مر حوالي 50 يوما
على
وفاة الأستاذ إبراهيم منير رحمة الله وجمعنا الله معه ومع باقي إخواننا ومن سبقونا
بالإيمان من الشهداء والصالحين في جنات النعيم وعلى سرر متقابلين، آمين يا رب
العالمين. لقد تعرفت على الأستاذ إبراهيم رحمه الله منذ ما يقرب من أربعين عاما عندما
كان ما يزال في الكويت وقبل ذهابه وانتقاله إلى أوروبا، عندما كنت في زيارة للكويت
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ثم تتالت اللقاءات في ألمانيا وعندما
استقر في
بريطانيا وتحمل مسئولية الأمانة العامة. وقد شاهدت الكثير من المواقف
التي أثبتت الأيام بعد النظر واتساع الرؤية للأستاذ إبراهيم رحمه الله، بالإضافة
إلى مدى قدرته على الصبر في مواجهة العديد من المواقف الصعبة، وكان الهدف الرئيس
هو الحفاظ على تماسك الجماعة واستمرارها في تحقيق أهدافها.
وسوف أكتفي بموقفين؛ أولهما عندما استلم الأمانة العامة
للتنظيم العالمي في نهاية الثمانينيات وكيف استطاع رحمه الله أن يقوم بتفعيل هذا
الكيان، وانتقل من مجرد رؤية إلى واقع حقيقي وذي نشاط واضح ومعترف به في مختلف
أنحاء العالم، بالإضافة إلى اتساعه ليشمل الكثير من الدول التي لا تنطق العربية
وانضمامها لهذا الكيان. وبالفعل كانت تحدث العديد من المشاكل وفي أقطار مختلفة،
ولكن عقلية وخبرة الأستاذ إبراهيم رحمه الله كانت قادرة على استيعاب هذه المشاكل
بشكل كبير.
كانت تحدث العديد من المشاكل وفي أقطار مختلفة، ولكن عقلية وخبرة الأستاذ إبراهيم رحمه الله كانت قادرة على استيعاب هذه المشاكل بشكل كبير
كما أنه رحمه الله استطاع أن يحمى الجماعة من الكثير من
محاولات أعدائها في استدراجها في كثير من الأقطار إلى مسارات ليست من فهم الجماعة
ولا دعوتها الأصلية. كما استطاع الأستاذ إبراهيم رحمه الله أن يقدم نموذجا لكيفية
إدارة الأنشطة المختلفة لهذا الكيان وأن تكون له علاقات متعددة بالحركات الإسلامية
على مستوى العالم، وأن تكون هناك أنشطة تجمع عدد من هذه الحركات في مختلف بقاع
العالم، مثل التعاون مع الجماعة الإسلامية في الباكستان وحزب الرفاه -السعادة- في
تركيا وقت المرحوم أربكان وغيرهما من الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي.
أما الموقف الثاني من المواقف العديدة التي تحسب للأستاذ
إبراهيم رحمه الله فهو دوره في التعامل مع مناقشة بريطانيا وضع
الإخوان على قائمة
الإرهاب بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو على الرئيس المنتخب في
مصر الدكتور محمد مرسي
رحمه الله. وبلا شك كانت هناك دول خليجية وغير خليجية تقف وراء هذه المحاولة من أجل
وصم جماعة الإخوان بالإرهاب وإبعادها عن الساحة وإنهاء دورها في نشر الفهم الصحيح
للإسلام.
ومن الواضح أنه قد تم الإعداد لهذه الخطوة جيدا، وفي
تقديري أنه بدأ الإعداد لها عندما قررت الجماعة المشاركة في مظاهرات 25 يناير،
والتي تم بعدها استدراجها للمشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2012
وتحملها
المسئولية دون سابق خبره وعدم التزام بمنهجية وخطوات التدرج من مرحلة الفرد وحتى
أستاذية العالم مرورا بالأسرة والمجتمع والحكومة والدولة. وتم الإعداد لهذه الخطوة
بتكليف أحد السفراء السابقين في الخارجية البريطانية بهذا المشروع، وقد قام
بالتحضير له لمدة أكثر من خمسة شهور وقابل فيها العديد من المسئولين وأصحاب الرأي
في هذا المجال في عدد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية.
ولكن ذكاء وحنكة الأستاذ إبراهيم رحمه الله ووعيه وخبرته
بمثل هذه المواقف استطاع أن يُفشل هذه المحاولة التي كان من المخطط لها أن تضع
الجماعة في دائرة الإرهاب على مستوى العالم، وتؤكد ما قامت به بعض الدول الخليجية
ومصر في هذا المسار. فبفضل الله تعالى ثم دور الذين شاركوا مع الأستاذ إبراهيم في
حوارات مجلس العموم البريطاني في هذا الخصوص تم إفشال هذه المحاولة، واستطاعت
الجماعة أن تتجاوز هذه المصيدة التي نُصبت لها وأن تستمر في أنشطتها على مستوى
العالم.
