"خلف الأسلاك الشائكة"، عنوان شائع تنقصه
الجاذبية، لكنّ مؤلف الكتاب ياسر البحري اكتشف فيه أمريكا الأخرى، وجلّى غشاوة عن
العين. وقد رأى كاتب هذه السطور مئات الأفلام الروائية الأمريكية، وقرأ بعض المذكرات،
مثل مذكرات عبد السلام ضعيف "حياتي مع طالبان"، فلم يقع على مثل هذا
الكتاب في شرفه وقدره وأسراره، وظنّه أنّ ما كان يقع من ظلم وتعذيب لسجناء القاعدة
مخصوص بهم وحدهم، ووجد أن ما يقع لسجناء الجنايات ليس أقل سوءا وعسفا، بل إنهم
يتعرضون لنوعين من الظلم؛ ظلم السجانين وظلم المساجين.
البحري بمساعدة الويكيبيديا: هو طالب كويتي ابتعث لدراسة
الدكتوراة في الفلسفة في جامعة ولاية فلوريدا، فأنشأ مقهى "شيشة" شرقي
الطراز، فازدهر عمله، والازدهار يجلب الحسد، إذ اتهمته صبية أمريكية باغتصابها،
فاقتيد للقضاء، وحكم عليه بالحبس 15 سنة قضى منها ألف يوم في الانفرادية. وتنقل
ياسر خلال مدته سندبادا مصفدا بالأغلال بين سبعة سجون، وأكرمه الله بكثير من المعرفة،
عمل لها جدولا طريفا في كتابه، الذي يشبه كتاب أسد البحر العربي أحمد بن ماجد، بعد
تعديل عنوانه: "الفوائد في السجون الأمريكية والقواعد".
نُصّب في إحدى فترات سجنه خليفة لمسلمي السجن! وعقدت له
البيعة في سجن أو سجنين، أميرا تدين له رعيته بالطاعة، ويحرسه حرس، ويأمر وينهى،
بين عصابات متوحشة يبلغ عديدها سبعين ألف عصابة، وأحزاب مسيحية تعادي الإسلام،
أسست لمقاومة الإسلام في السجون، مثل مؤسسة "شارلي كولسين" الاحتباسية،
"لمقاومة انتشار الإسلام السرطاني في السجون"، وممولها هو مؤسس شركة
القتل الشهيرة بلاك ووتر.
كشف لنا وجها من وجوه أمريكا الكثيرة، وجه "العدالة الشاعرية" الذي يظنُّ القارئ أنه يعرف بعضه من الأفلام. فأمريكا ليست "أميستاد"، وهو اسم فيلم انتصر لسود خُطفوا من بلدهم
وإنّ عدد المساجين في أمريكا يقارب المليونين ونصف
المليون، سوى المقيدين بحظر التجول وعددهم عشرة ملايين، وهو عدد يفوق مساجين الصين
وروسيا معا.
أسلم على يده أكثر من 500 شخص من غير عدّة دعوية، وتمكن
من إنشاء عدة مكتبات إسلامية في السجون الأمريكية، فقد أبيدت المكتبات الإسلامية
في السجون الأمريكية بعد ضرب البرجين بالطائرتين اللتين نسبتا للقاعدة. كل كتاب
فيه كلمة جهاد أُحرق وقُذف في حاويات النفايات! فاستعان بأهله واشترى مئات
الكتب ودسّها
في مكتبات السجون، بحيل ذكرها في كتابه، كما تعلم اللغة الإسبانية ولغة الإشارة.
وكشف لنا وجها من وجوه أمريكا الكثيرة، وجه
"العدالة الشاعرية" الذي يظنُّ القارئ أنه يعرف بعضه من الأفلام.
فأمريكا ليست "أميستاد"، وهو اسم فيلم انتصر لسود خُطفوا من بلدهم، وقد وجدتني
بعد قراءة كتابه أردد مقولة كارل ماركس من غير إقرار بصواب قوله: "لقد جعلت
فلسفة هيجل تمشي على قدمين، بعد أن كانت تمشي على الرأس". ومثل ذلك: العدالة
حق في السينما باطل في الحياة. فالفساد هو الأصل والاستقامة شذوذ، الحق هو القوة،
العدل للأقوياء، العدل هو النصر.
وعلمت من الكتاب، وهو الأول في سلسلة من الكتب التي بلغت
أربعة وعشرين كتابا، أنَّ الأفلام الأمريكية تشبه الأفلام الهندية القذة بالقذة، والحافر
بالحافر، سوى أنَّ الأفلام الهندية القديمة تتصف بضروب الغناء وعروض الرقص، والأفلام
الأمريكية مثلها كذبا وتنميطا، وتستبدل عروض الرقص بمشاهد القتل والضرب.
الأفلام الأمريكية تشبه الأفلام الهندية القذة بالقذة، والحافر بالحافر، سوى أنَّ الأفلام الهندية القديمة تتصف بضروب الغناء وعروض الرقص، والأفلام الأمريكية مثلها كذبا وتنميطا، وتستبدل عروض الرقص بمشاهد القتل والضرب
أمريكا مؤلفة من اتحاد اثنتين وخمسين ولاية، سوى
الولايات التي حرمت من نعماء العدالة الأمريكية مثل الولايات العربية، وعددها اثنتان
وعشرون ولاية، وولايات أخرى غير عربية، فأمريكا هي حاكم العالم وبابها العالي. غير
أن ما يهمنا في مقامنا هي السجون والحرية والعدالة التي بها قوام المُلك وعماده،
وهي البضاعة التي تزعم أمريكا تصديرها للعالم مع أفلامها العنيفة وسجائرها
الفاخرة.
