هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"أثنى عليَّ بما علمتِ فإنني سمحٌ مخالقتي إذا لم أظلمِ"
عنترة بن شداد العبسي
علينا بتعلم العيش معا كإخوة وأخوات، وإلا سنموت جميعا كأغبياء.
مارتن لوثر كينگ
في منحنى تجديد وإعادة بناء ثقافة السلام والتسامح:
العولمة، كما يلزم أن نفترض، هي أشبه ما تكون بكوكب فارغ قابل لأن يحيا وينتعش بالعطاءات الهوياتية المرتبطة أساسا بأخلاق الاستعراف البيني والتشارك البناء. وبالتالي فإن الثقافات لا يمكنها إقامة معنى لوجودها بالمحاكاة والتبعيات التبخيسية، بل بتكوين شخصيتها الهويتية وتنمية سبل بلوغها الفعلي والمسؤول مرتبةَ العالمية، وإلا فإن الهوية المهيمنة ستكون هوية القوى المهيمنة المضادة لقيمة التسامح، وسيحكم على غالبية الساكنة الأرضية بإنشاء وجودها على الاستيراد المطرد والسعي إذن إلى انتحال ثقافة الآخرين بالاقتباسات والتقمصات. وحتى لو اعتبرنا هذا الصنف من الوجود محتملا، فإن سريانه يبقى رهينا بعلامات الاصطناع والكوميديا الحزينة، وممثلوه مكتفون بحياة النقب في صحون الغير، محرومون من أي نوابض ذاتيةٍ إبداعية.
إجمالا، مثل التبعيات المستعبَدة اللامنتجة كمثل المديونيات، كلما راكمتها بلدان إلا ورهنت مستقبلها وأضعفت محركات تنميتها الذاتية... إن التبعية التي يعتقد بعض رهبان "العولمة السعيدة" (من صنف ألان مينك) أنها أمست متقادمة أو غير ذات مضمون، نرى على العكس أنها ما زالت جارية على نحو متخفٍّ ولين (soft)، ولكنها في إواليات الكبح والحجر بالغة الإجرائية محكمتها، لا يعمى عن إدراكها إلا من تعود على تمارين الانخداع أو اعتبار رغباته حقائق.
في الاتجاه نفسه، أنسنة العولمة معناها ما يلي:
أ ـ علاوة على ضرورة فك الارتباط بدكتاتورية السوق، يلزم وضع توازن في العلاقات بين رأس المال والشغل داخل البلدان وعلى الصعيد العالمي؛ ومؤدى هذا إقامة قوانين اقتصاد تضامني، عادل وخاضع لحكامة جيدة، اقتصاد يصاحبه ويديره مجلس أمن اقتصادي متفرع عن هيئة الأمم المتحدة.
ب ـ إحلال تلك القوانين ذات البعد الإنسوي محل نظام الأسواق العالمية المستبدة والتنافسية السائبة والرأسمالية القاتلة (killer capitalism)، وهو نظام يُعرض من طرف منشئيه كقدر مقدر مشخِّصٍ للنسق الاقتصادي الأوحد الذي لا بديل له.
ث ـ تبني اقتصاد أخضر وتصنيع غير ملوث وطاقات متجددة، وذلك للتأثير أساسيا على التنمية المشتركة والتجارة العادلة، مما يفضي إلى ترقية حياة اليسر للأفراد والجماعات والتعايش الجيد البناء.
ج ـ انفتاح تدريس العلوم والاقتضاد ومواد التدبير والتسويق على تعليم الإنسانيات والفنون والأخلاق، دينية كانت أم لائكية.
باستيفاء هذه المقومات، ضمن أخرى، يمكن للعولمة، كنظام شمولي عقلاني متفاوض عليه، أن تكسب الإنخراط الإيجابي لغالبية ساكنة الأرض وأقطارها، وترسخ تبيئة القيم الإنسية التي من أبرزها وأعلاها شأنا ما سميناه الحوار التسامحي.