وكان من المخطط أنه إذا فشل مشروع الوصم بالإرهاب أن يتم
الاتجاه إلى التقسيم وشرذمة الجماعة إلى فصائل، كما يتم التعامل مع الكثير من
الجماعات سواء الإسلامية وغير الإسلامية. وقد حاول الأستاذ إبراهيم رحمه الله على
مدى السنوات القليلة الماضية أن يفشل هذه المحاولة بصبره وتحمله للكثير من
التجاوزات بشأن الجماعة.
جانب آخر من جوانب شخصية الأستاذ إبراهيم رحمه الله -قد
أشرت إليه من قبل- وهو في هذا كان مثل الكثير -إن لم يكونوا جميعهم- من الإخوان
الكبار الذين تربوا على منهج التربية الحقيقي للإخوان، وأنهم كانوا يقبلون
الاختلاف معهم في الرأي ويقبلون النصيحة. فمن حق الجميع أن يختلف مع موقف القيادة
ومع الأستاذ إبراهيم في إجراءات العمل أو في موقف من المواقف التي تتخذها الجماعة،
وهذا طبيعي بل في تقديري هو مطلوب، وإذا لم يتوفر فيجب البحث عن السبب.
كثيرا ما اختلفت مع الأستاذ إبراهيم أيضا كنت اختلف كثيرا مع الأستاذ عاكف رحمه الله، وهو كان المرشد حول العديد من المواقف التي كانت يتخذها الإخوان، وقبل ذلك مع الحاج مصطفى والأستاذ مأمون والأستاذ حامد أبو النصر رحمهم الله جميعا. ولم أذكر مرة واحدة أن تبرّم واحد من هؤلاء الإخوة الكرام
وكثيرا ما اختلفت مع الأستاذ إبراهيم أيضا كنت اختلف
كثيرا مع الأستاذ عاكف رحمه الله، وهو كان المرشد حول العديد من المواقف التي كانت
يتخذها الإخوان، وقبل ذلك مع الحاج مصطفى والأستاذ مأمون والأستاذ حامد أبو النصر
رحمهم الله جميعا. ولم أذكر مرة واحدة أن تبرّم واحد من هؤلاء الإخوة الكرام لأنني
اختلفت معه أو كنت أناقشه وأحاول أن أقنعه بوجهة نظري تجاه هذا الموقف أو ذاك، بل
في بعض الحالات كان الأخ الكبير ينزل على رأي شخصي الضعيف..
كما إنني شاهدت الكثير من المواقف التي اختلف فيها بعض
الإخوة الكبار معا، بل في بعض الحالات شاهدت وحضرت احتداد في النقاش بين بعضهم
البعض ومع ذلك لم أسمع أو أشاهد أن خاطب أحدهم الآخر باسمه مجردا دون كلمة أستاذ أو
دكتور أو الحاج، مع أنهم كانوا قرناء في العمر. وهذا ما تعلمناه وتربينا عليه
وشاهدناه، وهذا ما أسميه أنماط وأدبيات التعامل داخل الإخوان لا يعرفها إلا من
عايشهم.
كلمة أخيرة، لقد قابلت الأستاذ إبراهيم رحمه الله
قبل
وفاته بيوم، حيث كنت قد وصلت إلى لندن ظهر يوم الخميس 3 تشرين الثاني/ نوفمبر
الماضي وتحدثت إلى الأستاذ إبراهيم وأخبرته أنني في لندن، فقال لي إنه سوف يلتقي
معي في اليوم التالي، وهو الجمعة، بعد الصلاة، فقلت له إنني سوف أسافر صباح الجمعة،
فقال لي رحمه الله إنه سوف يلتقي معي نفس يوم الخميس عصرا، وبالفعل تقابلنا في
حدود الساعة الثانية من عصر الخميس وتناقشنا في الكثير من القضايا والمشاكل
القائمة، وقال لي إنه صائم وغادر في حدود الرابعة، وكان رحمه الله مهموما بالأوضاع
التي تعيشها الحركة في العديد من الأقطار.
وفي صباح اليوم التالي وهو الجمعة 4 تشرين الثاني/ نوفمبر
وقبل الذهاب للمطار، جاءني خبر وفاته رحمه الله وكنت آخر شخص من غير أفراد أسرته
قابل الأستاذ قبل وفاته، وبالتالي أخّرت السفر لحضور جنازته رحمه الله.
وخلال الفترة الماضية منذ وفاته قدمت إلى لندن أكثر من
مرة، وفي كل مرة أتذكر الأستاذ إبراهيم رحمه الله وأدعوا له، وأدعو الله عز وجل أن
يجمعنا معه وكل إخواننا في جنات النعيم، آمين يا رب العالمين.
وفي الختام، وداعا أستاذ
إبراهيم منير، وأسأل الله
سبحانه وتعالى أن يتقبل الأستاذ إبراهيم منير وأن يتجاوز عن سيئاته ويجمعنا معه
ومع كافة إخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وأن يظلنا الله بظله يوم لا ظل إلا ظله
سبحانه وتعالى، وأن يتقبله وجميع إخواننا من الصالحين. كما أدعو الله سبحانه
وتعالى أن يرزق هذه الدعوة المباركة بأجيال جديدة ربانية يحملون راية هذه الدعوة ويحققون أهدافها ويقيمون الشهادة على الناس، "وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" (سورة الروم).
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.