلاد وقد يؤدي بها إلى الانهيار الاقتصادي لا قدر
الله في ظل صعوبة بناء معادلة سياسية جديدة إن لم نقل استحالتها دون فقدان للأمل
في قدرة التونسيين على السير على حافة الهاوية دون الوقوع فيها مثل ما يؤكده
تاريخهم الحديث وذلك بعودة الرشد للجميع في آخر المطاف وتدارك الأوضاع قبل فوات الأوان
بالجلوس إلى طاولة الحوار وتجنب المزيد من تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ وتشتيت
المشتت.
*كاتب وناشط سياسي تونسي