هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يزعم الكاتب الكولومبي ماركيز، وهو روائي صاحب حكمة
ونظر، في راويته خريف البطريرك، أن كل طاغية يعادي جنسا من الحيوان، يهابه أو
يرهبه أو يتطير منه، غير جنس شعبه، فيسعى لاستئصاله، فإن صحّ قوله فإن العرب
القدماء ليس عندهم طواغيت.
والمشاهير يقولون حِكما ولهم آراء تصيب وتخيب، فالفن مثل
الحرب خدعة، ولا يكون الفنُّ فنا إلا بالمبالغة والتهويل، لكن التقديس هو نقيض
التدنيس وقرينه، فلا يكون هذا إلا بذاك، ويرقّ البرزخ الفارق بينهما حتى يتحدان
أحيانا، وقد يتبادل المدقس والمدنس المنازل على شكل مناوبات.
وقد بالغ بعض المؤرخين في وصف الحجّاج بالطاغية، وظلموه
ظلما كبيرا، ولم يكن يعادي جنسا من الحيوان وعرقا من الإنسان. والأسباب طائفية،
فقد كان الرجل يحكم العراق، وهو الذي وطّد الحكم لبني أمية.
وقد ازعم معارضا ماركيز على طريقة الشعراء في المعارضة،
وهو قول قصيدة على القافية نفسها في معنى مخالف، فأقول إن كل طاغية يقدّس حيوانا،
مخفيا أو معلنا، همسا أو جهرا، فإن لم يفعل قدّس الذئب في نفسه، أما في حالة حافظ
الأسد، فقد أغنى اسمه عن عبادة ملك الغابة.
أخبرتنا كتب التاريخ أن عمر عبد العزيز سنّ سنّة كريمة،
وهي إطعام الحيوان البهم والطير والسباع في رؤوس الجبال، وهي سنّة قديمة عند
العرب، فكانوا يذبحون على الأنصاب، لا يردّ عنها بشر أو طير أو سبع، ولم يكن شاعر
عربي يبدأ قصيدته إلا بحبيبته ثم يثني بمطيته، الحبيبة هي الأول، والحيوان المحل الثاني.
وقد عمل كاتب السطور بستانيا، فما أكثر أوراق الشجر في
أوربا، وهم يجمعونها في ألمانيا في حاويات، تخدم بها البلدية صاحب كل حديقة، فيجمع
الورق في مرابع ويخمّر وينتج منها الغاز، أو قد تطحن لتسميد الشجر. وإن غرامة قطع
الشجرة كبيرة في ألمانيا؛ حبس طويل مع غرامة هائلة، وكان الأمر كذلك في سوريا التي
تقلُّ فيها الأشجار إلا في مناطق الموالين الجبلية، بل إنَّ حافظ الأسد زعم أنه فرض
الأحكام العرفية من أجل حماية الغابات، وكان لها عيد وطني مثل الجلاء والثامن من
آذار. وشجرة العيد شجرةٌ مثمرة، فمنها تصنع أحلى الثمار مثل الهراوات والكراسي،
لكن لم يقدّس في سوريا حيوان سوى الأسد حسب علمي وخبرتي!
والألمان يرفقون بالحيوانات ويكرمونها، والأوربيون عموما
ينفقون أموالا طائلة على الحيوانات، تبلغ ميزانية ثلاث دول عربية اشتراكية سابقا،
والأوربيون يقدّسون الكلب والهرة أكثر من تقديس الهندوس للبقرة، والفرق هو في
التديّن والمناسك. ولي جار متقاعد لا يفعل شيئا سوى رياضتين صباحية ومسائية وإطعام
العصافير، وليس له قطة أو كلب أو عنوان، ويعيش وحيدا من غير أن يقرأ أحد له الفنجان،
ويشتري أقفاصا من حرّ ماله ويعلقها في حديقته.