خاتمة.. التسامح أعز ما يطلب
إن مفهوم التسامح الفائق الرواج من طرف أوساط سياسية ودينية وإعلامية، خليق بنا أن نعيد التفكير فيه، حتى يتم تخليصه من التوصيفات السلبية، الظاهرة منها والمضمرة، كالعطف والشفقة والتحمل، وكلها تفضي بنحو أو بآخر إلى مواقف الإزدراء أو اللامبالاة. ففي اللغة اليونانية القديمة لا وجود في العهد الهيليني لأي مرادف للكلمة اللاتينية tolerancia؛ وفي المقابل نجد فيها كلمتين أكثر غنى وعمقا هما: homonoia (التوافق، التقاسم) وthymos، (الاستعراف). وكلها ألفاظ متماهية مع قولة عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: "الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق".
أما اللغة العربية، فإن لكلمة تسامح طابعا مائزا متفوقا من حيث صيغتها التفاعلية، فلا يتسنى ترجمتها إلا بكلمة تكون محدثة أو مولدة في لغات أخرى، أي intertolerance، ويحسن ربطها بكلمة اليسر في الدين الإسلامي الحنيف. وفي هذا المنحى، لعل السرخسي، شارح الفقه الحنفي في المبسوط، أجاد وأفاد حين سجل: "الاستحسان ترك القياس إلى ما هو أوفق للناس، وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة، وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة". ومحصّل هذه العبارات النيرات أنه إيثار اليسر على العسر، وهو أصل في الدين، كما في مضمون الآية الكريمة ﴿يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة/185)، وفي قوله عليه السلام: "خير دينكم اليسر". واليسر نقيض الغلو واللاتسامح.
إن مفهوم التسامح الفائق الرواج من طرف أوساط سياسية ودينية وإعلامية، خليق بنا أن نعيد التفكير فيه، حتى يتم تخليصه من التوصيفات السلبية، الظاهرة منها والمضمرة، كالعطف والشفقة والتحمل، وكلها تفضي بنحو أو بآخر إلى مواقف الإزدراء أو اللامبالاة.
وعليه، فالنضال من أجل التسامح بمعانيه اليونانية-العربية لهو نضال طويل النفس والأمد. وإذا كان الوعي بتبنيه وتنظيره أوروبيا يعود إلى فلاسفة الأنوار خلال وقوفهم ضد حروب الأديان والمؤسسة الكنيسية، فلا بد أيضا من الإشارة عند الكثير منهم (باستثناء جان-جاك روسو) إلى تهميشهم وسوء تقديرهم لسيكولوجيا الشعوب "البدائية"، أو على صعيد آخر إلى ازدواجيتهم المتقلبة بإزاء الإسلام، خصوصا عند فولتير الذي وضع كتيبا في التسامح؛ غير أن موقفه يبدو متأرجحا بين التنويه بالنبي محمد عليه السلام وبالإسلام في كتابه Essai sur les mœurs أو في مادة "محمديون" من قاموسه الفلسفي، وبين النفور من نبي الإسلام والتشهير به، كما في عمله الأول محمد، وهو المسرحية التي افتتحها برسالة موجهة إلى البابا بونوا الرابع عشر قائلا: هذا العمل أكتبه عن مؤسس فرقة مزيفة بربرية una falsa et barbara setta".
من جهة أخرى، ما دامت الحدود بين الأخلاق والسياسة والإيديولوجية غامضة ومتحركة، فإن العمل على الذات يبقى أمرا لازما باستمرار، وذلك حتى يتقي كلٌّ منا خطر الركون إلى أي سبات دوغمائي، من شأنه أن يوقنه أنه هو المشخص للتسامح حقا وأن اللاتسامح هو من فعل الآخرين. ومن جهة أخرى، فإن فولتير المؤمن بوجود الله (déiste) قد اتسم فكره ومواقفه بنوع من اللاتسامح العنيف ضد الكنيسة والدين عموما.
