أتوقف كثيرا عند قراءة سورة البقرة وهي أطول سور القرآن
الكريم، ومع الآية الكريمة رقم 61 منها، حيث يقول المولى عز وجل: "وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ".
والإنسان دائما في حاجة إلى التفكير والاتعاظ من قصص
السابقين، وحتى على الأقل مجرد التأمل في معنى الآية الكريمة، فالآية الكريمة جاءت
في سياق الحديث عن بني إسرائيل وقصتهم مع نبي الله موسي عليه السلام، وكيف منّ
الله عليهم وأخرجهم وأنقذهم من قبضة فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم
ويعاملهم كالعبيد. ثم أخرج لهم الماء من الأرض الصحراء الحجرية، اثنتي عشرة عينا
ليشربوا منها، وأنزل عليهم المن والسلوى، وهي طيور السمان والعسل الحلو دون تعب أو
مشقة، كما جاء في كتب التفسير.
وهنا تبطر بنو إسرائيل على هذه النعم التي أنعم الله
عليهم بها دون بذل أي مجهود، وطلبوا البقل والعدس والبصل والفوم، وفي إحدى الروايات
تقول الثوم، وهي أطعمة أقل درجة من لحوم الطيور مثل السمان والعسل الحلو. لذلك قال
سيدنا موسى عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير، بمعنى أتريدون
الأقل قيمة وطعما وترفضون الذي هو خير وأفضل. وهنا نتأمل قليلا كيف للإنسان العاقل
أن يطلب الشيء الأدنى مع أنه يحصل على الشيء الأفضل والأعلى إلا أن يكون باطرا.
قضية البطر بالنعمة التي يرزق الله بها الإنسان هي قضية مخالفة للعقل، وهي تعني أن الإنسان عندما لا يؤدي حق النعمة التي يحصل عليها، فإنه يعتبر باطرا بها
وقضية البطر بالنعمة التي يرزق الله بها الإنسان هي قضية
مخالفة للعقل، وهي تعني أن الإنسان عندما لا يؤدي حق النعمة التي يحصل عليها، فإنه
يعتبر باطرا بها. وما نحن بصدده في الآية الكريمة أكثر من ذلك؛ لأنه يرفض النعمة
ذاتها ويريد استبدالها بما هو أقل منها قيمه وأكثر دناءة والعياذ بالله. فإذا كان
الذي يبطر بالنعمة أي لا يؤدي حقها فعاقبته الهلاك، كما في قوله تعالى: "وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا
نَحْنُ الْوارِثِينَ".
ولكن تبطر بنو إسرائيل كان أشد، حيث إنهم
طلبوا الذي هو أدنى ورفضوا الذي هو خير، فكانت عاقبتهم أنهم حكم عليهم بالذل
والمهانة وغضب من الله، وهذا هو عقاب من يبطر بالخير والنعمة التي أنعم الله عليه
بها ولا يؤدي حقها، وليس هذا فقط بل يطلب الأدنى منها.
هنا كان جواب كليم الله موسى عليه السلام:
اهبطوا مصرا. وهنا نتوقف أيضا لأن هناك عدة قراءات للكلمة، فالبعض (وهم الأكثرية)
يقول إنها "مصرا" من الأمصار، أي بلد من البلاد، والبعض (وهو الأقل)
يقول
مصر، وهي مصر الفرعونية التي خرجوا منها. وأيا كانت القراءة، فالمهم أنه في
البلد التي يعيشون فيها سيعيشون وهم أذلة ومذلولون، وكذلك ضربت عليهم المسكنة
والصغار والضعف والمهانة. وليس هذا فقط، بل باؤوا بغضب من الله سبحانه وتعالى -والعياذ
بالله- واستحقوا غضب الله عليهم، بمعنى أنهم انصرفوا من المكان الذي كانوا فيه وهم
يحملون غضب الله عليهم، واستوجبوا سخطه سبحانه وتعالى على ما قاموا به من البطر
بالنعمة التي أنعمها عليهم، بل وطلبوا الذي هو أدنى أو أقل عن الخير الذي كانوا
يرزقون به.