"العدالة للجميع" اسم فيلم ساخر، مثّل فيه آل
باتشينو دور محامٍ مغلوب على أمره، لا يقاس بما يرويه البحري، الذي حُكم عليه ظلما،
فوجدنا إجراءات دخول السجن تشبه السجون العربية. فقد أخذ حكام الولايات العربية
المحرومة من نعمة القوانين الأمريكية بمعظم قوانينها، من إذلال وضرب وإهانة. ويروي
الكاتب والسياسي منير شفيق في شهادة مصورة في برنامج "مراجعات" على قناة
الحوار؛ أنَّ ديبلوماسيا أمريكيا زار السجون الأردنية فوجد أنّ السجانين الأردنيين
يعاملون السجناء السياسيين -وهم أشراف المجتمع وقادته- باحترام وتشريف، يطعمون
معهم ويسمرون، فغضب وأمر بتعذيبهم.
ومن وجوه الشبه التي وجدتها -وهي كثيرة- أنَّ معظم
السجانين في السجون الأمريكية هم من بدو أمريكا وأريافها، وهو الحال في السجون
العربية. ونجد دليلا روائيا في السينما من فيلم البريء لعاطف الطيب، بل إن معظم
حكامنا هم من الأقليات حصرا، فأمريكا هي التي تولّي العرب ولاتهم وتملِّك ملوكهم.
ومن جوه الشبه متاهات البيروقراطية، وطول المحاكمات
المأخوذة عن الرومان. ويتسم الكتاب بالظرف والفكاهة، مذكرا بسخريات عزيز نسين وتشودمير
ونيقولاي غوغول، لولا ضعف أدوات الكاتب السردية، التي أوهت بعض طرائفه، وأخفت بريق
بعضها الآخر.
الكتاب من أجمل المفاجآت التي وقعت لي، قرأته في جلسة
واحدة، وأذهلني عن الرزق والولد، والحبيبة والبلد، وفيه عيوب غير قليلة، مثل
الأغلاط اللغوية والسردية والتعبيرية، وتشبيهات شائعة أضرت بالسرد، بعضها قليل
الأهمية مثل ذكره أرقام آيات قرآنية وكأنه يقدم بحثا للجامعة، وليته استعان بمحرر
لكان كتابه فريدا عجيبا، ولا يزال كذلك على عيوبه. والكتاب سلسلة لم أقرأ منها سوى
جزئها الأول، وسرده يتصف بالسرعة كما في الكتب التي تصنع منها الأفلام.
وكنت قرأت منذ فترة قريبة كتاب السجين السوري السابق
معبد الحسون "قبل حلول الظلام"، وأذكر أنه كان يعوق روايته للأحداث ادّعاء
للفصاحة والبلاغة في بعض المقاطع السردية التي تنبو عن أخواتها. وشاهدت عشرات
الشهادات لمساجين سوريين ومغاربة، ووجدت أنّ السجن السوري هو أظلم السجن وأنكاها، وما
يجعل شهادة السندباد الكويتي ياسر البحري فذة وفريدة من نوعها، أنها للسجون
الأمريكية التي لم نكن لنعرفها حتى لو رواها أمريكي، فالغريب لا يرى ما يراه
القريب.
شاهدت عشرات الشهادات لمساجين سوريين ومغاربة، ووجدت أنّ السجن السوري هو أظلم السجن وأنكاها، وما يجعل شهادة السندباد الكويتي ياسر البحري فذة وفريدة من نوعها، أنها للسجون الأمريكية التي لم نكن لنعرفها حتى لو رواها أمريكي، فالغريب لا يرى ما يراه القريب
لا تخلو الحكاية من ناج يرويها، سنّة الله التي خلت من
قبل.
يقول ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" إنه
يمكن معرفة المجتمع وأحواله من خلال نفاياته، وكذلك يمكن معرفة خصائص الحكم
والسياسة من سجوننا. وسمعت شهادات للسياسي السوري كمال اللبواني الذي كان يطلع على
بعض أسرار الساسة من علية القوم، وعلمت أنه اطّلع عليها من السجن الذي كان يضم في
حضنه الحنون كثيرا من الساسة، وأغلبهم يئنُّ ويشكو ويتخفف من الحبس برواية أخباره.
ليس أثقل من حبس السرّ في الصدور.
أسرار السياسة تعرف من مصدرين: القصور الذهبية،
والزنازين الحديدية.
سيجد القارئ صورة "نيجاتيف" للسياسة الأمريكية
في السجن الأمريكي، واحدة منها على سبيل المثال؛ أنَّ عائلة بوش احتكرت مطاعم
السجون، وهي تدرّ أرباحا طائلة.
في الكتاب إحصاءات عن عدد السجناء السود نسبة إلى عددهم
في القارة، وهو كبير، وإنّ عدد الذين يغيرون دينهم في أمريكا واحد من كل ثلاثة.
وقد ذكر المؤلف أن الحكومة الأمريكية تخصص سبعين دولارا
للسجين الأمريكي، ولا يبلغه منها سوى دولارين. ويمكن تذكر الإضراب الذي روى قصته
المرحوم القرضاوي في سجن طرة، احتجاجا على سرقة طعام السجناء ومؤنهم، فالحال يشبه
بعضه بعضا.
وعرفت ياسر البحري من فيديو مدته دقيقة قذفت به أمواج
الخوارزميات على ساحل صفحتي، وصدق فيه قول النبي يوسف عليه السلام: "وَقَدْ
أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاء بِكُمْ مِّنَ الْبَدْو".
وقد أحسن رب المؤلف به إذ أدخله السجن، فتعلم في كلية ما
لم يعلم، وآتاه علما وحكمة، وعلّمه من تأويل الأحاديث.
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْرا كَثِيرا.
twitter.com/OmarImaromar