هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يواصل الداعية والسياسي الجزائري عبد الله جاب الله، في هذه السلسلة من المقالات الفكرية، التي كتبها للنشر المتزامن بين "عربي21" وصفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، رصد ما يسميه بعوامل الضعف الذي أصاب حياة المسلمين الدعوية والسياسية.. وهي آراء تمزج بين الوصف والمراجعة، بالنظر إلى التجربة التي خاضها الشيخ عبد الله جاب الله كداعية وكناشط سياسي في الجزائر.
غياب الفقه الصحيح للاختلاف:
إنّ من الأسباب والمعوقات الكبيرة التي ساهمت في إضعاف التيار الإسلامي، وساعدت أعداءه وخصومه على النجاح في المكر به والكيد له، هو غياب الفقه الصحيح للاختلاف، وهذا الغياب مظهر من مظاهر الجهل بالدين وأحكامه التي جاء بها، فلو صح فهم أبناء التيار الإسلامي لدينهم، لعلموا أنّ الاختلاف المذموم بَيِّنٌ في القرآن، ولأدركوا قيمة ما قاله السادة العلماء، ومنهم العلامة الشيخ القرضاوي رحمه الله؛ حول الاختلاف المذموم، حيث قال:
1 ـ ما كان سببه البغي واتّباع الهوى، وهو الذي ذم اللهُ به أهل الكتاب وغيرهم، الذين دفعهم حب الدنيا، وحب الذات إلى الاختلاف، رغم قيام الحجة، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[البقرة: 213].
2 ـ الاختلاف الذي يؤدي إلى تفرق الكلمة وتعادي الأمة وتنازع الطوائف، ويلبسها شيعا ويذيق بعضها بأس بعض، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103]، وقال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:105].
ولو صح فهمهم للدين لعلموا أن الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة أوجبها الدين واللغة وطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة.
إن الله تعالى لم يجعل دينه وجهًا واحدًا، وصيغةً واحدةً لا تحتمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، ولم ينزله كله نصوصًا محكمات قاطعات الدلالة لا تختلف فيها الأفهام ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه محكمات هنّ أمّ الكتاب وفيه المتشابهات.
وفي ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ﴾[آل عمران: 7].
والله تعالى أنزل دينه ـ قرآنا وسنة ـ باللفظ العربي المبين، واللفظ العربي حمّال أوجه، وطبيعته متعددة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وفيها المنطوق والمفهوم، وفيها ما دلالته قاطعة وما دلالته محتملة؛ راجحة أو مرجوحة، وهكذا..
والله تعالى خلق البشر مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة وتفكيره المتميز وطابعه المتفرد، فمدارك الناس متفاوتة وقدراتهم العقلية مختلفة ومستويات علمهم كذلك، لذلك يختلف الناس ويكون لكل واحد تفكيره وميوله وذوقه ونظرته للأشخاص والأشياء والمواقف والعلاقات، وكل هذا من فضل الله تعالى ورحمته بعباده، وهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والدارس لآراء الصحابة والعلماء والزعماء في مراحل التاريخ المختلفة وفي واقع الناس اليوم يجد هذا الاختلاف، ويوقن أنّه من نعم الله تعالى على عباده.
يجب أن يعلم أن أمر الحياة فوق هذه الأرض لا يستقيم ولا ينتهي الناس فيه إلى التفاهم والتعاون الإنساني على ما يخدم الإنسانية ويرعى مصالحها، إلاّ بالاحتكام إلى شرع الله تعالى، والعودة إلى العمل بالكتاب والسنة..
كما أنّ طبيعة الكون والحياة أيضا مختلفة، وهذا بيّن ومشاهد لا يحتاج إلى شرح وتفصيل، فإذا وضعنا كل ذلك في معادلة، كانت النتيجة لا محالة التعدد والاختلاف، وأنّ ذلك من أهم مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، وقد ورد في الأثر: "اختلاف أمتي رحمة".
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: "ما يسرني أن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة".
ولو صح فهم أبناء التيّار الإسلامي لدينهم، لعلموا أنه جاء بالحق؛ ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ﴾، وأنه جاء بالتوحيد والهدى والصلاح، وما به يتحقق صلاح الناس وصلاح الحياة، ويتحقق به خيرهم في الدارين، وأنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يحكم بين الناس، فيكون شريعتهم وقانونهم الذي يحتكمون إليه، وينظمون حياتهم به، ويضبطون به سلوكهم وعلاقاتهم ومواقفهم، ولو فعلوا ذلك لتوحدت تصوراتهم ومناهجهم وطرائق عملهم في الجوانب التي أراد الله تعالى أن يتوحدوا فيها، ولتكاملت اجتهاداتهم في الجوانب التي أراد الله تعالى لهم أن يختلفوا فيها، فيكون اختلافهم اختلاف تنوع وتكامل، وبذلك يتم النجاح في أداء واجباتهم في خدمة الدين والأمة والوطن.
