قال الشيخ القرضاوي رحمه الله إنَّ
الحرية
أولى من تطبيق الشريعة، وهي مقدمة عليه، فهاج شيوخ السلاطين، ولجّوا في عتو ونفور، ومنهم شيخ سوري له لحية تملأ صدره،
يفتي "وهو سايب يديه" ويشرب مشروبا لعله الزنجبيل، لأنه من أشربة الجنة،
جمع ثلاثين من فتاوى الشيخ، ومنها فتوى أسبقية الحرية على الشريعة، فندد بها ساخرا
في يوتيوب: انظروا إلى الشيخ الذي جعل الحرية قبل شريعة الله! ونسي شيخ الزنجبيل
أنّ الحرية هي حرية الله التي خلق الناس عليها، "ومتى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وقد يستعبد الناس بالشريعة أيضا، وقد استعبد النميري
الناس بالشريعة من غير حرية فكان ما كان، فكأننا في وقت حرب، فهي أعوام رمادة
متصلة. سلمنا يشبه الحرب، وفي الحرب تتعطل الحدود.
وكان الرفاق البعثيون قد جعلوا حصان الحرية قبل عربة
الوحدة،
أما الاشتراكية فهي البضاعة التي لم يذق الشعب منها سوى نقص في الأموال والأنفس
والثمرات.
ويعلم القارئ أن الرفاق البعثيين سرقوا عجلات العربة، واتخذوا
الحصان إما لسباقات الخيل مع الحمير، أو لفلاحة الأرض وزراعتها بالبطاطا. البعثيون
يحبون البطاطا كما يحب كاتب المقال الكباب.
أحبُّ -بعد الكباب- أن أطمئن رعايا الدولة العربية من
الصحراء إلى الصحراء، أنّ حزب البعث العربي جمع دولتين أو ثلاث دول العربية في ظله
الميمون في الصيف، وحول جمره الدافئ في الشتاء، لكنه لم يقدر قط على جمع الضرائر
الثلاث الحسان الوحدة والحرية، في عصمته، أما الضرة الثالثة، صغرى الضرائر،
الاشتراكية، فقد بانت وتأبّت من أول أيام الدخلة التي لم تتم، ليس على النظام
البعثي وإنما على أهلها الأُوّل أيضا.
قضت الاشتراكية المسكينة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي
حسرة، وكانت ميتة سريريا قبل سقوطه متعكزا على منسأته، ومن كثرة المتحرشين
والغاصبين من الرفاق الاشتراكيين وإخوة النضال، لأنَّ الرئيس الرفيق جعلها
"سبيلا" ووقفا للمناضلين، والسبيل عبارة عرفية تطلق على الوقف، ومال
الله المباح للناس، والذي بات اسمه المال العام، والمال العام مال خاص.
أما سبب استحالة جمع الوحدة والحرية في عصمة واحدة، فهو
أنّ الحرية تسبق الوحدة، فهي أجمل منها، والحرية لا يشيب لها شعر، ولا ينكسر لها
ظهر، ثغرها دوما بارد، وبطنها دائما والد.
لقد لاقينا أهوالا وشدائد من السعي لتحقيق الوحدة
العربية، وكان أول أهوالها وفظائعها اشتراط جمال عبد الناصر، فتى الوحدة العربية
الأسمر، إلغاء الحياة السياسية السورية، واستئصال الأحزاب السورية، وكان ذلك عندما
ركب أحد عشر ضابطا سوريّا، بعد سكرة وأقداح، طائرة وقصدوا القاهرة في ليلة قمراء،
من غير خطة لعب، ولا حارس مرمى، ولا جمهور، ولا كرة قدم، فعددهم عدد أعضاء فريق
كرة قدم، ومن غير إبلاغ الرئيس شكري القوتلي، فوصلوا إلى القاهرة بعد ساعة، وانتظروا
أياما حتى قبل الفتى الأسمر لقاءهم، فتضرعوا إلى الرئيس المصري أن يكون رئيسا لهم،
وأن يضم سوريا إلى مصر، فوافق الرجل بعد تمنّع وصدد، واشترط تدمير الحياة السياسية
في سوريا، ومنه أخذ تلميذه النجيب معمر القذافي شعار "من تحزّب خان".