نتأمل ما يحدث في مصرنا -بلد المعز- اليوم من فقر وجوع وسرقات وانتهاكات للحرمات وتفش للظلم على المستويات كافة، وذلك على مدى السنوات التي اقتربت من العشر، ومع ما أطلق عليه بثورة 30 يونيو (2013) التي سماها البعض بأنها موجة ثورية ثانية بعد الموجة الأولى في 25 يناير (2011)
وعندما نتأمل ما يحدث في مصرنا -بلد المعز-
اليوم من فقر وجوع وسرقات وانتهاكات للحرمات وتفش للظلم على المستويات كافة، وذلك
على مدى السنوات التي اقتربت من العشر، ومع ما أطلق عليه بثورة 30 يونيو (2013) التي سماها البعض بأنها موجة ثورية ثانية بعد الموجة الأولى في 25 يناير (2011)، نجد
أن المصريين يعيشون درجات متزايدة من الذل والمهانة، بل نجد انحطاطا متفشيا في
أخلاقيات الشباب والفتيات في المجتمع وكأنه مقصود. هذا بالإضافة إلى سوء إدارة
الزمرة الحاكمة وفسادها، كما حجم القروض والديون التي تتزايد عاما بعد عام، بالإضافة إلى حجم الفوائد التي تتراكم عاما بعد آخر؛ حتى إن مجموعهما يكاد يقترب
من حجم الناتج الإجمالي للدولة، ناهيك عن سوء إدارة الطغمة الحاكمة وفسادها في
توظيف كل هذه القروض بما لا يحقق مصلحة الشعب المصري، بل يحقق مصلحة تلك الفئة
الباغية فقط، حتى وصلت مصر المعز إلى ما هي عليه الآن.. ولسه.
ومما يزيد من قتامة الصورة، دور دول
الخليج، سواء السعودية أو الإمارات أو قطر، ودعمها للنظام القائم في مصر، وهي في
الحقيقة تشتري مصر. وهذا يذكرنا بأيام الخديوي إسماعيل عندما باع مصر للأجانب من
خلال الديون التي تراكمت على مصر؛ من أجل عمليات التحديث التي قام بها في وقته ليكون
شبيها بالدول الأوروبية. ولكن الفرق الوحيد، أن الخديوي قام بالعمليات التي كان
يراها تحديثا فعلا، أما ما نعيشه هذه الأيام، فإن هذه الأموال تسرق بشكل علني
وصريح.
هذا يذكرنا بأيام الخديوي إسماعيل عندما باع مصر للأجانب من خلال الديون التي تراكمت على مصر؛ من أجل عمليات التحديث التي قام بها في وقته ليكون شبيها بالدول الأوروبية. ولكن الفرق الوحيد أن الخديوي قام بالعمليات التي كان يراها تحديثا فعلا، أما ما نعيشه هذه الأيام، فإن هذه الأموال تسرق بشكل علني وصريح
رحم الله الأيام التي كانت مصر تقوم فيها
بإرسال كسوة الكعبة مع مواسم الحج كل عام، والتكية المصرية التي كانت مفتوحة
للحجاج والمعتمرين على مدار العام في بلاد الحجاز، وكذلك بعثات المدرسين والأطباء
المصريين لمعظم البلاد العربية ومنها الخليجية، وكانت مصر تتحمل أجورهم خلال عملهم
بتلك الدول. كما لا ننس كيف كان السعوديين يسألون الحجاج المصريين عند وفودهم
لمكة المكرمة بالكلمة المشهورة "هلاله يا حاج". وهنا أتذكر كلمة للشيخ
عبد الحميد كشك رحمه الله في إحدى خطبه في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، فكان
يقول؛ "إن مصر غنية جدا، ودليل ذلك أنها تُسرق منذ أيام الفراعنة، ومع ذلك ما
نزال نجد ما يجعلنا نعيش عيشه كريمة في السبعينيات". ولكن الآن، فإن أكثر من 35
في المئة من الشعب المصري يعيشون تحت حد
الفقر، وتزيد النسبة في الوجه القبلي إلى أكثر
من 50 في المئة من السكان.
ويشغلني تساؤل مرتبط بالآية الكريمة من سورة
البقرة بما يحدث في مصر الآن، وهل هذا الذي نراه الآن هناك من مذلة وبؤس وفقر، هو
عقوبة من الله وغضبة سبحانه وتعالى عليهم لبطر المصريين على النعمة التي أنعمها
الله عليهم، وطلبوا الذي هو أدنى لاستبداله بالذي هو خير؟! الله أعلم. فلك الله يا
مصر.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.