ومن جهة أخرى، في ظل الواقع اللغوي السيّار وما يعتريه من فوضى عارمة، كم يطالعنا، حتى على صعيد الوطن الواحد، استعمال إسهاليٌّ مفرط لألفاظ مثل التعدد الذي قد يصير قددية أي مُفسدَ كل حوار تسامحي إيجابي مثمر إذا ما أسيئت معرفيا مراقبته وإدارته. ففي وسط مبلقنٍ سياسيا وحامل لكسور ثقافية بينة، وبمحضر قنوات تواصل مهشمة، فإن ذلك اللفظ مثلا كعلامة غنى مفترض، لا يعدو أن يكون محارة فارغة ويافطة خادعة، تترتب عليه عواقب وخيمة، منها أن الحق في مرادفه الاختلاف (difference) المطلوب بالهتاف والإلحاح باسم التعدد، يتحول في الممارسة الفعلية إلى حق في اللامبالاة (indifference)، وبالتالي إلى التمهيد للخلاف المستعصي بل للكراهية بين الذوات ولخطابات البارانويا والانطواء الفصامي.
والحال أننا في هذا المجال نواجه أيضا تصورات سائبة ولا منتجة، بحيث تؤول إلى إقامة حيطان عازلة بين الأوعاء الجماعية وحتى الفردية، لعلها الأخطر من سواها، وذلك بسبب انتمائها إلى دوائر الرمزي والنفسي. وكذلك الأمر مع لفظ التنوع حين لا يتمخض عن التمثل المفهومي وعملية الفكر، إذ يغدو مسخا وعامل سلبٍ لأنموذج التنوع البيولوجي نفسه (biodiversity)، فيولِّد عناصر مرضية من طبيعتها أن تنخر، كسرطان، جسم مجتمع كله بتعريضه لمخاطر شتى: تفكك العلائق وتقطعها، إحتقان قنوات التواصل والتبادل، تفشي التنابذ والتصامم والتباغض، وسوى ذلك من الـمضاعفات المفضية إلى مجتمع متشظٍّ، ضعيفِ التماسك والتضامن.
وهكذا يصير فيه مفهوم الوحدة أو الاتحاد مخفَّضا، بل مهملا وغير مُدْمَجٍ ومبرمج، هذا في حين أنه في البلدان المتقدمة يقوم كعُملة قوية وإسمنت استمساكي، وكغاية مثلى في حد ذاتها. وبالتالي فمن دون التسامح التواصلي وفي إدامة نفيه أو تغييبه، فإن الناس يصح عليهم ما قاله الأديب البرتغالي فرنالدو بيسووا: "هل تصورتِ مرة، يا اختلافيتي (ô ma Différente)، كم نحن لامرئيين بعضنا لبعض؟ هل فكرت مرة إلى أي حدٍّ يجهل بعضنا البعض؟ إننا نتبادل النظرات من دون أن ننظر حقا، ونتسامع لكنْ كل واحد لا يسمع إلا صوته الذي يوجد في عمق نفسه".
إن الأخطر في الأمر أن تلك الألفاظ جميعها، المعلّبةِ الجاهزة، تُخِلُّ بمفهوم الهوية نفسها كمفهوم محوري تأسيسي، وذلك بالترويج لما يسمى "الهوية المتنوعة المتعددة" من طرف جهات تقسيمية متنفذة، علاوة على النزعات الطائفية والعشائرية ودعاتها الذين لا همَّ لهم ولا مبتغى إلا تعطيل الهوية الإجماعية وطاقتها التسامحية وإفراغها شيئا فشيئا من نوابضها الحيوية، ومن مناعتها المكتسبة ومقوماتها التاريخية والثقافية واللغوية الثرية العميقة.
والمستخلص أن مفهوم التنوع الحق، وقس عليه مفهوم التعدد الخلاق لا الخراق، هو ما يمكننا تعريفه كقانون إطار حيث التواصل التعارفي والتبادلي على أساس قيمه التسامح يكون بمثابة قاعدة لا يستقيم سيرها ووظيفتها إلا بضمان السواسية أو الندية الفعلية. وعليه، فإذا كان العلم من دون وعي أخلاقي عبارة عن خراب الروح كما قال فرنسوا رابلي، فكذلك الأمر في دينك المفهومين، إذا جردا من البعد التواصليِّ الملازم والتناسج المقويِّ اللاحمِ الرتقي.
إقرأ أيضا: التسامح وشرائط الإنجاز.. نقاش حول دعائم حوار الثقافات (1من2)