فكان أن وقعت كارثة ما زال السوريون يعانون من عقابيلها وشرورها،
فشردت الأحزاب السياسية من أمامهم ومن خلفهم، وأممت الشركات السورية الرائدة، وطرد
مئات الالاف من العمال من أعمالهم، ووزعت أراضي الاقطاع على فلاحين أميين، وتحول
التعذيب في السجون إلى صناعة وطنية، وخسر السوريون الحرية التي كانوا يباهون بها
الأمم، ولم يحصلوا على ثمرة واحدة من ثمار الوحدة. ثم كان أن ضاق السوريون بسفرجل
الوحدة، فعملوا انقلابا بعد ثلاث سنوات مرة، لكن الذي كان قد كان.
لم يحصل أي بلد عربي على عنب الوحدة ولا بلح الحرية،
ولما شعر صدام حسين أن رفاقا من حزبه يريدون الاتحاد مع سوريا، جمع الأعضاء في
مؤتمر قاعة الخلد، وحكم عليهم بالإعدام في مؤتمر شهير متلفز، وكان يفتي بالإعدام
وهو يبكي ويدخن. ثم دارت الأيام وارتكب صدام حسين كبيرة الوحدة التي كرهها مع
الكويت بالقوة والإكراه، فضم الكويت إلى العراق، لـ"إعادة الفرع إلى الأصل"،
فدمرت أمريكا "الأصل"، وآذت "الفرع" كثيرا.
الحكام لا يتعظون من دروس التاريخ، ويضعون العربة أمام
الحصان، وأحيانا يقتلون الحصان، أحيانا أخرى يحمون العربة.
ولو كان بوتين فقيها في السياسة لأغرى الأوكران بالعيش
في ظله في الصيف، وحوّل نار غازه الوفير في الشتاء، لكن المقارنة بين الحياة في
روسيا والحياة في أوكرانيا تحكم للثانية بالسبق.
والقصد من هذه الديباجة هو القول بأولوية الحرية على الوحدة، وعلى الشريعة أيضا، وأن كل صيغ الوحدة كانت وبالا علينا،
وما تقرّب تركيا إلى مصر إلا بابا لمهلكة ومضيعة كبيرة، ذلك أن مصر اشترطت على
تركيا مهرا للتقارب، هو تسليمها اللاجئين المعارضين، وكانت الرؤوس مهورا سياسية
قديما وحديثا، فكان أن هاجرت المعارضة المصرية بقنواتها إلى لندن وغيرها، ويقال إن
مصير المعارضة السورية سيكون مثل المعارضة المصرية.
إن أجمل أيام حياتنا، التي باتت تسمى بأيام
الاستبداد
الجميل كانت في أيام الفرقة العربية، فكلما اختلف الزعماء العرب سعد رعاياهم
موالاة ومعارضة ونعموا، فمن لطائف الله بالعرب أن جعل حكامهم متخاصمين، معارضين
بعضهم لبعض، وكانت تلفزيوناتهم الرسمية منصة للمعارضة، فإعلام صدام كان بمثابة
قناة المعارضة الوحيدة التي يهجو فيها شعراء العراق حافظ الأسد، وكان أنور السادات
يبرد غليل المعارضين السوريين من توّلي علويّ شعبا من السنّة، وكان مبارك لله درّه
يصف الأسد بأنه خفاش ليل.
تعثر حلم مجلس التعاون الذي كان مقيضا له أن يكون مثل
الاتحاد الأوروبي وسقط على وجهه، وانتهى حلم لبنان السوري بشعاره الشهير "شعب
واحد في بلدين"، وتقطعت ليبيا إلى ثلاثة كيانات وسوريا إلى أربعة.. الوحدة
تحولت إلى توحد، وهو مرض معروف يسميه العامة الجنون.
إن التوادّ بين الرؤساء العرب ينذر بغمّ، وإن أجمل أيام
حيوات رعايا الممالك العربية كانت إبان خصومة قطر مع حلف لعقة الدم، أصحاب الشروط
الثلاثة عشر الشهيرة، وليس أطيب ثمارا من ثمار الأسرار السياسية العربية. لقد كانت
لخصومات الزعماء العرب فوائد، أما وحدتهم فمنذرة بالشرور وعظائم الأمور. يتربص
السوريون خوفا من تقارب مصري سوري، ومن عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية.
لقد كان مصاب سلمان العودة في دعوة وحدة بريئة دعاها فقال:
"اللهم ألِّفْ بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم".
والغالب أنه لم يُعتقل بسبب دعوة الإيلاف والوحدة بين الإخوة
الأعداء المصابين بالتوحد، وإنما بجرم الدعوة لخير الشعوب وحرية القول!
twitter.com/OmarImaromar