لم يبق من سنّة عمر بن العزيز الأموي ذكر إلا عند
الأعاجم مثل الترك الذين يطعمون الحيوانات في رؤوس الجبال في أيام الثلج، ويعطفون
على الكلاب، وعلى الهررة أكثر من عطفهم على الكلاب، فإسطنبول تزدحم بستة ملايين
كلب، وقد غدا الكلب مشكلة سياسية، فالكلب أحد خصوم أردوغان، وكانت كلاب إسطنبولية قد
قتلت طفلة تركية، وأوردت الأخبار صورة سيدة تركية تثور في وجه شرطي يقف أمامها
عاجزا وهي تضربه، دفاعا عن كلب، كان يريد إيواءه في حديقة حيوان، فاعترضت السيدة
التركية المعارضة.
تقلّ عند العرب المعاصرين حدائق الحيوان، ولا أعرف في
سوريا حدائق حيوان، وكان في حمص حيوان وحيد هو الطاووس في حديقة الدروبي محبوسا في
قفص، ويهتف في غير مناسبة: نعم للأسد، ونترجمها نحن: يسقط الأسد.
ولا حديقة حيوان من دون أسد، ولعل هذا هو سبب عدم وجود
حديقة حيوان في سوريا. وهناك طرفة قديمة لم تعد مضحكة تقول إنّ مجلس الشعب هو
حديقة حيوان سوريا، أما ياسر جلال المصري، فجرف حديقة الحيوان في القاهرة، لأن
الحديقة تذكّر الشعب بحيوان الشيتلاند، واسمه في مصر السيسي، وها قد عدنا إلى ماركيز
ومعاداة تقديس من الحيوان أو تدنسيه.
لباب القول:
افتتح بالأمس كلاوس شاوب مؤتمر قمة العشرين، وهو اقتصادي ورجل أعمال
ألماني، ورئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، فبشّر العالم بدين جديد
لم يذكر أركانه. وإنّ العقائد ستتغير تغيرا كبيرا، وكانت العقائد تتغير قديما على
موجات، وبشرنا بأنها ستنقلب انقلابا!
يتحدثون في الأخبار عن سلاسل التوريد الصينية تبريرا
لارتفاع الأسعار وينسون سلاسل أولى، وهي السلاسل البيولوجية بين الحيوان النبات
والجماد، فثمة حرب ناعمة تشتد ضراما بين أكَلَة اللحوم وأكَلَة النبات. والحرب
يقودها النباتيون، بالبرامج ووسائل الاتصال والمظاهرات في الشوارع، ويزعمون أنَّ
دخان طبخ اللحوم يوسع ثقب الأوزون، وقد علمنا أنّ حكام العالم مالوا إلى النبات
طعاما، فهم يوظفون النباتيين في المناصب الكبرى، خذ مثال رئيس وزراء بريطانيا
الجديد ريشي سوناك الذي احتفى بالبقرة المقدسة في بريطانيا البروتستانتية، ووجدنا
له صورة وهو يتحدث وأربعة من الرؤساء واقفين يسمعونه بخشوع، كأنه إمام!
لا يمكن إقناع الناس بأن أكل النبات أنفع من أكل الحيوان،
وهي لا تكفي البشر، ولا تغني من جوع، فالصينيون يأكلون كل شي، ويبلغون خُمس سكان العالم،
وهم سادة العالم الجديد، ويصعب تصور العالم الحر نباتيا. مهما يكن فقد تحولت شعوب
عربية إلى شعوب نباتية بالجوع كرها مثل مصر وسوريا وتونس، فالقاعدة الأولى في
الطغيان هي الحاجة كما جاء في رواية 1984. لقد عدنا إلى أول معركة بين قابيل المزارع
وهابيل الراعي!
لقد جهر قادة العالم بعقائدهم الجديدة، بعد أن كانوا
يخفونها بالأزياء، فأضحت الثياب الممزقة زيا شائعا، وخضنا معركة الطربوش والعمامة. والأزياء تعبير خارجي عن النفس، لكن صناع الشعوب، مصممون هذه المرة على تغيير
النفوس والعقائد من غير مواربة أو كناية. فالطعام عقيدة، وأيديولوجيا، والطعام
كبير الأثر على النفس حسب ابن خلدون، فآكل النبات أطوع من آكل اللحم، فالنبات كائن
أخرس، أعرج، ودمه أخضر لا يثير الفزع، ويمكن استخدامه حطبا للتدفئة في الشتاء،
ووقودا في الحرب والسلم.
twitter.com/OmarImaromar