يجب أن يعلم أن أمر الحياة فوق هذه الأرض لا يستقيم ولا ينتهي الناس فيه إلى التفاهم والتعاون الإنساني على ما يخدم الإنسانية ويرعى مصالحها، إلاّ بالاحتكام إلى شرع الله تعالى، والعودة إلى العمل بالكتاب والسنة، وبدون ذلك يظل الاختلاف قائما بين البشر، ويستمر معه التنازع والصراع والتحارب الذي تسفك فيه الدماء وتستباح فيه الحرمات، وينتشر معه الاستغلال والفساد.
ضعف الفقه للضوابط في مسائل الاجتهاد والنظر وشروط الأمر والنهي وآدابهما، هو الداء العضال الذي ساعد على إضعاف التيار الإسلامي، وقعد به عن النجاح في خدمة الأهداف التي تأسس من أجلها، ولا دواء لهذا إلا بالعلم والتربية، "فإنما شفاءُ العِيِّ السؤال"!
وما يحصل للبشر حين يتركون العمل بالشريعة ولا يحتكمون إليها، يحصل شبيهه بين فصائل التيار الإسلامي وأبنائه حين يتركون العمل بشرع الله تعالى والاحتكام إليه في أعمالهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وما بينهم اليوم من تقاطع يصل أحيانا إلى حد التعادي، وما ينتشر بين بعضهم من غيبة ونميمة وسوء ظن، واستقواء أحيانا بالنظام لتحقيق مصالح موهومة، شواهد على مدى الخلل الموجود في فهم الدين والابتعاد عنه في الالتزام والمواقف والعلاقات.
إنّ إقامة الميزان والاهتداء إلى الحق والهدى في التصورات والمواقف والعلاقات، والقدرة على تحديد طبيعة المصالح والتقرير الصحيح فيها، لا يتأتى للبشر إلاّ بالاحتكام إلى شرع الله تعالى، لأنه يتطلب استعلاء فاعل ذلك على الحاجة وعلى النقص وعلى الفناء والفوت وعلى الطمع والغضب، وعلى الرغبة والرهبة، وتحرره من الهوى ومن الغفلة والنسيان، وهذه كلها ليست من مقدور البشر، وإنما هي من مقدور خالق البشر، فهو سبحانه وحده من لا إرب له ولا هوى ولا رغبة ولا رهبة ولا لذة ولا ضعف ولا غفلة ولا نسيان، ولا أية نقيصة من النقائص، فالله تعالى موصوف بكل كمال، وقد أنزل شريعته ليعيش بها عباده وينظموا بها شؤون حياتهم المختلفة، فإن هم عضوا عليها بالنواجذ هدوا ورشدوا في تصوراتهم وأعمالهم ومواقفهم وعلاقاتهم وجميع أنواع سلوكاتهم، بما في ذلك الجوانب والمجالات التي تركها الله تعالى للاجتهاد والنظر، وحمّل ذوي الأهلية العلمية الاجتهاد فيها لاستنباط الحكم الشرعي المناسب في المسألة الفرعية المستجدة في حياتهم، بالاعتماد على الأدلة الأصلية.
ومحال أن يتعثر الاجتهاد في هذا النوع من المسائل أو يسوء أو يقود إلى التنازع والتضاد، إذا مورس ضمن الإطار العام الذي حددته الشريعة وشرحه علماء الأصول.
إلاّ أن ضعف الفقه للضوابط في مسائل الاجتهاد والنظر وشروط الأمر والنهي وآدابهما، هو الداء العضال الذي ساعد على إضعاف التيار الإسلامي، وقعد به عن النجاح في خدمة الأهداف التي تأسس من أجلها، ولا دواء لهذا إلا بالعلم والتربية، "فإنما شفاءُ العِيِّ السؤال"!
وقد استغل النظام شيوع مثل هذه المفاهيم الخاطئة والأمراض المهلكة فأحسن استغلالها في محاربة القيادات الثابتة على مبادئها الرافضة للترويض، العاملة على جعل السياسة مصالح يحكمها ويوجهها ويحميها الحق والعدل.